الأخ محمد المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في كتاب تفسير (الأمثل) للشيخ ناصر مكارم الشيرازي، قال: ((لقد ذكرت الآية هنا شرطين للإمامة, أحدهما: الإيمان واليقين بآيات الله عزّ وجلّ, والثاني: الصبر والاستقامة والصمود. وهذا الأمر ليس مختصّاً ببني إسرائيل, بل هو درس لكلّ الأُمم, ولجميع مسلمي الأمس واليوم والغد بأن يحكّموا أُسس يقينهم, ولا يخافوا من المشاكل التي تعترضهم في طريق التوحيد, وأن يتحلّوا بالصبر والمقاومة ليكونوا أئمّة الخلق وقادة الأُمم ومرشديها في تاريخ العالم)) (1) . وقال الشيخ الوحيد: (( ... المزید فما هي الإمامة؟ نستعرض آية من القرآن هي أصل المطلب, ونذكر معناها بالإجمال, وهي: قوله تعالى: (( وَجَعَلنَا مِنهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأَمرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ )) , وفيها أربعة مباحث, أرجو أن تتأمّلوا فيها:
المبحث الأوّل: (( وَجَعَلنَا مِنهُم )) .. فالإمامة أمر مجعول من الله تعالى, لا من السقيفة! والقرآن يعطي هدايته لجميع الناس بالعبارة وبالإشارة, والعلماء والواعون يفهمون هدايته, ولا ذنب للقرآن إذا لم يهتد به غلاظ القلوب والأذهان! وعندما ندرس أصحاب المستويات العالية من العلماء، نجد أنّهم بعد أن يستكملوا مراحلهم العلمية يعودون إلى مطالعة القرآن، ومطالعة القرآن غير هذه القراءة العادية المعروفة.
وهذه الآية في مطلق الإمامة وليست في الإمامة المطلقة؛ لأنّها في إمامة عدد من أئمّة بني إسرائيل, ومع ذلك لا يصحّ فيهم جعل البشر, بل لا بدّ فيهم من جعل الله تعالى. وإذا كان هذا حال مطلق الإمامة, فكيف بالإمامة المطلقة بعد خاتم الأنبياء والرسل(صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟! إنّ إمامة أئمّتنا المعصومين(عليهم السلام)، وإمامة صاحب العصر والزمان أرواحنا فداه، إمامة مطلقة, وليست مطلق إمامة, والفرق بينهما كبير. المبحث الثاني: (( وَجَعَلنَا مِنهُم أَئِمَّةً )) .. و(من) هنا للتبعيض؛ فالذين يصلحون لهذا المنصب الإلهي هم: بعض المؤمنين مع الرسل, وليسوا كلّهم. المبحث الثالث: في بيان أصل الإمامة. المبحث الرابع: في بيان فرع الإمامة. فما هو أصل الإمامة, وما هو فرعها؟
أمّا أصل الإمامة، فهو: (( لَمَّا صَبَرُوا )) .
وأمّا فرعها، فهو: (( يَهدُونَ بِأَمرِنَا )) .
وهذا هو إعجاز القرآن؛ فإعجاز الفصاحة والبلاغة فيه إعجاز لفظي, ولكن إعجازه لكبار المفكّرين من العلماء أنّه في آية واحدة، بل في جزء من آية, يقدّم العجائب! وهو هنا يوجب على الباحث أن يفهم معنى الصبر أوّلاً, ثمّ يفهم معنى الهداية, ثمّ يفهم معنى الأمر في الآية, ثمّ يفهم معنى الهداية بالأمر.. أمّا الصبر فهو في اللغة: حبس النفس, وهو مقولة نسبية متفاوتة المراتب, أو مشكّكة بالتعبير المنطقي, وهو الجذر والطريق لوصول الإنسان إلى مستويات عالية من الكمال الإنساني؛ فبالصبر وصل كبار الأنبياء والأئمّة(عليهم السلام) إلى أن تكون عوالم الكون في قبضة يدهم...)).
وقال أيضاً: ((وإذا تمّ له ذلك, وحبس نفسه عن كلّ عالم المادّة, وما فيه من مال ومقام ولذائذ, فلم يصل إلى درجة الإنسان الكامل أيضا؛ لأنّ قوله تعالى: (( وَجَعَلنَا مِنهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأَمرِنَا لَمَّا صَبَرُوا )) , يعني: أنّهم صبروا عن الدنيا وعن البرزخ أيضاً! والبرزخ هنا هو: الصور الخيالية, والصبر عليها يعني: محوها من عالم النفس والروح.
فإذا تمّ له محو عالم الدنيا وعالم البرزخ, يصل إلى المرحلة الثالثة، وهي: الصبر عن شؤون عالم الآخرة.
فإذا استطاع أن يصبر على الآخرة بكلّ ما فيها من نعيم, يكون بذلك محا الدنيا والبرزخ والآخرة من روحه, وحينئذٍ يمكنه أن يفرّغ نفسه وروحه لله تعالى دون أن يكون له فيه شريك, ويصل إلى درجة العبد المطلق.. إنّ الله تعالى لا يقبل الشريك, ولا يصحّ أن تكون الدنيا ولا الآخرة شريكاً له في نفس العبد المطلق.
وما لم يمح الإنسان من نفسه وروحه كلّ الدنيا والبرزخ والآخرة, فلا يستطيع أن يجمع نفسه ويقدّمها لله تعالى.. وكما قال النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إنّ الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ليلة ظلماء).(وسائل الشيعة 16: 254 طبعة آل البيت).
