احمد
منذ 5 سنوات

الشبهة حول خلافة الامام علي عليه السلام

لقد وجدت هذا في أحد المنتديات, فما ردّكم عليه؟ ************************* إذا فرضنا أنّ الإمامة نص عليها الله تعالى, ورسوله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فنجد الآتي: 1- أنّ عليّاً(كرّم الله وجهه) رفض أن يصبح خليفة بعد استشهاد عثمان بن عفّان. 2- أنّ عليّاً(رضي الله عنه) أصبح وزيراً في عهد أبي بكر الصدّيق, فهذا يخالف النصّ. 3- أصبح عليّاً(كرّم الله وجهه) والياً عند فتح المقدس والشام في عصر عمر. فماذا يعني لك النصّ في الولاية؟! هل تعتقد بمن استطاع أن يخترق بصره عرش الرحمن (والعياذ بالله) والثرى في الأرض, أن يعجز أن يأخذ الولاية؟ فماذا يعني لك النصّ بالولاية؟! هل تعتقد بمن فتح خيبر بضربة سيفه, حتّى عجز جبريل(عليه السلام) أن يمسك يده, لكي لا يصل سيفه إلى سابع أرض.. بعاجز أن يأخذ الخلافة؟! فماذا يعني لك النصّ بالولاية؟! هل تعتقد أنّ عليّاً(كرّم الله وجهه) بعاجز؟!. *************************


الأخ احمد المحترم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته إنّ ما ذكرت فيه عدّة تساؤلات, أو إن شئت فسمّها إشكالات: أوّلها: وهو لماذا رفض عليّ(عليه السلام) الخلافة بعد مقتل عثمان؟ وهذا ما سنأتي إلى تفصيله. ثانيها: أنّ عليّاً(عليه السلام) أصبح وزيراً في عهد أبي بكر. وهذا كذب محض لا يسنده أي شاهد تاريخي ضعيف، فضلاً عن أن يكون صحيحاً.. فعليّ بن أبي طالب(عليه السلام) لم يصبح وزيراً في يوم من الأيام لأبي بكر، أو عمر، أو عثمان, وهذه افتراءات وتقوّلات جاءت من أتباع ابن تيمية. ثالثها: أصبح عليّ(عليه السلام) والياً لبيت المقدس عند فتحها في عهد عمر. وهذا من المضحكات.. فهو مثل سابقه دعوى لا دليل عليها, وزوبعة كلام يتشدّق بها أتباع ابن تيمية, بلا سند أو عمد, كشيخهم الذي كثرت ادّعاءاته بدون سند ولا دليل. الرابعة: الربط بين فضائل عليّ بن أبي طالب(عليه السلام)، وخصوص الشجاعة منها، وبين عدم أخذه للسلطة ومغالبته عليها. وبتعبير آخر: الاتّكاء على نظرية الاستبعاد؛ فإنّ من كان في الشجاعة ما يذكر له(عليه السلام) في الفتوحات والحروب, كيف يُغلب؟! وكيف يؤخذ حقّه في السلطة؟! وهذا الاعتراض متوقّف على فهم الإمامة في القرآن الكريم والسُنّة المطهرة, والتي بنى عليها المذهب الشيعي الاثني عشري أُسسه, والأخ صاحب هذا المقال باعتبار كونه يعيش ذهنياً في نظرية مدرسة الخلفاء التي صوّرت الإمامة مساوية للحكومة والسلطة, فلأجل ذلك يحتاج تفهيمه إلى شرح ما, وبيان للموضوع. أمّا التساؤل الأوّل: وهو لماذا رفض عليّ(عليه السلام) الخلافة بعد مقتل عثمان؟ الجواب: إذا رجعنا إلى الوراء قليلاً وسرنا مع الأحداث, نعرف السبب الذي دعا عليّ(عليه السلام) أن يرفض. وإليك بيان موجز من ذلك: الإمامة التي يطرحها القرآن الكريم والسُنّة النبوية والتي سار عليها المذهب الاثني عشري, تعني رئاسة عامّة على أُمور الدين والدنيا, أي: القيومية الكاملة من قبل شخص، وهو الذي يسمّى إمام على سائر المخلوقات, وهو المتصرّف لأُمورهم الدينية والدنيوية, أي: هو العارف بالأحكام والمبيّن