ما حقيقة القصّة المروية في بعض كتب السيرة: أنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) استشار أحد الصحابة (وأعتقد.. سعد بن معاذ) في كيفية التعامل مع أسرى من اليهود في إحدى المعارك، فقال له هذا الصحابي: نقتل رجالهم والأطفال الذكور، ونسبي النساء، فوافقه الرسول على ذلك، وقال: إنّه حكم الله فيهم.
فإذا كان هذا صحيح، كيف يمكن الجمع بينه وبين العدالة؟ وما ذنب الأطفال والشيوخ، وما ذنب من لم يقاتل؟ وهل هذا هو تعامل الإسلام مع الأسرى، أم أنّ السيئة تعمّ، كما في القواميس العسكرية؟
الأخ علي المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الثابت من الروايات: أنّ الذي اقترحه سعد وحكم به في أسرى بني قريظة، هو: أنّ الذي لم ينبت - أي لم يظهر شعر العانة لديه - كان حكمه حكم الذرّية، أي: ممّن يصيرون مماليك بالسبي ولا يُقتلون.. وبهذا أفتى علماء الإمامية في أحكام الأُسارى.
قال الشيخ الطوسي في (المبسوط): ((فصل: في حكم الأُسارى: الآدميون على ثلاثة أضرب: نساء وذرّية، ومشكل، وبالغ غير مشكل. فأمّا النساء والذرّية فإنّهم يصيرون مماليك بنفس السبي، أمّا من أشكل بلوغه فإن كان أنبت الشعر الخشن حول الذكر حكم ببلوغه، وإن لم ينبت ذلك جُعل في جملة الذرّية؛ لأنّ سعداً حكم في بني قريظة بهذا فأجازه النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وأمّا من لم يشكل أمر بلوغه، فإن كان أُسر قبل تقضّي القتال فالإمام فيه بالخيار بين القتل وقطع الأيدي والأرجل ويتركهم حتّى ينزفوا، إلاّ أن يُسلموا فيسقط ذلك عنهم، وإن كان الأسر بعد انقضاء الحرب كان الإمام مخيّراً بين الفداء والمنّ والاسترقاق)) (1) .
والروايات في ذلك تنصّ على أنّه أمر بـ(قتل المقاتلة)، (لاحظ: المقاتلة!)، و(سبي الذرّية والنساء)، و(أخذ الأموال). وأمّا لماذا حكم سعد بن معاذ بذلك، فهو ما أشار إليه الشيخ جعفر السبحاني في محاضراته، التي قرّرها الشيخ جعفر الهادي، في كتاب(سيرة سيّد المرسلين)، حين قال: ((ليس من شكّ في أنّه إذا غلبت عواطف القاضي وأحاسيسه على عقله، تعرض جهاز القضاء للفوضى والاختلال، وانتهى إلى تمزّق المجتمع وسقوطه، وانهيار كلّ شيء؛ لارتباط كلّ شيء بالعدالة وارتباط العدالة، بالقضاء والمؤسّسة القضائية.
إنّ العواطف تشبه إلى حدّ بعيد الشهية الكاذبة التي تزّين في نظر صاحبها كلّ مضرٍّ مهلك، في حين إذا غلبت هذه العواطف والمشاعر العقل سحقت مصالح الفرد والمجتمع، أو أضرّت به أشدّ وأبلغ إضرار.
إنّ عواطف سعد وأحاسيسه ومشاعره، ومنظر صبيان ونساء بني قريظة المحزن، وأوضاع رجالهم التي كانت تثير الإشفاق وهم في الحبس، وملاحظة الرأي العام في قبيلة الأوسيّين الذين كانوا يلحّون على سعد أن يحسن الحكم والرأي في بني قريظة، كلّ هذه الاعتبارات كان من شأنها أن تجعل القاضي فريسة العاطفة، فيصدر حكمه على أساس من تقديم مصالح أقلّية خائنة مشاغبة على مصالح الأكثرية (أي عامّة المسلمين) ويبرئ بني قريظة الجناة الخونة، أو يخفّف عن عقوبتهم أكبر قدر ممكن، على الأقل، أو يسلّم لإحدى المقترحات السابقة.
