هيثم - مصر
منذ 5 سنوات

وجود الحجة في كل مكان أو زمان

ما دام لا يتوفّر وجود حجّة في كلّ مكان، فهذا يعني أنّ الحجّة قد لا توجد أيضاً في كلّ زمان، فلماذا توجبون وجود حجّة في كلّ زمان وعدم وجودها في كلّ مكان؛ إذ توجد بعض المناطق التي لم تصل إليها وجود الرسول أو الأئمّة أو الكتب والروايات؟


الأخ هيثم المحترم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته سوف نجيب على سؤالك في مستويات عدّة نتدرج فيها من الأسهل إلى الأصعب: إنّك تدّعي التلازم بين لا بدّية وجود إمام في كلّ زمان ووجوده في كلّ مكان، حتّى إذا انتفى أحد اللازمين انتفى الآخر! ولكن التلازم لا يقع إلاّ بين علّة ومعلول، أو معلولين لعلّة ثالثة، ومن الواضح أنّه لا علّية ولا معلولية بين لا بدّية الوجود في كلّ زمان وبين الوجود في كلّ مكان، فلا بدّ لك إذا أردت تصوير الملازمة بينهما من إثبات علّة واحدة لهما، أي: أنّ علّة لا بدّية وجود إمامٍ في كلّ زمان تؤدّي إلى ثبوت وجوده في كلّ مكان؛ لأنّ العلّة واحدة فيهما، وهذا لا يمكن المصير إليه! وقبل أن نذكر علّة لا بدّية وجود الإمام في كلّ زمان وعدم علّيتها لوجوده في كلّ مكان، نبيّن أنّ هذه الشبهة قد ذكرها القاضي عبد الجبّار المعتزلي في (المغني)، وأجاب عنها مفصّلاً الشريف المرتضى علم الهدى في ردّه عليه في كتابه (الشافي)، والشيخ الطوسي في (تلخيص الشافي). ثمّ نحن نقول: أنّه لا بدّ من وجود إمام في كلّ زمان؛ لأنّ الإمامة لطف في الدين عقلاً، أي: لطف في التكليف العقلي (فعل الواجبات وترك المقبحات) لا بدّ منه، ودليلنا على ذلك: أنّ الإنسان المدني بالطبع متى ما لم يكن عليه وعلى غيره من الناس رئيس مبسوط اليد قادر حاكم يدبّر أُمورهم ويقوم بسياستهم، اضطربت أُمورهم، وخربت دنياهم ومعيشتهم، وعلا بعضهم على بعض، يأكل القوي منهم الضعيف، وعمّ الظلم والفساد فيهم، وكثر الفجور والمعاصي عندهم.. ومتى كان فيهم رئيس انتظمت أُمورهم وتقوّمت سياستهم، وقلّت فيهم الفتن، وعمّهم الرخاء، وكانوا إلى الصلاح أقرب، وعن الفساد أبعد، وفي هذا ما لا يخفى من صلاح الدين والدنيا.. وهذه الحاجة هي علّة وجود إمام في كلّ زمان، فالوجوب يدور مدار وجود الحاجة، والحاجة تثبت وجوب وجود رئيس في الجملة في كلّ زمان بحيث يرفع الحاجة، وهي غير ناظرة إلى كون الرئيس واحد أو متعدّد، وإنّما العقل يحكم بوجود رئيس وإمام كلّما وقعت الحاجة إلى ذلك، والحاجة مستمرّة باستمرار الزمان؛ لعلمنا بحال الناس وعدم عصمتهم في كلّ العصور. ثمّ إذا ثبتت الحاجة لوجوده في كلّ مكان، نلتزم بذلك لعدم الاستحالة فيه، وهو ممكن، ولكن الإمكان لا يكفي للإلزام كما هو واضح، إذ لا بدّ من إثبات الوجوب واللابدّية كما أثبتنا وجوب وجوده في كلّ زمان؛ إذ الدليل لا يدلّ إلاّ على أنّ وجوب وجود الرئيس والإمام يدور مدار الحاجة، وهي ثابتة في كلّ زمان، وأمّا ثبوتها في كلّ مكان، فيكون على وجهين، هما: وجود الإمام والرئيس بشخصه في كلّ مكان، أو وجود عدّة رؤساء في كلّ مكان، ووجود الإمام بشخصه في كلّ مكان مستحيل مادة، فلا بدّ من تدارك الحاجة بوجود عدّة رؤساء في كلّ مكان، وهذا الذي قلنا أنّه أمر ممكن، إذ الدليل لا يوجبه وإنّما يثبت أنّ وجوب الإمام