في مسألة المعراج أرى أنّ في بعض الأجوبة تهافت!
كيف تقولون: أنّه عُرج إلى السماء روحاً وبدناً، والحال أنّكم تقولون: أنّه صلّى بالأنبياء هناك في السماء الرابعة؟!
فهل أنّ الأنبياء كانوا أرواحاً فقط، أو أرواحاً وأبداناً وصلّى النبيّ بهم؟!
من المسلّم أنّهم أرواح؛ لأنّهم موتى والقيامة لم تقم حتّى تُبعث أجسادهم من القبور.
وما رأه هناك، بصريح الآية التي أغفلتموها، هو: أنّ الرؤية كانت بالفؤاد، إذ قالت الآية: (( مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى... لَقَد رَأَى مِن آيَاتِ رَبِّهِ الكُبرَى )) ، فكلّ عالم المعراج كان عروجاً روحانياً حسب ما يظهر من ظواهر القرآن، إضافة إلى بعض اللوازم العقلية المحالة التي لا مجال لذكرها هنا.
ثمّ هب أنّ المعراج حصل بالبدن، فهل هناك شرفية للارتفاع المكاني؟ يعني: الذي يكون في الفضاء ببدنه أشرف من الذي يكون على الأرض؟! إنّما الشرف كلّ الشرف في الارتفاع المعنوي والروحي والارتقاء إلى الحقّ المتعال، مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ الله لا يحويه مكان ولا زمان، ونسبته إلى جميع الأمكنة والأزمنة على نحو واحد، فما هي الحاجة إلى عروجه بدناً، والحال أنّ الشرفية للارتقاء الروحي والوصول إلى المبدأ؟!
إن قلتم: إنّه الإعجاز.
قلنا: إنّ الإعجاز يكفي بوصوله الروحي إلى محلّ لم يصل إليه أحد قبله، ولا يصل إليه أحد بعده، ويكفي في الإعجاز الإسراء به من مكّة إلى بيت المقدس روحاً وبدناً، أمّا معراجه فهو في الروح إلى السماوات.
وما ذكرتموه اعتماداً على الظواهر؛ أقول: إنّ الظواهر بخلاف ما ادّعيتموه! مع أنّ البراهين العقلية تعضد العروج الروحي فقط.
الأخ عبد الكريم المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لا يوجد في أجوبتنا أيّها الأخ الكريم أيّ تهافت يذكر!
ولكنّك قد وقعت في اشتباه لعدم اطّلاعك الكافي على الأخبار وتفسير القرآن، ونودّ أن نلفت انتباهك إلى أنّ من كتب هذه الأجوبة - التي استوحشت منها - باحثون متخصّصون في المسائل الاعتقادية، وهم لا يثبتون في الموقع الالكتروني للمركز أي جواب إلاّ بعد أن يخضع للمراجعة والتدقيق، فنرجو منك عدم التسرّع في الحكم.
أمّا بخصوص الشبهة التي أثرتها حول قضية المعراج، فجوابنا عليها هو التالي:
لا نسلّم ما ذهبت إليه من أنّ جميع الأنبياء الذين التقى بهم النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في المعراج موتى؛ لأنّ بعضهم لم يزل على قيد الحياة، كعيسى والخضر وإلياس(عليهم السلام)، أمّا المتوفّون منهم فليسوا مجرّد أرواح لا يمكن إدراكها بالبصر، كما زعمت؛ إذ دلّت الأخبار المنقولة عن الأئمّة الأطهار(صلوات الله عليهم): أنّ الأرواح بعد مفارقتها الأبدان العنصرية تتعلّق بأشباح مثالية تشابه تلك الأبدان، وهذا التعلّق يكون في مدّة البرزخ.
روى ثقة الشيخ في (التهذيب) بإسناده عن أبي بصير، قال: ((سألت أبا عبد الله(عليه السلام) عن أرواح المؤمنين؟ فقال: (في الجنّة على صور أبدانهم لو رأيتهم لقلت فلان) )) (1) .
وعنه: ((قال: قلت لأبي عبد الله(عليه السلام): إنّا نتحدّث عن أرواح المؤمنين، أنّها في حواصل طيور خضر ترعى في الجنّة، وتأوي إلى قناديل تحت العرش؟
فقال: (لا، إذا ما هي في حواصل طير)، قلت: فأين هي؟ قال: (في روضة كهيئة الأجساد في الجنّة) )) (2) .
وعن حبّة العرني، قال: ((خرجت مع أمير المؤمنين(عليه السلام) إلى الظهر (أي: ظهر الكوفة - النجف) فوقف بوادي السلام كأنّه مخاطب لأقوام، فقمت بقيامه حتّى أعييت، ثمّ جلست حتّى مللت، ثمّ قمت حتّى نالني ما نالني أوّلاً، ثمّ جلست حتّى مللت، ثمّ قمت وجمعت ردائي، فقلت: يا أمير المؤمنين إنّي قد اشفقت عليك من طول القيام فراحة ساعة. ثمّ طرحت الرداء ليجلس عليه، فقال لي: (يا حبّة! إن هو إلاّ محادثة مؤمن أو مؤانسته). قال: قلت: يا أمير المؤمنين وإنّهم لكذلك؟ّ! قال: (نعم، ولو كشف لك لرأيتهم حلقاً حلقاً محتبين يتحادثون ... المزید) )) (3) .. الحديث.
