صادق - ايسلندا
منذ 4 سنوات

التقليد في أصول الدين

بسم الله الرحمن الرحيم (لا يجوز التقليد في أُصول الدين) قاعدة مسلّمة ومعروفة، تعني: أنّ على كلّ إنسان أن يرتكز في عقائده الأساسية، مثل: (وجود الله، وجوب إرسال الأنبياء, عصمة الأنبياء في الجملة...الخ)، على الاجتهاد والتبرير العقلي والاستدلال العقلي بحسب مبلغه من العلم، ولا يجوز أن يستند إلى التقليد بتاتاً.. وهذا الاستدلال والقناعة كما هي مطلوبة ابتداءًً، فيجب أن تبقى استدامةً أيضاً.. فلعلّه توجد أوّل الأمر ولكن بكثرة الاطّلاع والتعلّم ربّما تزول القناعة واليقين بالأدلّة..مثلاً.. السؤال: إذا أوجبنا الاجتهاد على المكلّف فلا مناص لكي يتحقّق الاجتهاد منه أن لا نعيّن له الهدف والنتيجة مسبقاً، ونجبره على اختيارها، وإلاّ نكون قد أفرغنا الاجتهاد من معناه.. فماذا لو وصل - نتيجة اجتهاده الذي أوجبناه عليه - إلى نفي هذه الأُمور, أو: لم تثبت لديه ولم تكن الأدلّة مقنعة تماماً له على الأقلّ؟! هل يُعدّ كافراً ومرتداً؟ وكيف نوفّق بين الحكم بكفره، والحكم بوجوب الاجتهاد على كلّ المكلّفين في أُصول الدين؟


