مرتضى - بلجيكا
منذ 4 سنوات

الشبهة في مسألة النص على الامامة

وردت شبهة علينا وتحتاج إلى جواب علمي مفصّل حتّى لا يبقى هناك مجال للتشكيك، حيث أنّ المسألة أخذت طابعاً آخر من الأهمية، إذ صار المخالفون يستخدمونها كوسيلة جديدة للتشكيك في أصل المسألة، لذلك التفصيل العلمي الموسّع مطلوب من سماحتكم بخصوص قضية: (الجعل الإلهي للإمامة). الشبهة باختصار هي: أنّنا - أي: الشيعة الجعفرية الاثني عشرية، أعزّ الله رايتها بظهور إمام زمانها عجّل الله فرجه الشريف - نقول: بأنّ الإمامة جعل إلهي. ونستدلّ بقوله تعالى: (( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً )) (البقرة:124). وقوله تعالى: (( وَوَهَبنَا لَهُ إِسحَاقَ وَيَعقُوبَ وَجَعَلنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالكِتَابَ وَآتَينَاهُ أَجرَهُ فِي الدُّنيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ )) (العنكبوت:27). وقوله تعالى: (( وَلَقَد أَرسَلنَا نُوحاً وَإِبرَاهِيمَ وَجَعَلنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالكِتَابَ فَمِنهُم مُهتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنهُم فَاسِقُونَ )) (الحديد:26). وقوله تعالى: (( وَجَعَلنَا مِنهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأَمرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ )) (السجدة:24). وقوله تعالى: (( وَجَعَلنَاهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأَمرِنَا وَأَوحَينَا إِلَيهِم فِعلَ الخَيرَاتِ... )) (الأنبياء:73). وقوله تعالى: (( وَجَعَلنَا ابنَ مَريَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَينَاهُمَا إِلَى رَبوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ )) (المؤمنون:50). وقوله تعالى: (( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرضِ )) (ص:26). وقوله تعالى: (( وَنَجعَلَهُم أَئِمَّةً وَنَجعَلَهُمُ الوَارِثِينَ )) (القصص:5). وقوله تعالى: (( وَاجعَلنَا لِلمُتَّقِينَ إِمَاماً )) (الفرقان:74). حيث نؤكّد بذلك أنّ الإمامة هي من اختيار وجعل إلهي لا دخل باختيار الناس وجعلهم خليفة لهم من خلال الشورى أو غيرها من بدعهم، (( وَمَا كَانَ لِمُؤمِنٍ وَلاَ مُؤمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أَمرِهِم وَمَن يَعصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَد ضَلَّ ضَلاَلاً مُبِيناً )) (الأحزاب:36). ولكن المخالفين أجابونا: بأن لا خصوصية في مسألة الجعل الإلهي؛ إذ لا يمكن أن يُبنى عليه بأنّ الإمامة هي إمامة منصوصة.. ولا تدلّل على أنّ الإمام المجعول هو إمام معصوم أبداً؛ إذ أنّ الله عزّ وجلّ قد جعل كذلك أئمّة الكفر أيضاً، استناداً إلى قوله تعالى: (( وَجَعَلنَاهُم أَئِمَّةً يَدعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَومَ القِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ )) (القصص:41) ، فيدلّ أيضاً هذا على أنّ الإمامة ينالها الظالم أيضاً، فهذه الآية تدلّل بأنّ هذه الإمامة الكافرة مجعولة أيضاً من الله عزّ وجلّ، فلا دلالة بعدئذ للقول بأنّ الإمامة لا بدّ وأن تكون من ذرّية إبراهيم والأئمّة كلّهم معصومون؛ إذ أنّ هذه الآية تنفيها وتثبت أنّ الإمامة، وكلّ جعل في القرآن، هي جعل تكويني، فكلّ الأُمور بيد الله عزّ وجلّ ولا تدلّل على النص في مسألة الخلافة، بخلاف مسألة النبوّة حيث هي اختيار إلهي بحت. هذا مختصر شبهتهم، وإن كان الكلام أكثر في هذه القضية ولكنّي اختصرتها في هذه الأسطر. المرجو منكم أن تفصّلوا تفصيلاً علمياً دقيقاً وواسعاً للجواب على هذه الشبهة من خلال هذه الأسئلة: 1- ما هي حقيقة وماهية (الجعل الإلهي) في القرآن الكريم؛ إذ تكرّرت كثيراً في آيات عدّة، وفي كلّ آية لها معنى خاصّاً؟ 