قال الشيخ البهائي(قدّس سرّه): ((ما تضمنته هذه الأحاديث من أنّ الأشباح التي تتعلّق بها النفوس ما دامت في عالم البرزخ ليست بأجسام، وأنّهم يأكلون ويشربون ويجلسون حلقاً حلقاً على صور أجسادهم العنصرية يتحدّثون ويتنعّمون، وإنّهم ربّما يكونون في الهواء بين الأرض والسماء يتعارفون في الجو ويتلاقون ونحو ذلك، ممّا يدلّ على نفي الجسمية وإثبات بعض لوازمها، يعطي أنّ تلك الأشباح ليست في كثافة المادّيات، ولا في لطافة المجرّدات، بل هي ذوات جهتين وواسطة بين العالمين.. الخ)) (4) .
وقد دلّك الحديث الأخير الذي ذكرناه عن حبّة العرني: أنّ بعض الناس من الكمّل، كالأنبياء والأوصياء، يقدرون على معاينة هذه الأشباح، بل والاتّصال معها أيضاً، وهنالك أخبار أُخر ضربنا عنها صفحاً تدلّ بشكل قاطع على إمكان التواصل بين الأحياء والأموات، لا يسعنا الآن ذكرها.
واعلم أنّ عالم البرزخ أو عالم المثال هو من جملة عالم الملكوت، وقد كشف الله تعالى الملكوت لطائفة من أنبياءه، كإبراهيم(عليه السلام): (( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ )) (الانعام:75). أمّا ملكوت السماوات، فهو الملكوت الأعلى الذي تسكنه الملائكة.
وأمّا ملكوت الأرض، فهو عالم البرزخ الذي أشرنا إليه.
ونبيّنا العظيم محمّد(صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليس بأدنى درجة من إبراهيم(عليه السلام)، بل هو أعلى رتبة منه بالقطع واليقين، فمن التعسّف إذاً أن ننسب إلى إبراهيم(عليه السلام) رؤية الملكوت ونمنعه عن نبيّنا محمّد(صلّى الله عليه وآله وسلّم).
إذا اتضّح لك ذلك، علمت بأنّ رؤية النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) للأنبياء(عليهم السلام) في المعراج كانت مكاشفة حقيقية لا مجرّد رؤيا في منام، وحينئذ فلا ينبغي لك أن تستوحش من صلاته(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالأنبياء ما دام قادراً على مشاهدتهم ومكاشفتهم.
أمّا ما حسبته دليلاً على نفي العروج المادّي (الجسماني)، وهو: قوله تعالى: (( مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى )) (النجم:11), فليس كذلك؛ لأنّ هذه الآية والآيات السابقة لها من سورة النجم راجعة إلى بدء الدعوة، ولا تمتّ إلى حديث المعراج بصلة؛ ارجع إلى التفاسير المعتبرة لتتّضح لك جليّة الأمر. أمّا ما يتعلّق بالمعراج فيبتدأ بقوله تعالى: (( وَلَقَد رَآهُ نَزلَةً أُخرَى * عِندَ سِدرَةِ المُنتَهَى )) , إلى قوله: (( لَقَد رَأَى مِن آيَاتِ رَبِّهِ الكُبرَى )) (النجم:13-18), وقد ذكر العلاّمة الشيخ جعفر السبحاني في ذيل بحثه عن المعراج في كتابه (مفاهيم القرآن) جملة من النقاط، نذكر بعضاً منها، ونحيلك إلى مراجعة هذا البحث برمّته في المصدر، قال:
((الإمعان في مجموع الآيات الواردة حول إسرائه وعروجه ينتهي بنا إلى عدّة أُمور:
1- إنّه قد أُسري بالنبيّ ليلاً على جهة القطع.
2- إنّ النبيّ أُسري وعُرج بروحه وجسده ولم يكن ذلك رؤيا.
3- بدأ الإسراء من المسجد الحرام... وأمّا مبدأ المعراج فلو كان متّصلاً بالإسراء، فيكون مبدأُه من المسجد الأقصى.
4- منتهى الإسراء هو: المسجد الأقصى، وأمّا منتهى المعراج فهو: منتهى السماوات، كما يفيده قوله: (( عِندَ سِدرَةِ المُنتَهَى )) .
5- كان الغرض من الإسراء والمعراج إراءة الآيات، كما يتضمّنه قوله: (( لِنُرِيَهُ مِن آيَاتِنَا )) (الاسراء:1)، وقوله (( لَقَد رَأَى مِن آيَاتِ رَبِّهِ الكُبرَى )) (النجم:18).
6- إنّ النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) رأى جبرئيل بصورته الأصلية مرّتين: مرّة في بدء الدعوة، ومرّة في المعراج.
7- قد دنا جبرئيل من النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) على حدّ لم يبق بينهما مسافة إلاّ مقدار قاب قوسين أو أدنى.
8- لم يكن هناك خطأ في تلك الرؤية، فما أخطأ فؤاده وما زاغ بصره وما طغى)) (5) . أمّا قولك: ((هب أنّ المعراج حصل بالبدن، فهل هناك شرفية للارتفاع المكاني؟)).
فنقول: إنّ إنكار شرفية العروج الجسماني مكابرة! لأنّ الجسم ليس من شأنه العروج إلى الأعلى، فإذا عُرج فإنّما يعرج بمعاكسة القانون الطبيعي وخرق أسبابه، وفي ذلك من المزيّة ما لا يمكن جحده، وهو بطبيعة الحال مزيد عناية واختصاص من قبل الباري تعالى للنبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم)؛ إذ خرق له الناموس الطبيعي، وجعله يطأ بقدمه البقاع المقدّسة في السماوات، فكيف لا يكون في ذلك شرفية؟!
ودمتم في رعاية الله