ام السادة - السعودية
منذ 5 سنوات

حول الخير و الشر

هل خلق الله الشرّ؟ وإذا خلقه، فهل الخير والشرّ متساويان، أم الخير أكثر من الشرّ، أم العكس؟


الأخت ام السادة المحترمة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته نورد هنا اختصاراً من بحث الشيخ السبحاني في هذا الموضوع: إنّ البحث عن الشرور ليس مسألة جديدة، بل هي مسألة قديمة طرحت بين فلاسفة الإغريق والمتأخّرين من فلاسفة الإسلام، فقد اشتهر قول أرسطو: ((إنّ الموجودات الممكنة بالقسمة العقلية في بادئ الاحتمال تنقسم إلى خمسة أقسام: 1- ما هو خير كلّه لا شرّ فيه أصلاً. 2- ما هو خير كثير مع شرّ قليل. 3- ما فيه شرّ كثير مع خير قليل. 4- ما يتساوى فيه الخير والشرّ. 5- ما هو شرّ مطلق لا خير فيه أصلاً. ثمّ صرّحوا بأنّ الأقسام الثلاثة الأخيرة غير موجودة في العالم، وإنّما الموجود من الخمسة المذكورة قسمان)) (1) . والتحليل الفلسفي لمسألة الشرور هو: أنّ ما يظنّه بعض الناس من أنّ هناك حوادث غير منتظمة أو ضارّة مدمّرة فإنّما هو ناشئ من نظرتهم الضيقة المحدودة إلى هذه الأُمور ولو نظروا إلى هذه الحوادث في إطار النظام الكوني العام لأذعنوا بأنّها خير برمتها ويكون موقف المسألة كما قاله الحكيم السبزواري: ما ليس موزوناً لبعض من نغم ***** ففي نظام الكلّ كلّ منتظم وتفصيل هذا الإجمال هو: أنّ وصف هذه الظواهر المذكورة بأنّها شاذّة عن النظام ينبع من نظرة الإنسان إلى الكون من خلال نفسه ومصالحها، وجعلها محوراً وملاكاً لتقييم هذه الأُمور، ويتجاهل غير نفسه في العالم، ولو نظر إليها من هذا المنظار العام لانقلبت إلى الخير والصلاح، واكتست ثوب الحكمة والعدل والنظم. هذا بالإضافة إلى أنّ الحوادث ما هي إلاّ حلقات مترابطة متسلسلة في سلسلة ممتدة، فما يقع الآن منها يرتبط بما وقع في أعماق الماضي، وبما سيقع في المستقبل في سلسلة من العلل والمعلولات والأسباب والمسببات. وهناك تحليل فلسفي آخر للشرور، حاصلة أنّ الشرّ أمر قياسي ليس له وجود نفسي، وإنّما يتجلّى عند النفس إذا قيست بعض الحوادث إلى بعض آخر. وبيان ذلك: أنّ القائلين بالثنوية يقولون: أنّ الله سبحانه خير محض، فكيف خلق العقارب السامّة والحيّات القاتلة والحيوانات المفترسة؟ ولكنّهم غفلوا عن أنّ اتّصاف هذه الظواهر بالشرور اتّصاف قياسي وليس باتّصاف نفسي؛ فالعقرب بما هو ليس فيه أي شرّ وإنّما يتّصف به إذا قيس إلى الإنسان الذي يتأذّى من لدغته، فليس للشرّ واقعية في صفحة الوجود بل هو أمر انتزاعي تنتقل إليه النفس من حيث المقايسة، ولولاها لما كان للشرّ مفهوم وحقيقة. وإلى هذا المعنى تؤول كلمات الفلاسفة القدامى، إذ قالوا: 1- الشرّ أمر عدمي وليس أمراً موجوداً محتاجاً إلى العلّة. 2- الشرّ ليس مجعولاً بالذات بل مجعول بالعرض. 3- إذا تصفّحت جميع الأشياء الموجودة في هذا العالم المسمّاة عند الجمهور: شروراً، لم تجدها في أنفسها شروراً، بل هي شرور بالعرض خيرات بالذات. إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة، وهي: أنّ هناك عاملين دفعاً الإنسان إلى تصوّر أنّ الشرّ أمر عيني خارجي يُعدّ إيجاده على خلاف الحكمة والعدل، وأنّه عصيان عن النظم، وهما: 1- النظرة إلى الأشياء بمنظار الأنانية وتناسي سائر الموجودات. 