والرئيس يدور مدار الحاجة وحسب المصلحة، فإذا قام دليل في شريعتنا على أنّ الإمام واحد في الزمان وقام الدليل العقلي على أنّ الحاجة ترتفع بوجود إمام واحد معصوم، يقوم برفعها بما ينصّبه من ولاة وأُمراء ونوّاب عنه، وهو قائم عليهم من خلفهم يسدّدهم وإنّ في ذلك تمام المصلحة، انتفت هذه اللابدّية المدّعاة لوجوده في كلّ مكان. فظهر من كلّ ذلك أنّ التلازم المدّعى في السؤال لا واقع له؛ إذ أنّ العلّة، وهي: الحاجة إلى الإمام، يمكن أن ترتفع مع وجود إمام واحد في الزمان له ولاة ونوّاب ينوبون عنه في كلّ مكان؛ فلاحظ! ثمّ إنّ هذا الإشكال سيّال على من قال: بوجوب قيام الأُمّة بنصب إمام في كلّ وقت عقلاً من غير الشيعة، ولا يختص بالشيعة؛ إذ لا يفترقون عن غيرهم إلاّ بقولهم: بوجوب نصبه من قبل الله عزّ وجلّ لعصمته؛ فتأمّل! هذا وأعلم أنّ قولنا: بوجوب وجود حجّة في كلّ زمان، يستند على خصوصية معنى: (الحجّة) وفرادته؛ فالزمان أوفق بالمراد من تلك الخصوصية والفرادة، لا المكان؛ لأنّ القول: بوجوب وجود حجّة في كلّ مكان، إن فُهم على ظاهره، أخلّ بالخصوصية والفرادة التي لوحظت في الحجّة؛ فإنّ لازم ذلك: أن يكون في كلّ مكان مكان من الأرض حجّة، أي: في كلّ شبر منها حجّة، فنصبح أنا وأنت بل وكلّ الناس حجج، فعلاوة على عدم جواز ذلك من الناحية الفعلية الواقعية باعتبار أن ليس كلّ أرض الله مسكونة بالناس؛ فالصحارى والبحار خالية من البشر، فإنّه غير جائز أيضاً من الناحية المنطقية؛ إذ أنّ الناس المنتشرين في أرض الله لو كانوا كلّهم حججاً لانتقض مفهوم الحجّية من أصله؛ لأنّ الحجّة من الناس هو المجعول في مقام هدايتهم حال ضلالهم، ومن تكون له فيهم منزلة يصحّ معها مراجعتهم له حال تنازعهم، لكي يرفع ذلك التنازع فيما بينهم. والحجّة في اللغة بمعنى: الدليل والبرهان، وقيل: هو الوجه الذي يكون به الظفر عند الخصومة، وإطلاقه على الإنسان من جهة حيازته للدليل ومقدرته على الظفر ظاهر، ومن هنا تتّضح فرادة وخصوصية معنى الحجّة، وينكشف سرّ عدم خلوّ الزمان منه. ومن جهة ثانية فإنّ الزمان في سياق هذه العبارة لا يراد منه الزمان القياسي، أي: الوقت، فالظاهر أنّ المراد هو: العصر أو الزمان بلحاظ حياة الناس في أمد محدود بمتوسّط عمر الإنسان، إذ إنّ وجود الحجّة في كلّ زمان معناه: وجوده في كلّ عصر ملحوظ فيه جميع المتعاصرين من بني البشر لا يشذّ عنهم أحد، ولازم ذلك: أن يكون المكان مضمّناً في المعنى، وإن لم يكن هذا اللازم بيّناً. وإن أُريد منه: وجود حجّة في كلّ بقعة من الأرض، بلدة أو ناحية أو ولاية، وكانوا كلّهم حجج، لأخلّ بالفرادة لمعنى الحجّية أيضاً، ولانتقض بعدم وجوده في جميع أماكن البلدة ولكلّ فرد فرد، فإن قيل: بأنّهم يستطيعون الوصول إليهم فرداً فرداً لقربهم أو بواسطة، لزال الفرق بينهم وبين وجود حجّة واحدة على الأرض، خاصّة في مثل زماننا هذا بعد أن قربت الأماكن وقصرت المسافات بما أحدثته التكنلوجيا من ابتكارات، ولأمكن الاستعاضة عن مثل ذلك بنوّابه وأُمرائه في الزمن السابق، فالإمام الحجّة يوصل إليهم وهم يوصلون إلى الناس. كلّ ذلك على مستوى الدليل الظاهري المستفاد من اللغة والاصطلاح، ونتيجته قاضية أنّ خلوّ المكان من الإمام ممكن بلحاظ تعدّد الأمكنة، لا خلوّه من المكان مطلقاً؛ إذ أنّ وجوده مثلاً في العراق يصدق معه أنّه موجود على الأرض، فلم تخلو الأرض منه، وأي صرف للمعنى إلى الاستغراق لجزئيات المكان يترتّب عليه التناقض، كما أثبتنا. ولكن للجواب شقّ فلسفي إن وفّقت لإدراكه وفّقت لخير كثير، وهو: إنّ الإمام - كما ثبت في محلّه - هو العلّة الغائية لخلق الكون؛ لأنّه أشرف الكائنات، وأنت تعلم أنّ القاعدة الفلسفية القائلة: بأنّ الأخس إذا وجد فلا بدّ أن يسبقه في الوجود ما هو أشرف منه، ويطلق على هذه القاعدة (قاعدة إمكان الأشرف)، ويتبيّن منها: أنّ الحجّة، وهو أشرف الكائنات، لا يمكن أن يرتفع مع وجود الأخسّ؛ فثبت أنّه لا بدّ أن يكون موجوداً في كلّ حين، لئلا يترتّب عليه الإخلال بتلك القاعدة العقلية، وأنت تعلم أنّ القاعدة العقلية لا تقبل التخصيص؛ ففي تخصيصها نقضها. ولو سلّمنا جدلاً بأنّ القول: بعدم خلوّ الزمان من الحجّة دون المكان، هو ترجيح بدون مرجّح، كما تريد أن تثبت أنت في سؤالك، فإنّه يمكن أن يقال: إنّ المعتبر في مقام وجود الإمام هو: وجود نفسه الطاهرة، المهيمنة على كافّة الآفاق والأكوان، لا خصوص وجود بدنه الطاهر، والنفس الملكوتية، كنفس الحجّة(عجّل الله فرجه)، لا تتقيّد بشروط الزمان والمكان، فوجودها في زمان ما كناية عن جميع الأكوان، أي: أنّ لفظة (الزمان) في العبارة إنّما هي إشارة إلى السعة الملكوتية للأنفس المقدّسة الطاهرة التي تطوي جميع الأمكنة والأزمنة. ولكي يتّضح لك المقصود أكثر، سنضرب لك مثلاً بالملائكة(عليهم السلام)، وذلك من جهة اختصاصهم بالهيمنة على ما أُنيط بهم من أدوار تستدعي أن لا يخلو منهم زمان ولا مكان، فمثلاً عزرائيل(عليه السلام) فإنّه الملك الموكّل بقبض الأرواح، فلو أنّ كارثة وقعت كزلزال، أو أظهر من ذلك: انفجار قنبلة ذرّية، إذ يهلك في ثوانٍ قليلة أكثر من مائة ألف إنسان، فكيف يتمكّن عزرائيل(عليه السلام) الحضور عند جميع من هلك لقبض روحه في نفس الآن لولا سعة وجوده الملكوتي الذي لا تقيّده الأمكنة والأزمنة. وإن أبيت إلاّ أنّ لعزرائيل(عليه السلام) أعوان أرسلهم لأجل انجاز هذه المهمّة في جميع الأمكنة المتقاربة التي حدث فيه هذا الهلاك الذريع، فإنّنا ننقض عليك بأنّ الإمام(عليه السلام) يمكن أن يرسل أعوانه في الآفاق، سواء كان هؤلاء الأعوان بشراً أم أعواناً روحانيين (جنّ أو ملائكة)، بحيث يمكن أن لا تخلو الأرض من حجّة في جميع الأزمنة والأمكنة. وهذا يقودنا إلى الجانب التشريعي من هذه القضية، فإنّ من مصاديق انطباق مفهوم العبارة، هو: أنّ وجود الإمام ببدنه الشريف وإن كان في أحد بلدان الأرض بحيث يخلو منه سائر البلدان الأُخرى، فإنّ وجود وكلائه وأتباعه ومندوبيه في تلك البلدان هو بمثابة وجوده؛ لأنّ الوكيل كالأصيل في تبليغ الشرائع والأحكام، فوكلاء الحجّة من العلماء لهم مقام الحجّية بالتبع، فإذا انتشروا في بلاد الله لم تخل الأرض من حجّة، وعلى هذا الأساس تؤخذ أحكام الشريعة اليوم عن العلماء الذين هم حجّة على الخلق، بنصّ الإمام: (فإنّهم حجّتي عليكم) (1) . وكذا في زمان ظهوره المقدّس، يكون أصحابه الـ(313) هم قادة العالم والحجّة على جميع البلدان، كما ثبت في الروايات (2) . ودمتم في رعاية الله

3