وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
مرحباً بك أيها السائل الكريم..
جاء في الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج ٣ - الصفحة ٣٨٣-٣٨٤:
سبب النزول ذكروا أن مشركا من أهل مكة وهو " الحارث بن زيد " كان يعذب أحد المسلمين - ولفترة طويلة - بالتعاون مع أبي جهل، وكان اسم هذا المسلم " عياش بن أبي ربيعة " ولم يكن تعذيبه بسبب جرم اقترفه، بل كان يعذب لمجرد أنه آمن بالإسلام، وبعد هجرة المسلمين إلى المدينة هاجر " عياش " إليها، فصادف يوما " الحارث بن زيد " في إحدى طرقات المدينة فقتله ظنا منه أنه ما زال عدوا للمسلمين، ولم يكن على علم بأن الحارث كان قد تاب وأسلم، فعلم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الحادث، فنزلت الآية الشريفة وهي تبين حكم مثل هذا القتل الناتج عن الخطأ.
لقد أطلقت الآية السابقة أيدي المسلمين في المنافقين الذين كانوا يشكلون خطرا كبيرا على الإسلام، وسمحت لهم حتى بقتل أمثال هؤلاء المنافقين، ولكن تفاديا لاستغلال هذا الحكم استغلالا سيئا، ولسد الطريق أمام الأغراض الشخصية التي قد تدفع صاحبها إلى قتل إنسان بتهمة أنه منافق، وأمام أي تساهل في سفك دماء الأبرياء، بينت هذه الآية والتي تليها أحكام قتل الخطأ وقتل العمد، لكي يكون المسلمون على غاية الدقة والحذر في مسألة الدماء التي تحظى باهتمام بالغ في الإسلام، تقول الآية الكريمة: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ.
هذه الآية تقرر في الواقع حقيقة من الحقائق، فالمؤمن لا يسمح لنفسه إطلاقا أن يسفك دما بريئا، لأن المشاعر الإيمانية تجعل من الجماعة المؤمنة أعضاء جسد واحد، وهل يقدم عضو في جسد على قطع عضو آخر إلا خطأ! من هذه الحقيقة يتضح أن مرتكب جريمة القتل متهم أولا في إيمانه.
وعبارة " إلا خطأ " لا تعني السماح بارتكاب قتل الخطأ! لأن مثل هذا القتل لا يكون عن قرار مسبق، ولا يكون مرتكبه حين الارتكاب على علم بخطأه أنها - إذن - تقرير لحقيقة عدم ارتكاب المؤمن مثل هذه الجريمة إلا عن خطأ.
ثم تبين الآية الكريمة غرامة قتل الخطأ، وتقسمها إلى ثلاثة أنواع:
فالنوع الأول: هو أن يحرر القاتل عبدا مسلما، ويدفع الدية عن دم القتيل إلى أهله إذا كان القتيل ينتمي إلى عائلة مسلمة ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله فإذا وهب أهل القتيل الدية وتصدقوا بها له فليس على القاتل أن يدفع شيئا: إلا أن يصدقوا ... المزید.
والنوع الثاني: من غرامة قتل الخطأ يكون في حالة ما إذا كان القتيل مسلما، ولكن من عائلة معادية للإسلام ويجب في هذه الحالة عتق عبد مسلم ولا تدفع الدية إلى أهل القتيل، لأن الإسلام يرفض تعزيز الحالة المالية لأعدائه، بالإضافة إلى ذلك فإن الإسلام قد قطع الصلة بين هذا الفرد وعائلته المعادية للإسلام، فلا معنى إذن لجبران الخسارة.
أما النوع الثالث: من غرامة القتل الناتج عن الخطأ، فيكون في حالة كون القتيل من عائلة غير مسلمة لكن بينها وبين المسلمين عهدا وميثاقا، في مثل هذه الحالة أمر بدفع دية القتيل إلى أهله، كما أمر - أيضا - بتحرير عبد من العبيد المسلمين احتراما للعهود والمواثيق تقول الآية: وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة....
واختلف المفسرون في قتيل الحالة الثالثة، هل يجب أن يكون من المسلمين، أم أن الحكم يشمل غيرهم من الكفار الذميين؟
وظاهر الآية والروايات التي وردت في تفسيرها تدل على أن المقصود فيها هو القتيل " المسلم ".
كما اختلف المفسرون في جواز دفع الدية إلى أهل القتيل غير المسلمين، حيث أن الدية تعتبر جزءا من الإرث، والكافر لا يرث المسلم، ولكن ظاهر الآية يدل على وجوب دفع الدية إلى أهل مثل هذا القتيل، وذلك تأكيدا من الإسلام لاحترامه للعهود والمواثيق.
وذهب بعض المفسرين إلى أن الدية تدفع في هذه الحالة إلى المسلمين من ورثة القتيل دون الكافرين منهم معتمدين على أن الكافر لا يرث المسلم وأن الدية هي جزء من الإرث، وقد وردت إشارات إلى هذا المعنى في بعض الروايات أيضا.
بينما ظاهر الآية يدل على أن الورثة ليسوا من المسلمين، وذلك حين تقول:
من قوم بينكم وبينهم ميثاق... لأن العهود والمواثيق كانت في ذلك الزمان بين المسلمين وبين غيرهم، ولم تكن بين المسلمين أنفسهم - حينذاك - عهود أو مواثيق، (وهنا يجب الإمعان والتدقيق كثيرا من الأمر).
وتستطرد الآية في بيان الحكم فتتطرق إلى أولئك النفر من المسلمين الذين يرتكبون القتل عن خطأ، ولا يسعهم - لفقرهم - دفع المال دية عن القتيل، كما لا يسعهم شراء عبد لتحرير رقبته غرامة عن ارتكابهم للقتل الخطأ، وتبين حكم هؤلاء، وتعلن أنهم يجب أن يصوموا شهرين متتابعين غرامة عن القتل الخطأ الذي ارتكبوه، بدلا من الدية وتحرير الرقبة، وقد اعتبرت ذلك نوعا من تخفيف الجزاء على الذين لا يطيقون الغرامة المالية وتوبة منهم إلى الله، علما أن جميع أنواع الغرامات التي ذكرت في الآية عن القتل الخطأ، إنما هي توبة وكفارة للذنب المرتكب في هذا المجال، والله يعلم بخفايا الأمور وقد أحاط علمه بكل شئ حيث تقول الآية: توبة من الله وكان الله عليما حكيما.
دمتم في رعاية الله