2- تصوّر أنّ الشرّ له عينية خارجية كالموصوف، والغفلة عن أنّه أمر عدمي يتوجّه إليه الذهن عند المقايسة. هذا كلّه تحليل لمسألة الشرور من وجهة نظر فلسفية. أمّا التحليل التربوي للشرور، فهو: أنّ لهذه الحوادث آثاراً تربوية مهمة في حياة البشر المادّية تارة، وفي إزاحة الغرور والغفلة عن الضمائر والعقول ثانية، ولأجل هذه الفوائد صحّ إيجادها سواء قلنا بأنّ الشرّ موجود بالذات، كما عليه المعترض، أو موجود بالعرض، كما حقّقناه. وتفصيل تلك الآثار التربوية المهمة لتلك الحوادث، هو: أنّ البلايا والمصائب خير وسيلة لتفجير الطاقات وتقدّم العلوم ورقي الحياة البشرية، فهاهم علماء الحضارة يصرّحون بأنّ أكثر الحضارات لم تزدهر إلاّ في أجواء الحروب والصراعات والمنافسات؛ فالإنسان إذا لم يتعرّض للمشاكل في حياته فإنّ طاقاته ستبقى جامدة هامدة لا تنمو ولا تتفتّح، بل تموت تلك المواهب، وخروج الطاقات من القوّة إلى الفعلية رهن وقوع الإنسان في مهب المصائب والشدائد. وإلى هذه الحقيقة يشير قوله سبحانه: (( فَعَسَى أَن تَكرَهوا شَيئاً وَيَجعَلَ اللَّه فِيهِ خَيراً كَثيراً )) (النساء:19). ثمّ إنّ من الآثار التربوية أيضاً هو: أنّ التمتّع بالمواهب المادّية والاستغراق في اللذائذ والشهوات يوجب غفلة كبرى عن القيم الأخلاقية، وكلّما ازداد الإنسان توغّلاً في اللذائذ والنعم ازداد ابتعاداً عن الجوانب المعنوية، فلا بدّ لانتباه الإنسان من هذه الغفلة من هزّة وجرس إنذار يذكّره ويوقظ فطرته، وينبّهه من غفلته, وليس هناك ما هو أنفع في هذا المجال من بعض الحوادث التي تقطع نظام الحياة الناعمة بشيء من المزعجات حتّى يدرك عجزه ويتخلّى عن غروره ويخفّف من طغيانه. ولأجل هذا يعلّل القرآن الكريم بعض النوازل والمصائب بأنّها تنزل لأجل الذكرى والرجوع إلى الله، يقول تعالى: (( وَمَا أَرسَلنَا في قَريَة من نَبيّ إلاَّ أَخَذنَا أَهلَهَا بالبَأسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهم يَضَّرَّعونَ )) (الأعراف:94), يقول تعالى أيضاً: (( وَلَقَد أَخَذنَا آلَ فرعَونَ بالسّنينَ وَنَقص منَ الثَّمَرَات لَعَلَّهم يَذَّكَّروُن )) (الأعراف:130). ومن الآثار التربوية أيضاً: أنّ بقاء الحياة على نمط واحد يوجب أن لا تتجلّى الحياة لذيذة محبوبة، وهذا بخلاف ما إذا تراوحت بين المرّ والحلو، والجميل والقبيح، فلا يمكن معرفة السلامة إلاّ بالوقوف على العيب، ولا على الصحّة إلاّ بلمس المرض، ولا على العافية إلاّ عند نزول البلاء، ولا تُدرك لذّة الحلاوة إلاّ بتذوّق المرارة. ثمّ إنّ هناك من المحن ما ينسبه الإنسان الجاهل إلى خالق الكون، والحال أنّها من كسب نفسه ونتيجة منهجه، بل الأنظمة الطاغوتية هي التي سبّبت تلك المحن وأوجدت تلك الكوارث، ولو كانت هناك أنظمة قائمة على قيم إلهية لما تعرّض البشر لتلك المحن. فالتقسيم الظالم للثروات هو الذي صار سبباً لتجمّع الثروة عند ثلّة قليلة وانحسارها عن جماعات كثيرة، كما صار سبباً لتمتّع الطائفة الأُولى بكلّ وسائل الوقاية والحماية من الأمراض والحوادث، وحرمان الطائفة الثانية منها، فهذه البلايا المصطنعة خارجة عن اطار البحث، فلا تكون موقظة للفكر، ولا مزكّية للنفوس، بل تهيئ أرضية صالحة للانتفاضات والثورات. إلى هنا خرجنا بهذه النتيجة وهي: أنّ الظواهر غير المتوازنة بحسب النظرة السطحية، متوازنة بالقياس إلى مجمل النظام، ولها آثار اجتماعية وتربوية ولا مناص في الحياة البشرية منها، فلا تُعدّ مناقضة للنظم السائد، ولا لحكمة الخالق، ولا لعدله وقسطه سبحانه وتعالى (2) . ودمتم في رعاية الله