2- ما هو المائز بين هذه المعاني المختلفة للكلمة وللفظة (الجعل) في القرآن الكريم، حتّى نسدّ الباب على من يُفسّر الكلمة على هواه بحسب رغبته لفهم الآية المعينة؟ 3- ما هو الفرق بين جعل أئمّة الحقّ الذين يهدون بأمر الله، وبين جعل أئمّة الكفر الذين يدعون إلى النار؟ 4- ألا يدلّل جعل أئمّة يدعون إلى النار بأنّ الإمامة ينالها الظالم؟ 5- ما الدليل على أنّ الإمامة المجعولة في ذرّية إبراهيم(عليه السلام) هي في ذرّية إسماعيل(عليه السلام)؛ إذ الآية: (( وَوَهَبنَا لَهُ إِسحَاقَ وَيَعقُوبَ وَجَعَلنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالكِتَابَ وَآتَينَاهُ أَجرَهُ فِي الدُّنيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ )) ، والآية: (( وَجَعَلنَا مِنهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأَمرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ )) تدلّل على أنّ الإمامة كانت في ذرّية إسحاق(عليه السلام)؟ 6 - ما الفرق بين هذه الإمامة وجعلها إلهياً في الآية: (( وَاجعَلنَا لِلمُتَّقِينَ إِمَاماً )) ، وبين الإمامة الإبراهيمية المجعولة إلهياً أيضاً: (( وَإِذِ ابتَلَى إِبرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهدِي الظَّالِمِينَ )) (البقرة:124) ؟ 7- ما المراد بالإمامة للكتاب في قوله تعالى: (( وَمِن قَبلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً لِيُنذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشرَى لِلمُحسِنِينَ )) (الأحقاف:12)، وقوله تعالى: (( أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ وَيَتلُوهُ شَاهِدٌ مِنهُ وَمِن قَبلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحمَةً أُولَئِكَ يُؤمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكفُر بِهِ مِنَ الأَحزَابِ فَالنَّارُ مَوعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِريَةٍ مِنهُ إِنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤمِنُونَ )) (هود:17)؟ ما فرق إمامة الكتاب عن الإمامة الإبراهيمية؟ 8 - كيف يكون الجواب على من يقول بأنّ إمام زمانه هو القرآن؛ استناداً إلى هذه الآية: (( وَمِن قَبلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحمَةً )) ، ويدّعي أنّ الإمامة المجعولة في ذرّية إبراهيم قد يكون من مصاديقها، بل على زعمه: القرآن الكريم أعظم مصاديق الإمامة؛ استناداً إلى قوله تعالى: (( وَوَهَبنَا لَهُ إِسحَاقَ وَيَعقُوبَ وَجَعَلنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالكِتَابَ وَآتَينَاهُ أَجرَهُ فِي الدُّنيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ )) ، وقوله تعالى: (( وَلَقَد أَرسَلنَا نُوحاً وَإِبرَاهِيمَ وَجَعَلنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالكِتَابَ فَمِنهُم مُهتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنهُم فَاسِقُونَ )) ؟ ما الدلالة على أنّ الإمامة الإبراهيمية مستمرّة لحدّ الآن، وأنّ حجّة الله بن الحسن العسكري عجّل الله تعالى فرجه الشريف هو حجّة الله وخليفته بالحقّ في الأرض والسماء؟ نرجو منكم التفصيل والتوسّع في شرح وبيان الأجوبة العلمية على هذه الشبهات، فنحن بحاجة إلى مثل هذه الأجوبة العلمية الرصينة والمفصّلة.