لها, والذي يسوس الرعية, وهو الذي يحملها على ما يراه, قال الله تعالى مخاطباً إبراهيم(عليه السلام): (( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهدِي الظَّالِمِينَ )) (البقرة:124), وقال تعالى: (( ثُمَّ أَورَثنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصطَفَينَا مِن عِبَادِنَا )) (فاطر:32), وقال سبحانه وتعالى: (( وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ )) (الزخرف:28), وقال تعالى: (( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم رَاكِعُونَ )) (المائدة:55), إلى غيرها من الآيات الكثيرة الناطقة بالولاية والإمامة والخلافة الإلهية. ومن الواضح أنّ هذه الخلافة لا تساوي الحكومة بالمفهوم الذي فسّرته مدرسة الخلفاء للإمامة, وذلك واضح في القرآن الكريم, إذ أنّه جعل إبراهيم إماماً مع أنّه لم يكن حاكماً ولم يستلم حكومة بعد, فالإمامة لو كانت بمعنى الحكومة التي نفهمها الآن لَما كان إبراهيم إماماً، مع أنّه إمام ولم يكن حاكماً, فمن ذلك نفهم أنّ الإمامة القرآنية تعني: السلطة الواقعية على الكائنات والتصرّف في شؤونها الدينية والدنيوية, وأنّ الحكومة السياسية هي وظيفة من وظائف الإمامة، وشعبة من شعبها, فالإمام فيه اقتضاء وقابلية الحكومة، وأنّ المفروض على الرعية تسليم الأمر إليه.. ولهذا يظهر الفرق واضحاً بين الإمامة العامّة (المطلقة)، التي هي جعل من الله ولا دخل للإنسان فيها, بل هي من مختصّات حكومة الذات الإلهية المقدّسة؛ فالله هو المعيّن للإمام لا غير, وبين السلطة والحكومة؛ فإنّها تعني: التصرّف بشؤون الناس السياسية، فتحتاج إلى بيعة ومناصر، وتحتاج إلى مؤازر, ولأجل ذلك أخذ الرسول الأكرم محمّد(صلّى الله عليه وآله وسلّم) البيعة لعليّ(عليه السلام) يوم غدير خمّ؛ فإنّ سرّ أخذ البيعة هو ذلك. هذا مفهوم الإمامة عندنا, وبه يتّضح الفرق بين مذهب الشيعة الاثني عشرية ومذهب مدرسة الخلفاء؛ فإنّهم فسّروا الإمامة بما يساوي الحكومة التي نعرفها بمعناها اليوم. وأمّا مصداق الإمامة, وأنّ مَن هو الإمام؟ فهذا تحدّده السُنّة النبوية المطهّرة, والسُنّة النبوية بيّنت أنّ الإمام بعد النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو: عليّ بن أبي طالب(عليه السلام), كما في حديث الغدير المتواتر، والذي يقول فيه النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (مَن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه). وكذلك في أحاديث أُخرى كثيرة, تشير إلى ما لا ريب فيه ولا مناقشة تعتريه, ومنها: ما أخرجه الحاكم في (المستدرك) وصرّح بصحّته (1) .. وكذلك صحّحه الذهبي المتعصّب (2) , والحديث هو: ((قال ابن عبّاس: وقال له رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (أنت وليّ كلّ مؤمن بعدي ومؤمنة).. وكذلك ذكره الترمذي في سننه (3) وصرّح الشيخ ناصر الدين الألباني بصحّته في كتابه (صحيح سنن الترمذي) (4) , وأيضاً صرّح بطرق عديدة للحديث في (سلسلة الأحاديث الصحيحة) (5) . وهذا الحديث يقصم ظهور القوم؛ إذ لا يمكنهم تأويله بالمحبّة أو النصرة؛ لأنّ معنى ذلك: أنّ عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) يحبّ المؤمنين وينصرهم بعد رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم), ولو على نحو السالبة الجزئية, أي: بعض المؤمنين يحبّهم وينصرهم بعد الرسول لا في حياته.. وهذا يشهد القرآن والسُنّة والتاريخ بكذبه؛ لأنّ عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) كان وما زال، منذ بعث النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى يوم استشهاده، ناصراً ومحبّاً للمؤمنين. هذا عرض موجز لمفهوم الإمامة الكلّي وشخصها الجزئي يمهّد لنا الدخول في الموضوع. فبعد اتّضاح معنى الإمامة, وأنّها تنصيب من الله سبحانه, وأنّ الإمام إمام, تسلّم السلطة أو لا, كما في حديث النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) المعروف في حقّ الحسن والحسين(عليهما السلام)؛ إذ قال: (الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا) (6) . فعلى ذلك, يأتي سؤال: لماذا رفض الإمام عليّ(عليه السلام) بيعة القوم بعد وفاة عثمان, مع أنّه منصّب من الله, وأنّ الظرف تهيّأ للحكم والسيادة؟ الجواب: إذا رجعنا إلى الفترة التي أعقبت وفاة النبيّ الأكرم(صلّى الله عليه وآله وسلّم), نعرف ذلك.. فبعد أن ظهر قوله سبحانه وتعالى للعيان واتّضح: (( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَد خَلَت مِن قَبلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَاتَ أو قُتِلَ انقَلَبتُم عَلَى أَعقَابِكُم وَمَن يَنقَلِب عَلَى عَقِبَيهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيئاً وَسَيَجزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ )) (آل عمران:144), وانقلب الأمر على آل بيت النبيّ, وصدق قول النبيّ الأكرم(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كما يرويه عليّ(عليه السلام) حينما قال: (قال لي رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إنّ الأُمّة ستغدر بك بعدي) (7) , فأخذها أبو بكر وابن الخطّاب من عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) مدّعين الشورى، وأنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يوصِ، في حين لم يحضر الشورى كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار، كعليّ(عليه السلام)، والعبّاس، وطلحة، والزبير، وعمّار، وأبو ذرّ، وسلمان، والمقداد، وغيرهم؛ إذ لم يحضرها من المهاجرين إلاّ ثلاثة نفر، فأخذ الأمر وزُحزح عن عليّ(عليه السلام) إلى أبي بكر. فصار الإمام(عليه السلام) بين أمرين: إمّا أن يقاتلهم على الخلافة، التي هو أحقّ بها, أو يصبر. ومن المعلوم أنّ الدخول معهم في معركة لم يكن صالحاً للإسلام, بل يقضى عليه وتذهب أتعاب النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعليّ(عليه السلام) خلال السنين السالفة هباءً منثوراً؛ وذلك لكثرة المنافقين في المدينة وحولها، قال الله تعالى: (( وَمِمَّن حَولَكُم مِنَ الأَعرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِن أَهلِ المَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعلَمُهُم ... المزید )) (التوبة:101), وقال تعالى: (( إِذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ... )) (المنافقون:1), وقال تعالى: (( وَمِنَ الأَعرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيهِم دَائِرَةُ السَّوءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )) (التوبة:98). إذاً، المبرّر لسكوت عليّ(عليه السلام) هو: وجود المنافقين في المجتمع الإسلامي, وكانوا بكثرة, ويشكّلون قوّة لا يُستهان بها, وهم يتربّصون بالمسلمين الفلتات والزلاّت. ولو نازع أمير المؤمنين(عليه السلام) القوم لكان في ذلك فرصة لهم لضرب المجتمع الإسلامي والإسلام, وإرجاع الناس إلى الجاهلية الأُولى.. فحفاظاً على ذلك، لم يدخل أمير المؤمنين(عليه السلام) مع القوم في نزاع, وصبر على خلافة الأوّل, وعلى خلافة الثاني. أضف إلى ذلك أنّه لم يدخل معهم في وزارة أو إمرة, بل كان معتزلاً عنها, ومن يدّعي أنّه تولّى أمراً أو استوزر من قبل الخليفة, فهو كاذب لا مستند تاريخي له. إلى أن وصل الأمر إلى الثالث, وبوصولها إليه ابتعد المسلمون كثيراً عن الخط الذي رسمه النبيّ(عليه السلام), ووضح شرخ الانحراف داخل المجتمع، بخلافه على زمن الأوّل والثاني, فإنّ الانحراف لم يكن بالمستوى الذي وصل إليه في خلافة عثمان؛ لأنّ عثمان بن عفّان ولّى بني عمّه على الأمصار وعزل الصحابة الأخيار, وولّى الطلقاء الذين هم من المنافقين والذين لم يُسلموا, بل استسلموا خوفاً على دمائهم, لا رغبة في الإيمان, فهؤلاء عندما ولاّهم عثمان عاثوا في الأرض الفساد, واستعبدوا العباد, وغيّروا السُنّة, وبدّلوا الشريعة.. فلذلك رفض أمير المؤمنين(عليه السلام) البيعة؛ لأنّه لو كانت الخلافة جاءته بعد عمر لكان هناك مجال واسع لإصلاح الانحراف الذي خلفه أبو بكر وعمر, فلذلك دخل الأمير(عليه السلام) في الشورى, الذين عيّنهم عمر, وأمّا بعد تولّي عثمان الخلافة فإنّ الانحراف وصل إلى أوجِه, بحيث لا ينفع معه إصلاح ولا تعديل, فلذلك رفض أمير المؤمنين(عليه السلام) البيعة، وقال لهم: افعلوا بها كما شئتم, فكما قدّمتم الأوّل والثاني والثالث علَيَّ فالآن لا حاجة لي بها قدّموها إلى غيري, واطلبوا لها غيري يسايرها مع هذا الانحراف؛ لأنّه إذا أخذها عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) لا تستطيعون أن تسيروا حسب ما يريد، ولا تطيقوا تعاليمه التي هي تعاليم القرآن؛ لأنّه غرس بنو أُمّية في نفوسهم تعاليم الجاهلية وأبعدوهم عن تعاليم الإسلام, فلذلك لا يستطيعون مسايرة الإمام واتّباعه, وهذا ما عرفه الأمير(عليه السلام) من البداية، فلذلك قال لهم: (دعوني والتمسوا غيري) (8) . وإليك هذان النصّان التاريخيان، يوضّحان ما قلناه ويشهدان عليه: 1- روي عن ابن عبّاس أنّه قال: ((دخلت على عمر يوماً فقال لي: يا بن العبّاس لقد أجهد هذا الرجل نفسه في العبادة حتّى نحلته رياءً. قلت: من هو؟ فقال: هذا ابن عمّك ـ يعني عليّاً ـ.. قلت: وما يقصد بالرياء أمير المؤمنين؟ قال: يرشّح نفسه بين الناس للخلافة. قلت: وما يصنع بالترشيح, قد رشّحه لها رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فصُرفت عنه. قال: إنّه كان شابّاً حدثاً فاستصغرت العرب سنّه، وقد كمل الآن, ألم تعلم أنّ الله تعالى لم يبعث نبيّاً إلاّ بعد الأربعين. قلت: يا أمير المؤمنين, أمّا أهل الحجى والنهى، فإنّهم ما زالوا يعدّونه كاملاً منذ رفع الله منار الإسلام, ولكنّهم يعدّونه محروماً مجدوداً. فقال: أما أنّه سيليها بعد هياط ومياط, ثمّ تزلّ فيها قدمه, ولا يقضى فيها أربه, ولتكونّن شاهداً ذلك يا عبد الله, ثمّ يتبيّن الصبح لذي عينين, وتعلم العرب صحّة رأي المهاجرين الأوّلين الذين صرفوها عنه بادئ بدء)) (9) . فانظر إلى قوله: ((سيليها بعد هياط ومياط)), أي: تصله مضطربة قد نخر فيها الفساد نخراً, وانحرفت أشدّ الانحراف, فلا يستطيع أن يصنع فيها شيء, فلذلك ستلفظه لعدم طاقتها له!! 2- لمّا ضرب عمر بن الخطّاب، قال الإمام(عليه السلام) لقوم من بني هاشم: (إن أطيع فيكم قومكم من قريش لم تؤمّروا أبداً). وقال للعبّاس: (عدل بالأمر عنّي يا عمّ - يقصد عمر بن الخطّاب ــ). قال: وما علمك؟ قال: (قُرن بي عثمان, وقال عمر: كونوا مع الأكثر، فإن رضي رجلان رجلاً ورجلان رجلاً، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف, فسعد - يعني سعد بن أبي وقّاص - لا يخالف ابن عمّه - يعني عبد الرحمن - وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفان, فيولّيهما أحدهم الآخر, فلو كان الآخران معي لم يغنيا شيئاً). فقال العبّاس: لم أدفعك إلى شيء إلاّ رجعت إلَيَّ مستأخراً بما أكره, أشرت عليك عند مرض رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن تسأله عن هذا الأمر فيمن هو؟ فأبيت, وأشرت عليك عند وفاته أن تعاجل البيعة، فأبيت, وقد أشرت عليك حين سمّاك عمر في الشورى اليوم أن ترفع نفسك عنها ولا تدخل معهم فيها, فأبيت, فاحفظ عنّي واحدة؛ كلّما عرض عليك القوم الأمر فقل: لا, إلاّ أن يولّوك, واعلم أنّ هؤلاء لا يبرحون يدفعونك عن هذا الأمر حتّى يقوم لك به غيرك, وأيم الله لا تناله إلاّ بشرّ لا ينفع معه خير. فقال عليّ: (أما إنّي أعلم أنّهم سيولّون عثمان, وليحدثنّ البدع والإحداث، ولئن بقي لأذكّرنّك، وإن قتل أو مات ليتداولنّها بنو أُمّية بينهم, وإن كنت حيّاً لتجدنّي حيث تكرهون), ثمّ تمثل: حلفت بربّ الراقصات عشية ***** غدون خفافاً يتبدون المحصّبا ليجتلبنّ رهط ابن يعمر غدوة ***** نجيعاً بنو الشداخ ورداً مصلّباً (10) فكلمة: ((والله لا تناله إلاّ بشرّ لا ينفع معه خير...))، و(تداول بني أُمّية لها), هو الذي يوضّح سرّ رفض الأمير(عليه السلام) للبيعة. وأمّا التساؤل الرابع, وهو: الاستبعاد، وأنّ مع شجاعة الأمير(عليه السلام) المشهورة، كيف يستطيع القوم أن يغلبوه بها؟ فالجواب: اتّضح جلياً أمره, وأنّ المسألة لم تكن مسألة شجاعة وإظهار القوّة, وإنّما مسألة بقاء الشريعة وذهابها, فهناك، كما أسلفنا، المنافقون من الصحابة, وهناك المحيطين بالمدينة من الأعراب المنافقين والذين يتربّصون الدوائر بالمسلمين, ويتحيّنون الفرصة التي يرون ضعف المسلمين بها حتّى ينقضّوا عليهم ويرجعوهم إلى الجاهلية. فهنا ليس حرب مع المشركين كي يبرز لها عليّ(عليه السلام)، كما برز في الحروب والغزوات, بل هنا انحراف في داخل المجتمع, وهنا أنفس مريضة في داخل المسلمين والمجتمع