السلام عليكم ورحمة الله و بركاته
مرحباً بك أيها السائل الكريم ..
الظّاهر أنّ لبس السواد عند المصيبة من التقاليد المعروفة عند الأُمم والشعوب قبل الإسلام وبعده؛ فكان الإيرانيون، واليابانيون، والرومانيون، والمصريون، واليهود القدماء، وغيرهم يلبسون السواد حداداً وحزناً على موتاهم، وإنْ كانت بعض الأُمم تلبس ألواناً أُخرى، ولم يكن ذلك عن غير قصد، بل لكلّ تقليد في اللباس منشأ وقصد؛ فإنّ كلّ أُمّة أو شعب يدّعي أنّ اللون الذي يختاره يرمز إلى شيء؛ فالأصفر يرمز إلى سقوط الجسد؛ لأنّه لون الورقة عند ذبولها، والأزرق يرمز إلى المسكن السماوي الذي تصير إليه نفس الصدّيق، والرمادي إشارة عند البعض إلى أدمة التراب الذي منه المنشأ وإليه المصير، والأبيض عند الصينيين إشارة إلى الطهارة والخلود، والأسود عند الرومان واليونان إشارة إلى المقر المظلم الذي يصير إليه كلّ ميّت ١ .
ولعلّ الأسود عند العرب والمسلمين يرمز إلى ما تقدّمت الإشارة إليه من انطفاء شعلة الحياة، فتكون الدنيا مظلمة ومسودّة في عيون الأقرباء.
وقيل: إنّ المتأخرين من الشعوب المتمدّنة تكاد تكون ملابس الحداد عندهم واحدة، ويحسبون اللّون الأسود أليق من سائر الألوان ٢.
وهناك شواهد كثيرة على جريان هذه العادة بين مختلف الأقوام، والعرب على الخصوص، حتّى قيل: إنّ أوّل مَن خالف ذلك ولبس البياض عند الحزن على الميت هم ملوك الغرب (أي: الأندلس) من بني أُميّة؛ قصداً لمخالفة بني العباس في لباسهم السواد ٣، وأنّ أهل الأندلس أخذوا ذلك من الأُمويين ٤، وفي ذلك يقول الحسن ابن علي بن عبد الغني الحصري: ٥:
إذا كان البياض لباس حزنٍ
بأندلس فذاك من الصواب
فإن يُقتلوا فالقتل أكرم ميتة
وكلّ فتى يوماً لإحدى الشواعبِ
ألم ترني لبست بياض شيبي
لأنّي قد حزنت على الشباب
و«قيل لراهبٍ عليه مدرعة شعر سوداء: ما الّذي حملك على لبس السواد؟ فقال: هو لباس المحزونين وأنا أكبرهم ... المزید»٦
و«قال بعضهم: لقيت راهباً عليه سواد، فقلت له فيه، فقال: ما تلبس العرب إذا مات لهم ميّت؟ قلت: السواد. قال: فأنا في حداد الذنوب»٧
ولمّا أصابت قريش من النبي سلام الله عليها وأصحابه يوم أُحد، سوّد الأنصار الثياب كما تصنع العرب في ثيابها عند المصائب.٨
ومن الشواهد الواضحة على ذلك أيضاً تفسير اللّغويين للحداد بأنّه «ثياب المأتم السود»٩ وكذا (السلاب)، فقد رُوي عن الرسول سلام الله عليها أنّه «قال لأسماء بنت عميس بعد مقتل جعفر: (تسلّبي ثلاثاً، ثمّ اصنعي ما شئتِ)، أي: البسي ثوب الحداد، وهو السلاب، والجمع سلب، وتسلّبت المرأة إذا لبسته، وقِيل: هو ثوبٌ أسود تُغطّي به المُحدُّ رأسها. ومنه حديث بنت أُمّ سلمة (أنّها بكت على حمزة ثلاثة أيّام وتسلّبت)»١٠ .
وقال ابن منظور: «وفي الحديث عن أسماء بنت عميس: أنّها قالت: لمّا أُصيب جعفر أمرني رسول الله سلام الله عليها، فقال: (تسلّبي ثلاثاً، ثمّ اصنعي بعدُ ما شئتِ). تسلّبي، أي: البسي ثياب الحداد السّود...» ١١ .
فهذه كلّها شواهد على أنّ الأسود لباس الحزن والحداد عند العرب قبل الإسلام وبعده.
المصدر :شعيرة لبس السواد في المنظار الفقهي{ الشيخ عدنان الشامي }،مؤسسة وارث الانبياء ،الدراسات التخصصية في النهضة الحسينية .
المصادر والمراجع :
١-اُنظر: البستاني، بطرس، دائرة المعارف: ج6، ص710 ـ 713.
٢-اُنظر: المصدر السابق: ص712.
٣-اُنظر: السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر، الوسائل إلى معرفة الأوائل: ص80.
٤-السيوطي، عبد الرحمن بن أبي بكر، المحاضرات والمحاورات: ص408.
٥-المصدر السابق.
٦-ابن فهد الحلي، أحمد بن محمد، التحصين: ص15.
٧-الزمخشري، محمود بن عمر، ربيع الأبرار ونصوص الأخبار: ج3، ص747.
٨-اُنظر: أخبار الدّولة العباسية، لمؤلف مجهول من القرن الثالث الهجري: ص247
٩-الجوهري، إسماعيل بن حمّاد، الصّحاح: ج2، ص463.
١٠-ابن الأثير، المبارك بن محمد، النهاية في غريب الحديث: ج2، ص387.
١١-ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب ج1، ص473، وأيضاً: ج2، ص83