وهذا الكلام لم يقله النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لي ولك, بل قاله لأعيان الإنسانية الذين وصلوا إلى هذه المراحل. وعندما يصل الإنسان إلى درجة العبد المطلق يكون كما نقرأ في زيارة الجامعة: (وذلّ كلّ شيء لكم, وأشرقت الأرض بنوركم).(عيون أخبار الرضا 1: 304)..
كلّ شيء.. كلّ ما يصدق عليه أنّه شيء في تلك الحضرة ذليل.. وجبرئيل شيء، وميكائيل شيء, والكرسي واللوح والقلم أشياء.. وكلّها ذليلة أمام الإمام الحجّة ابن الحسن صلوات الله عليه! وذلّ كلّ شيء لكم.. لماذا؟ لأنّه صار عبداً مطلقاً.
وقد قال النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعليّ(عليه السلام): (يا عليّ, من خاف الله عزّ وجلّ خاف منه كلّ شيء, ومن لم يخف الله عزّ وجلّ أخافه الله من كلّ شيء).(من لا يحضره الفقيه 4/357 باب النوادر).
وهذه العبودية هي التي قالوا عنها: (العبودية جوهرة كنهها الربوبية)، أي: ربوبية للأشياء بالله تعالى.
أرأيتم النتيجة التي ينتهي إليها الصبر؟! وكيف يصل الإنسان الذي صبر نفسه في جنب الله تعالى إلى مقام العبد المطلق, ويستحقّ الإمامة المطلقة؟ فماذا نستطيع أن نقول في مقام الإمام صاحب الزمان(عليه السلام)؟ أليس الأفضل أن نصمت ونكتفي بذكر اسمه الشريف فقط؟!...)).
وقال أيضاً: ((هذا هو الصبر الذي نتجت عنه الإمامة الكبرى, وهو نفسه صبر صاحب الزمان أرواحنا فداه, الذي يرى هذا المشهد كلّ يوم صباحاً ومساءً.. إنّ حياته (عليه السلام) كلّها امتحان, وقد ورد: أنّه يوجد عنده في البيت الذي يسكن فيه قميص جدّه الحسين(عليه السلام) معلّق فوق رأسه وهو يراه, فإذا حان وقت ظهوره يراه قد صار دماً عبيطاً!
إنّ صبره لا يشبه صبر أحد من الناس, بسبب سعة علمه، ورقّة قلبه، وشفافية مشاعره (عليه السلام)؛ فهو يرى كلّ مظالم العالم وجناياته, وهو يرى مظالم جدّه النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأجداده الطاهرين(عليهم السلام) أمام عينيه, ولاشكّ أنّه يتجوّل في زيارة مشاهدهم المشرّفة, من بيت الله في مكّة, إلى قبر جدّه المصطفى وأجداده المعصومين في المدينة المنورة, إلى قبر جدّه أمير المؤمنين(عليه السلام) في النجف, إلى قبر جدّه الحسين في كربلاء, إلى بقيّة مشاهد المعصومين(عليهم السلام), وتتجسّد أمام عينيه مظالمهم ومصائبهم! وهو في ذلك يعيش حياته بقلب حيّ وإحساس نابض, يعيش بقداسة روح جدّه أمير المؤمنين(عليه السلام)، الذي لا يتحمّل أن يسلب نملة جلب شعيرة, حتّى لو أُعطي مقابلها الأقانيم السبعة بما تحت أفلاكها.. والذي عنده الموت أهون من أن يرى امرأة مسلمة أو ذمّية تسلب حليّها, ولا يستطيع أن يدافع عنها!
فأيّ صبر هو صبر الإمام المهدي أرواحنا فداه؟! (( وَجَعَلنَا مِنهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأَمرِنَا لَمَّا صَبَرُوا )) (السجدة:24)، هذا هو الصبر المطلق الذي يوصل إلى الإمامة المطلقة!
فما هو الفرق بين مطلق الإمامة, والإمامة المطلقة؟ إنّ الإمامة مقولة لها شروط ترتفع درجتها بها حتّى تصل طبقاً لنظام العلّة والمعلول إلى الإمامة المطلقة, وتكون النسبة بينها وبين مطلق الإمامة كنسبة مطلق الوجود إلى الوجود المطلق, ومطلق العلم إلى العلم المطلق, ومطلق القدرة إلى القدرة المطلقة!
فإذا التفتّم إلى هذه الفروق عرفتم معنى الرحمة المطلقة التي وصف بها الأئمّة(عليهم السلام) في الزيارات والأدعية, فالرحمة المطلقة هي التي وسعت كلّ شيء, ومطلق الرحمة لا تسع كلّ شيء. وينبغي هنا أن نعرف أنّ الآية في الأئمّة المختارين من بني إسرائيل, وهؤلاء ليسوا كأئمّتنا(عليهم السلام) أهل الصبر المطلق والإمامة المطلقة. فالإمام المهدي صاحب الزمان أرواحنا فداه, صاحب الإمامة المطلقة وليس مطلق إمام, وهذا يعني: أنّه صاحب العلم المطلق بتعليم الله تعالى, والقدرة المطلقة بإقدار الله تعالى, والرحمة المطلقة بعطاء الله تعالى. فهو كلمة الله التامّة ورحمته الواسعة.. صلوات الله عليه)) (2) .
ودمتم في رعاية الله