المدني, فيحتاج التعامل معه إلى حنكة وخبرة أكثر ممّا يحتاجه من إبراز العضلات والضرب بالصمصام, فلذلك لم يكن بدّاً لأمير المؤمنين(عليه السلام) إلاّ الصبر أمام هذا الانحراف والتنازل عن الحقّ ما دام في ذلك حفظ بيضة الإسلام, وبقاء كلمة لا إله إلاّ الله على رؤوس الأشهاد ولمدى الأجيال. وعليّ بن أبي طالب(عليه السلام) هو ربيب البيت النبوي, والنبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) ربيب ربّه؛ إذ الله الذي قام بتربيته وتأديبه, فعليّ(عليه السلام) ينتهي أدبه وتعليمه إلى الله سبحانه وتعالى, وحاشاه أن يجبن أو يضعف, لكن الظروف حكمته والمجتمع المنحرف خان به, فلذلك لم يكن له طريق غير الصبر، كما أشار إليه في خطبته الشقشقية: (فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجى، أرى تراثي نهبا) (11) . فالمسألة تحتاج قبل الحكم عليها إلى تأمّل ودراسة, ولا يكفي الجلوس خلف المنضدة وقراءة كتاب أو كرّاس, ثمّ الحكم على وقائع تاريخية مرّ عليها أربعة عشر قرناً, فإنّ العاقل الباحث لا يفعل ذلك, بل التأمّل ودراسة الأحداث بموضوعية هو الحلّ الوحيد. فهناك مجتمع فتي في أوّل نشأته وأوّل ظهوره بعد جاهلية عمياء طالت قروناً من الزمن, لم تتعمّق في نفوس أفراده أثار التغيير الذي أحدثه النبيّ الأكرم في أفكاره وسلوكيّاته، وهذا المجتمع الناشئ فيه الكثير من المنافقين والذين في قلوبهم مرض, ومن حوله من الأعداء الذين يتربصون به السوء, وعليّ بن أبي طالب(عليه السلام) لا ترتضيه قريش والقبائل الحليفة لها؛ لأنّه ضرب خراطيمهم حتّى أسلموا, وهو الذي أذلّهم بعد عزّهم, وهو الذي قتل فرسانهم ورجالاتهم, ففي أنفسهم عليه الأحقاد, كما أشار عمر بن الخطّاب إلى ذلك في الحديث المتقدّم الذي نقلناه. فعلى ذلك، لا مفرّ من ركوب أمرين لا ثالث لهما، إمّا أن يقاتل عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) على حقّه الشرعي, وفي ذلك تحطيم للمجتمع الذي جهد النبيّ الأكرم(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في بنائه طيلة 23 سنة؛ لأنّ المنافقين وممّن حول المدينة سيجدون في اضطراب أهل المدينة الفرصة لتحقيق أهدافهم التي يصبون إليها منذ سنين, وبالتالي سيؤدّي ذلك إلى ذهاب الإسلام وذهاب الحقّ الشرعي العلوي معه. وإمّا أن يصبر على الظلم, ويكون بذلك حقّق شيئاً وخسر شيئاً, حقّق بقاء الإسلام، وأغلق الباب أمام المنافقين للانقلاب على المجتمع الإسلامي, وخسر خلافته ومنصبه الإلهي الذي كان به يحمل الناس على طاعة الله. فالطريق الثاني، وهو الصبر، أولى؛ لأنّ فيه بقاء الإسلام الذي نافح وكافح عليّ(عليه السلام) طيلة حياته في تشييد دعائمه وإقامة أركانه, خلافاً للطريق الأوّل وهو القيام والمطالبة بالحقّ؛ فإنّ في ذلك هدم الإسلام وفتح الباب للمنافقين وغيرهم لضرب المجتمع الإسلامي، وهذا ما يكون فيه الوبال على الإسلام والمسلمين, الذين منهم عليّ بن أبي طالب(عليه السلام), فلذلك قال(عليه السلام): (فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجا)، أي: الصبر على غصب الخلافة وتحمّل الظلم أرجح عقلياً, وأشدّ صواباً. ودمتم في رعاية الله

3