الاخ مرتضى المحترم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته لا بدّ من تقديم مقدّمتين حتّى يتسنّى الجواب على هذه الشبهات: المقدّمة الأُولى: الشيعة لا يحصرون الإمامة بالإمامة الحقّة؛ إذ معنى الإمام: المقتدى به، فثمّة إمامة لأهل الباطل.. فقد ورد عن الإمام الصادق صلوات الله عليه: (إنّ الأئمّة في كتاب الله عزّ وجلّ إمامان؛ قال الله تبارك وتعالى: (( وَجَعَلنَاهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأَمرِنَا )) لا بأمر الناس، يقدّمون الله قبل أمرهم، وحكم الله قبل حكمهم.. وقال: (( وَجَعَلنَاهُم أَئِمَّةً يَدعُونَ إِلَى النَّارِ )) (القصص:41)، يقدّمون أمرهم قبل أمر الله، وحكمهم قبل حكم الله، ويأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله عزّ وجلّ) (1) . وكذلك لا يحصرون الجعل التكويني بأئمّة الحقّ، بل يشمل أئمّة الباطل، ومنه يتبيّن أنّ الجعل التكويني ليس هو العنصر الوحيد المقوّم للإمامة الإلهية التي هي خلافة عن الله تعالى، بل يفتقر الجعل كذلك إلى عنصر آخر، هو: الهداية بأمر الله عزّ وجلّ حسب ما جاء في الآيات، ومن ثمّ ينصب عليها الجعل التشريعي. وبعبارة أُخرى: نحن لا نقول: أنّ الجعل التشريعي للإمامة ينصب على مطلق الجعل التكويني المجرّد عن الهداية بأمر الله تعالى، وبه يخرج عن الحدّ جعل أئمّة الضلال. وقد بيّنا هذا مفصّلاً في جواب السؤال السابق، فراجع! المقدّمة الثانية: العصمة، التي هي ركن أساسي من أركان الإمامة الحقّة، مترتّبة على الهداية بأمر الله عزّ وجلّ، ولذلك افتقرت الإمامة الإلهية بالإضافة إلى الجعل إلى وجود النص منه تبارك وتعالى، وهو إظهار للجعل التشريعي في عالم الإثبات؛ لأنّ العصمة أمر باطني لا يعلمه إلاّ الله، وغير المعصوم لا يكون مهدياً ولا هادياً بأمر الله عزّ وجلّ. والآن نأتي إلى الإجابة عن أسئلتكم: 1- حقيقة الجعل الإلهي هو الإيجاد، فقد يكون الجعل منه تعالى بما هو جاعل هويات الممكنات والعلاقات بينها، المسمّى بـ(السنن)، فيتمحّض في التكوين، وقد يكون الجعل منه تعالى بما هو شارع الشرائع والأحكام والمناصب بالنظر إلى مصالح العباد ودفع ما فيه فسادهم، فيكون جعلاً تشريعياً. 2- المائز بين ما يدلّ عليه لفظ الجعل من المعاني يفهم من متعلّق الجعل والقرائن الموجودة في النص القرآني؛ فقد يكون تكوينياً محضاً، كجعل الليل والنهار، وقد يكون تكوينياً بإضافة الهداية، كجعل أئمّة الحقّ، وقد يكون تكوينياً بسلب الهداية، وما يترتّب على ذلك من حصول الدعاوى الباطلة كجعل أئمّة الضلال، وقد يكون تشريعياً، كالنصب لإمام الحقّ. وقد بيّنا ذلك في السؤال السابق؛ فراجع! 3- قد تبيّن الفرق بينهما، بأنّ جعل أئمّة الحقّ يلزمه الهداية بأمر الله تعالى، وهو مترتّب على الصبر واليقين حسب نص الآية، وجعل أئمّة الباطل والضلال يلزمه الدعوة إلى النار، وهو مترتّب على اختيار الضلال وعدم الهداية بتقديم أمر النفس والأخذ بالأهواء. ثمّ يتميّز أئمّة الهدى بالجعل التشريعي دون أئمّة الكفر، كما أوضحنا سابقاً. 4- قد تبيّن ممّا سبق أنّ الجعل لأئمّة الكفر جعل تكويني على طبق السُنن الإلهية بما لا يلزم الجبر، وإمامة الضلال هي غير الإمامة الإلهية التي فيها جعل تشريعي إضافة إلى الجعل التكويني المطابق للسُنن الإلهية. 5- لا دلالة في قوله تعالى من سورة العنكبوت: (( وَوَهَبنَا لَهُ إِسحَاقَ وَيَعقُوبَ وَجَعَلنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالكِتَابَ... )) (العنكبوت:27) الآية، على تخصيص النبوّة والكتاب في إسحاق ويعقوب، فإنّ الآية تذكّر بالتفضّل على إبراهيم ووهبه إسحاق ويعقوب بعد الكبر واليأس من الذرّية، ولذا لم تذكر إسماعيل، وحصر الذرّية بإسحاق ويعقوب باطل قطعاً، ثمّ ذكرت الآية التفضّل الثاني، وهو: جعل النبوّة من بعده في ذرّيته، وذرّية إبراهيم تشمل إسماعيل وذرّيته أيضاً. وهناك آيات أُخرى تنصّ على نبوّة إسماعيل، منها: قوله تعالى: (( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَينَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبرَاهِيمَ وَإِسمَاعِيلَ وَإِسحَاقَ وَيَعقُوبَ... )) (البقرة:136)، الآية. وأمّا قوله تعالى: (( وَجَعَلنَا مِنهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأَمرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ )) (السجدة:24)، وقوله تعالى: (( وَجَعَلنَاهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأَمرِنَا وَأَوحَينَا إِلَيهِم فِعلَ الخَيرَاتِ )) (الأنبياء:73)، فهي وإن كانت نازلة في أئمّة بني إسرائيل، ولكنّها لا تحصر الإمامة فيهم دون غيرهم، بل إنّها تذكر صفة الإمامة بصورة عامّة، وهي: الهداية بأمر الله وفعل الخيرات بالوحي، كما تذكر أنّ نيل الإمامة يكون بالصبر واليقين، فهما علّتا الإمامة، وتنصّ الآتيان على أنّ الجعل للإمامة، أي نوع من الجعل كان، هو جعل من الله، وقد ذكر القرآن أنّ الإمامة تكون في ذرّية إبراهيم مطلقاً: (( قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهدِي الظَّالِمِينَ )) (البقرة :124). 6- الإمامة الإبراهيمية هي أصل هذه الإمامة التي عند أئمّة أهل البيت(عليهم السلام)؛ لأنّ إبراهيم(عليه السلام) سألها لذرّيته (( قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي )) ، فجاء الجواب باستحقاقها لمن لم يكن ظالماً منهم: (( قَالَ لاَ يَنَالُ عَهدِي الظَّالِمِينَ )) ، فهي عهد أعطاه الله تعالى لإبراهيم(عليه السلام) بأن سيكون في ذرّيته أئمّة حقّ لا أئمّة باطل، وأئمّة عدل لا أئمّة ظلم. فالسؤال في الآية: (( وَاجعَلنَا لِلمُتَّقِينَ إِمَاماً )) ، إذا قلنا بأنّها خاصّة بأهل البيت(عليهم السلام) حسب الروايات، سؤال عن جعلهم من أُولئك الأئمّة الذين وعدهم الله إبراهيم(عليه السلام). 7- وأمّا قوله: (( وَمِن قَبلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحمَةً )) ، فقد جاء (إماماً) حال من كتاب موسى في الآيتين، والمعنى: إنّ كتاب موسى يقتدى به ويأتم به في الدين. نعم، ذكر بعض المحقّقين أنّه: لا يتبيّن المراد من قوله: (( إِمَاماً وَرَحمَةً )) في الآية الثانية، وهي: قوله تعالى: (( أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ وَيَتلُوهُ شَاهِدٌ مِنهُ وَمِن قَبلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحمَةً )) : هل الإمام والرحمة حالان من الشاهد أو من كتاب موسى؟ حتّى قال العلاّمة الطباطبائي: ((وأمر الآية في ما تحتمله مفردات ألفاظها وضمائرها عجيب، فضرب بعضها في بعض يرقى إلى أُلوف من المحتملات، بعضها صحيح وبعضها خلافه)) (2) .. إلاّ أنّ الآية الكريمة بمعونة الأخبار الكثيرة المستفيضة التي جاءت من طريق العامّة والخاصّة تدلّ على أنّ من كان على بيّنة من ربّه هو: رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأنّ الشاهد التالي منه هو عليّ المرتضى(عليه السلام) وأنّه منه، أي: كأنّه بعض من رسول(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وجزء منه، بل أوصياؤه الكرام شهداء منه واحداً بعد واحد. فلاحظ كلام الفخر الرازي ونظرائه من العامّة كيف أجرى الله الحقيقة على لسانهم! قال في تفسيره: ((وثالثها - أي: من الأقوال -: أنّ المراد هو: عليّ بن أبي طالب(رضي الله عنه)، والمعنى أنّه يتلو تلك البيّنة، وقوله: (منه)، أي: هذا الشاهد من محمّد(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبعض منه. والمراد منه: تشريف هذا الشاهد بأنّه بعض من محمّد(عليه السلام) )) (3) . وعلى أي حال، فإنّ كون التوراة إماماً - أي: قدوة - لا ينفي الإمامة والقدوة الثابتة لبعض البشر المصطفين من ذرّية إبراهيم، كما في قوله تعالى: (( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهدِي الظَّالِمِينَ )) ، وأيّ تنافٍ بين الأمرين حتّى ينفي أحدهما الآخر؟! بل كما أنّه يجب الائتمام بالقرآن لأنّه إمام ككتاب موسى، كذلك يجب الائتمام بمن جعلهم الله أئمّة من ذرّية إبراهيم(عليه السلام)، وهذا هو عين مفاد حديث الثقلين؛ قال رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، لن تضلّوا ما إن تمسّكتم بهما...) (4) .. وقوله تعالى: (( وَوَهَبنَا لَهُ إِسحَاقَ وَيَعقُوبَ وَجَعَلنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالكِتَابَ... )) دال على بقاء النبوّة والكتاب في ذرّية إبراهيم(عليه السلام)، وأنّ النبوّة فيهم والكتاب عندهم، لا أنّ الكتاب إمام دونهم، بل هم الماسكين بأزمّة الكتاب مهيمنين على ما فيه، حتّى قال تعالى: (( فَاسأَلُوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لاَ تَعلَمُونَ )) (النحل:43)، فدعوى أنّ إمامة الكتاب من مصاديق إمامة ذرّية إبراهيم(عليه السلام) هذر من القول بما لا يفقه! 8- قد تبيّن من النقطة السابقة. وأمّا مسألة استمرار الإمامة الإبراهيمية حتّى الآن، فقد ذكرنا أنّ إبراهيم(عليه السلام) طلبها لذرّيته، قال تعالى: (( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي... )) ، ولم يردّ عليه القرآن طلبه، وإنّما نفى الإمامة عن الظالمين منهم: (( قَالَ لاَ يَنَالُ عَهدِي الظَّالِمِينَ )) ، وقد وردت آية أُخرى، هي: قوله تعالى: (( إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَومٍ هَادٍ )) (الرعد:7)، تثبت وجود هادٍ لكلّ قوم إلى يوم القيامة، فلا بدّ من وجود هادٍ لنا في هذا الزمان، ووجود هادٍ لما بعدنا، وهناك روايات كثيرة تذكر: أنّ الأرض لا تخلو من حجّة، وقد حصرهم رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بأهل بيته في أحاديث كثيرة، منها: حديث الثقلين المار ذكره. وأمّا أنّ الإمام في هذه العصر هو: الحجّة بن الحسن، فيطلب من الروايات المتواترة لفظاً ومعنى، منها ما يثبت وجود إمام من أهل البيت(عليهم السلام) في الجملة قطعاً، كحديث الثقلين المتواتر: (إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي... وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا علَيَّ الحوض)؛ فعدم افتراق العترة عن كتاب الله تعالى يستلزم وجود بعضهم في كلّ عصر، وإلاّ لحصل الافتراق.. ومنها: روايات الأئمّة الاثنى عشر، ومنها: الروايات الكثيرة المتواترة بألسنة مختلفة بأنّ: الأئمّة من ولد الحسين(عليه السلام)، وأنّ: المهدي هو التاسع من ولده، وروايات أُخرى تبشّر بالمهدي خاصّة. ودمتم في رعاية الله

3