عرفنا أنّ الإمامة هي منصب يجعله الله ويصطفي فيه أحداً من خلقه، وهو لهداية الناس، كما قال تعالى: (( وَجَعَلنَاهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأَمرِنَا )) (الأنبياء:73).
في المقابل هناك أئمّة يدعون إلى النار, حيث نرى أنّ الله يقول: (( وَجَعَلنَاهُم أَئِمَّةً يَدعُونَ إِلَى النَّارِ )) (القصص:41), فالجعل في هذه الآية - كما هو ظاهر - من الله, فما المقصود هنا بأنّ الله يجعل أئمّة يدعون إلى النار؟
الأخ عبد الله المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الظاهر أنّ (الجعل) في الآيتين بمعنى: الجعل التكويني في أصل الخلقة, لا بما يلزم منه الجبر، بل ذلك بما علمه الله في سابق علمه من صفات أئمّة الهدى وصفات أئمّة الكفر، فالله علم من أئمّة الهدى عملهم بالخيرات وصبرهم ويقينهم، فجعلهم، أي: اصطفاهم ونصّبهم أئمّة هدى, وعلم من أئمّة الكفر دعوتهم للضلال والنار وظلمهم وجبروتهم، فجعلهم أئمّة الكفر، والكلام هنا في السنن الإلهية، كما قال الله تعالى: (( وَكَذَلِكَ جَعَلنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الأِنسِ وَالجِنِّ يُوحِي بَعضُهُم إِلَى بَعضٍ زُخرُفَ القَولِ غُرُوراً وَلَو شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرهُم وَمَا يَفتَرُونَ )) (الأنعام :112).
فالجعل هنا بمعنى الجعل هناك، وكما أشار هنا إلى نفي الجبر، لا يلزم من الجعل هناك الجبر أيضاً, وإنّما كان جعله لهم بما علمه من اختيارهم للهدى أو الضلال..
فعن أبي عبد الله(عليه السلام) قال: (إنّ الأئمّة في كتاب الله عزّ وجلّ إمامان، قال الله تبارك وتعالى: (( وَجَعَلنَاهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأَمرِنَا )) , لا بأمر الناس، يقدّمون أمر الله قبل أمرهم، وحكم الله قبل حكمهم، قال: (( وَجَعَلنَاهُم أَئِمَّةً يَدعُونَ إِلَى النَّارِ )) , يقدّمون أمرهم قبل أمر الله، وحكمهم قبل حكم الله، ويأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله عزّ وجلّ) (1) . وفي رسالة الإمام الصادق(عليه السلام) إلى أصحابه، جاء فيها: (فقد كُذّب نبيّ الله والرسل من قبله وأُوذوا مع التكذيب بالحقّ، فإن سرّكم أمر الله فيهم الذي خلقهم له في الأصل - أصل الخلق - من الكفر الذي سبق في علم الله أن يخلقهم له في الأصل ومن الذين سمّاهم الله في كتابه في قوله: (( وَجَعَلنَاهُم أَئِمَّةً يَدعُونَ إِلَى النَّارِ )) , فتدبّروا هذا واعقلوه ولا تجهلوه ... المزید) (2) الرواية.
فمن هذا يظهر أنّ الإشارة بقوله تعالى: (( وَجَعَلنَاهُم )) ، في الآيتين إلى عالم التكوين، والله أعلم.
والجعل في هاتين الآيتين يختلف عن (الجعل) في قوله تعالى مخاطباً إبراهيم(عليه السلام): (( قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهدِي الظَّالِمِينَ )) (البقرة:124)؛ لوجود القرينة في هذه الآية على أنّ المراد بالجعل فيها: الجعل التشريعي، لا التكويني؛ إذ سمّى الله سبحانه وتعالى الإمامة هنا بالعهد، والعهد يحتاج إلى إقرار وتنصيب، ثمّ عبّر في الآية بلفظ (جاعل) على هيئة اسم الفاعل، الدالّ على الحال أو الاستقبال، فكان أخذ عهد الإمامة على إبراهيم بعد النبوّة والرسالة زماناً، لا أنّ الجعل في الآية يدلّ على الجعل السابق في عالم التكوين.. وقد فصّلنا بعض القول في هذه الآية في الجواب عن السؤال السابق؛ فراجع! ثمّ إنّ بعضهم قد استدلّ بآية أئمّة الهدى في عالم الإثبات أيضاً على أنّها تدلّ على ثبوت النصّ لأئمّة الهدى من الله, فيمكن الالتزام بأنّ الجعل في آية أئمّة الكفر يدلّ على النصّ عليهم أيضاً، وبما أنّ الوحي والنصّ الإلهي مختصّ وينزل عل أئمّة الهدى، فطريق معرفة النصّ على أئمّة الكفر لا بدّ أن يكون من طريق أئمّة الهدى لا غير؛ لأنّ أئمّة الكفر لا وحى لهم..
والشواهد على وجود النصّ والتعيين لأشخاص أئمّة الكفر كثيرة في تراثنا الحديثي الصادر عن المعصومين، منها: ما أخبر به النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) حذيفة ليلة العقبة (3) . ومنها: الرؤيا التي رآها النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن تسوّر بني أُميّة لمنبره (4) ، والكثير غيرها عن أهل العصمة. وأمّا من جانب الحكم الشرعي، فإنّه وإن كان معنى الإمام لغةً هو: ما يُقتدى به، ولكن ليس معنى جعل الله لأئمّة الكفر هو وجوب الاقتداء بهم, بل إنّ التشريع الإلهي أوجب على المكلّفين الاقتداء بأئمّة الهدى وعدم الاقتداء بأئمّة الكفر؛ فلا وجه لدخول الشبهة عن كيفية جعل الله لأئمّة الكفر من جهة توهّم لزوم اتّباعهم؛ فإنّ الاتّباع لازم مأخوذ من المعنى اللغوي للإمام، وليس هو لازم شرعي، بمعنى: الوجوب للمعنى اللغوي؛ فلاحظ!
ودمتم في رعاية الله