إلاّ أنّ منطق العقل، وحرّية القاضي واستقلاله في الحكم والقضاء ومراعاة المصالح العامّة كلّ ذلك قاد سعداً إلى ناحية أُخرى، فحكم بأن يُقتل رجال تلك الزمرة المتآمرة الخائنة، وتصادر أموالهم، وتُسبى نساؤهم وأطفالهم. وقد استند هذا الحاكم في حكمه هذا إلى الأُمور التالية: أولاً: إنّ يهود بني قريظة قد تعهّدوا للنبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قبل مدّة بأنّهم لو تآمروا ضدّ الإسلام، والمسلمين، وناصروا أعداء التوحيد، وأثاروا الفتن والقلاقل، وألّبوا على المسلمين، كان للمسلمين الحقّ في: قتلهم، ومصادرة أموالهم، وسبي نسائهم.
وقد رأى بأنّه لو حكم بمعاقبة اليهود حسب هذا الميثاق لم يصدر حكماً مخالفاً للعدالة، ولم يرتكب ظلماً. ثانياً: إنّ هذه الزمرة، الناقضة للميثاق، أخلّت بأمن المدينة في ظلّ حراب القوى المشركة، فترة من الزمن، وهاجمت منازل المسلمين، ولولا مراقبة النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) للأوضاع، وحراسة من عيّنهم من جنود الإسلام للحفاظ على أمن المدينة، لفعلت تلك الزمرة الأفاعيل ولارتكبت أسوأ الفضائع والفجائع، ولو أُتيح لهم أن يسيطروا على المدينة، لقتلوا رجال المسلمين، وصادروا أموالهم، وسبوا نساءهم وأطفالهم.
ومن هنا رأى سعد بن معاذ في نفسه بأنّه لو قضى فيهم بمثل هذا القضاء لَما خالف الحقّ. ثالثاً: من المحتمل جداً أنّ سعد بن معاذ رئيس الأوس الحلفاء ليهود بني قريظة، والذين كانت بينهم علاقات ودّ ومحبّة كان مطّلعاً على قوانين اليهود الجزائية في هذا المجال؛ فإنّ التوراة تنص بما يلي: (حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك، فكلّ الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير، ويستعبد لك. وإن لم تسالمك، بل عملت معك حرباً، فحاصرها. وإذا دفعها الربّ إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحدّ السيف، وأمّا النساء والأطفال والبهائم وكلّ ما في المدينة، كلّ غنيمتها، فتغتنمها لنفسك) (2) .
ولعلّ سعداً فكّر في نفسه بأنّ القاضي المرضيّ والمقبول لدى الجانبين لو عاقب المعتدين حسب شريعتهم ما فعل إلاّ ما يقتضيه العدل والإنصاف. رابعاً: والذي نتصوّره هو: أنّ أكبر أسباب هذا الحكم هو: أنّ (سعد بن معاذ) رأى بأُمّ عينيه أنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) عفا عن بني قينقاع المعتدين، بناءً على طلب من الخزرجيين، واكتفى - من عقابهم - بإخراجهم من المدينة، وإجلائهم عنها، ولكن تلك الزمرة التي شملها عفو النبيّ لم تكد تغادر أراضي الإسلام حتّى بدأت بالمشاغبة والمؤامرة الدنيئة ضدّ الإسلام، فذهب كعب بن الأشرف إلى مكّة، وأخذ يتباكى - دجلاً وخداعاً - على قتلى بدر، ويذرف عليهم دموع التماسيح، ولم يفتأ عن تأليب قريش ضدّ رسول الإسلام وأصحابه حتّى عزمت قريش على تسيير جيشها نحو المدينة، وكانت واقعة (أحد) التي استشهد فيها اثنان وسبعون من خيرة أبناء الإسلام، ورجاله. وهكذا فعلت بنو النضير المتآمرون الخونة، الذين عفا عنهم رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، واكتفى من عقابهم بمجرّد إجلائهم عن المدينة، ولكنّهم قابلوا هذا الموقف الإنساني، بتأليب القبائل العربية المشركة ضدّ الإسلام والمسلمين، وكوّنوا اتّحاداً عسكرياًً بينها، وألفوا منها جيشاً قوّياً، ساروا به إلى عاصمة الإسلام (المدينة)، فكانت وقعة (الأحزاب) التي لولا حنكة رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وخطّة حفر الخندق، لقضي على الإسلام بسببها منذ الأيام الأولى، ولَما بقي من ذلك الدين خبر ولا أثر، ولقُتل آلاف الناس. لقد لاحظ سعد بن معاذ كلّ هذه الاعتبارات، فلم تسمح له التجارب الماضية بأن يستسلم لعواطفه، ويضحّي بمصالح الآلاف في سبيل الحفاظ على مصالح أقلّية لأنّه كان من المسلّم به أنّ هذا الفريق سيقوم في المستقبل بإيجاد تحالف عسكري أوسع، وسيثير ويؤلّب قوى العرب ضدّ الإسلام، ويعرّض مركز الإسلام، ومحوره الأساسي للخطر من خلال تدبير مؤامرات أُخرى.