الأخ صادق المحترم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أوّلاً: إنّ الاجتهاد المصطلح عليه في علم الفقه، وإن كان مأخوذاً أصلاً من المعنى اللغوي, وهو: بذل الجهد، إلاّ أنّه تطوّر اصطلاحاً إلى: ملكة يستطيع صاحبها استنباط الحكم الشرعي من أدلّته التفصيلية - على اختلاف في التعريف ـ. المهم أنّهم لا يريدونه في أُصول الدين، وإذا ذكر فيها فإنّما المراد هو المعنى اللغوي, ولذا عبّر جميع المتكلّمين بـ(وجوب النظر والمعرفة)؛ فلاحظ! ثانياً: إنّ طريق الاستدلال في هذا العلم (علم الكلام) هو: اليقين والبرهان, لا الظنون والاحتمالات والأوهام, ولذلك قرّر العلماء ضوابط, ومناهج معرفية يجب سلوكها في هذا الطريق للوصول إلى النتيجة إذ بحثوها ورتّبوها في نظرية المعرفة، السابقة رتبةً على علم الكلام (العلم الإلهي). نعم، إنّهم أوجبوا المعرفة كلّ بحسبه، فقد نصّوا على كفاية العلم الإجمالي، ولكن أيضاً يجب أن يكون حسب المنهج العلمي الصحيح، أي: البرهان المفضي للعلم واليقين. ومن اتّبع المنهج العلمي الصحيح لا بدّ أن يصل إلى العلم واليقين والواقع.. فإذا قيل: لماذا لم يصل مخالفوكم إلى ما وصلتم إليه، ولا يقطعون بما قطعتم به؟ نقول: لا بدّ أنّهم قد أخلّوا بشرط من شروط تحصيل العلم؛ فما يدّعيه الآخرون من مناهج غير منهج الاستدلال العقلي المبين في نظرية المعرفة ليس بشيء، وغير قابلة للاستناد. ثالثاً: ذكر العلماء في سبب وجوب المعرفة: أنّ الإنسان يحتمل وجود المبدأ والمعاد، وأنّ فطرته قبل عقله توجب عليه أن يهتم بهذا الاحتمال، وهذا الاحتمال خطير جدّاً؛ فعقله يوجب عليه دفع الضرر المحتمل، أو شكر المنعم، فيجب عليه النظر لإثبات وجود هذا الاحتمال، أو عدمه، فمن يدفعه لسلوك هذا الطريق في البحث نحو وجود المبدأ والمنعم والخالق هو: عقله، لا غير، ولم يحدّد له أحد مسبقاً ما هو الهدف من خارج نفسه وعقله. أمّا هل يصل، أو لا؟ فذلك حسب وسعه في البحث والاجتهاد ومدى اتّباعه للمنهج العلمي الصحيح دون أن تؤثّر عليه الشبهات، أو ما نشأ عليه من عقيدة. رابعاً: ثمّ إنّ المكلّف العاقل عند بدء البحث والنظر يكون على ثلاث حالات: أ- لم يكن يعتقد بشيء ثمّ بدأ البحث والنظر.. فهذا يكون المطلوب منه حسب قدرته العقلية, واتّساع آفاقه, فإنّ أنظار الناس بذلك مختلفة؛ فقد يكتفي منه بالعلم الإجمالي ويقف هو عليه، ولا ترد عليه شبهة, وقد يتوغّل في العلم التفصيلي حسب قدرته.. ولا بدّ للاثنين من سلوك المنهج الصحيح في البحث والنظر, فإذا سلك وصل, وفي فرض عدم الوصول لغفلة عن بعض المقدّمات، أو قصور في إدراك بعض الحقائق، أو اشتباه في سلوك بعض القواعد، أي: بالمحصل يكون قاصراً لا مقصراً، فهو معذور لا يعاقب، أو يوكل أمره إلى الله، حسب اختلاف آراء العلماء، حتّى لم يحكم بعضهم بكفره؛ إذ قال أنّه: خلاف العدل الإلهي. ولا يشتبه عليك الحال في أكثر المتكلّمين الساعين والجادّين لإثبات أحقّية ما ورثوه عن الآباء والأجداد بكلّ جهد وسعة، لا لإثبات الحقّ والواقع المجرّد, فإنّهم مقصّرون لا قاصرون. ب- كان يعرف على الإجمال، أو التفصيل.. فإذا لم ترد عليه شبهة فلا يلزمه أكثر من ذلك, بل حتّى إذا وردت عليه شبهة ولم يجدها قادحة في إيمانه ومعرفته، لم يكن عليه النظر لحلّها, وهو حال أكثر العوام العالمين بالجملة. وأمّا إذا وردت عليه شبهة تؤثّر على إيمانه ومعرفته، فيجب عليه السعي لحلّها بالتفصيل حسب الشروط، وله المهلة في وقت النظر بمقدار ما يكفي لحلّها دون تقصير وإهمال، ويكون حاله في ذلك حال الشخص في القسم الأوّل، وحال من في القسم الأوّل كحاله في مهلة النظر. وأمّا بالنسبة للإيمان والكفر، فإذا بقي معتقداً؛ لعلمه بالجملة أو التفصيل السابق فهو: مؤمن, وأمّا إذا انتفى علمه؛ للشبهة، واعتقد الكفر، فهو: كافر, وأمّا إذا لم يعتقد بشيء في مهلة النظر، فكما في القسم الأوّل من التوقّف بكفره، أو إيكال أمره إلى الله، أو الحكم بكفره؛ لإنّه كان يعلم بالجملة أو التفصيل سابقاً, باختلاف أقوال العلماء. ج- إذا كان كافراً أو لا يعرف ثمّ بدأ البحث والنظر.. فإذا بقي معتقداً للكفر فهو: كافر, وإذا لم يكن يعتقد بشيء فهو كحال من في مهلة النظر. مع ملاحظة جديرة بالاهتمام, وهي: أنّ الإنسان لا يستطيع أن يقطع بعقله بعدم وجود المبدأ والمعاد إلاّ إذا أحاط بكلّ الوجود، وأحاط بسلسلة العلل والمعلولات، ولم يجد المبدأ والمعاد، وهو: مستحيل. فما لم تتحقّق له هذه المعرفة المحيطة لا يمكنه أن يقطع بنفي المبدأ والمعاد، بل غاية ما هنالك أن يحتمل، أو يشكّ, بأن يقول: لا أعلم.. وعليه، فإنّ مقتضى حكم العقل بالعدل والإنصاف لمثل هذا الإنسان أن يحتاط بأن يواصل بحثه، ويتصرّف كتصرّف المؤمنين؛ لاحتمال وجود المبدأ والمعاد الذي تترتّب عليه السعادة، أو الشقاء, وعدم وجودهما في الواقع فرضاً ليس بضارّه بشيء ما دام سلك سلوك الاحتياط. ودمتم في رعاية الله