وعلى هذه الأساس رأى بأنّ وجود هذه الزمرة يضرّ المجتمع الإسلامي مائة بالمائة، وأيقن بأنّ هذه الزمرة لو أتيح لها أن تخرج من قبضة المسلمين لَما فتئت لحظة عن المؤامرة، ولواجه المسلمون بسببها أخطاراً كبرى. ومن المحقّق أنّه إذا لم تكن في المقام هذه الجهات والاعتبارات لكان إرضاء الرغبة العامّة في الإبقاء على بني قريظة، أو التخفيف في عقابهم، أمراً في غاية الأهمية بالنسبة إلى سعد بن معاذ، فإنّ رئيس أيّ قوم، أو جماعة، أحوج ما يكون إلى تأييد قومه وجماعته، وكسب رضاهم ودعمهم، ولا ريب أنّ عدم الاستجابة لمطالبهم، وتجاهل توصياتهم يوجّه أكبر ضربة لسيّد القوم ورئيسهم، ولكنّ سعداً (رئيس الأوس) أدرك أنّ جميع هذه التوصيات والوساطات تخالف مصالح الآلاف من المسلمين، من هنا آثر عدم الحياد عن حكم العقل والمنطق، على رضا قومه عنه. هذا وإنّ الذي يشهد بدقّة نظر سعد، وصواب رأيه، وصحّة تشخيصه وتقديره للأمر: أنّه عندما أُتي بحُيَي بن أخطب ليُضرب عنقه، فوقعت عينه على رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: ما لُمت نفسي في عداوتك، ولكنّه من يخذل الله يُخذل.
أي: لولا خذلان الله لليهود لاستمرّوا في معاداة رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وتدبير المؤامرات ضدّه.
ثمّ أقبل على الناس، فقال: يا أيّها الناس! لا بأس بأمر الله، ملحمة كتبها الله على بني إسرائيل.
ثمّ إنّه قتل في هذه الواقعة من النساء امرأة واحدة؛ لأنّها ألقت برحى من فوق الحصن فقتلت به أحد المسلمين، فقتلت قصاصاً.
وكان بين المحكوم عليهم بالقتل رجل اسمه (الزبير بن باطا)، شفع له رجل من المسلمين يدعى: ثابت بن قيس، فلم يُقتل، وأُخلي سبيل زوجته وأولاده، وأعيدت إليه أمواله، وأسلم أربعة من بني قريظة، وقُسّمت غنائم العدو بين المسلمين بعد إخراج الخمس منها، وإخراج ما يرتبط بالأُمور الإدارية الإسلامية العامّة.
وقد أعطي للفارس سهمان، وللراجل سهم واحد، وسلّم رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) أموال (الخمس) إلى يزيد بن حارثة ليذهب بها إلى نجد ويشتري بها العتاد، والسلاح، والخيل، وغيرها من أدوات الحرب. وهكذا انتهت مشكلة بني قريظة في التاسع عشر من شهر ذي الحجّة من السنة الخامسة للهجرة، وقد نزلت في شأن هذه الواقعة الآيات (26-27) من سورة الأحزاب؛ إذ يقول سبحانه: (( وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِن أَهلِ الكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِم وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعبَ فَرِيقاً تَقتُلُونَ وَتَأسِرُونَ فَرِيقاً * وَأَورَثَكُم أَرضَهُم وَدِيَارَهُم وَأَموَالَهُم وَأَرضاً لَم تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيراً )) .
وقد استشهد (سعد بن معاذ)، الذي سبق أن جرح في معركة الخندق، بعد حادثة بني قريظة هذه)) (3) .
ودمتم في رعاية الله