الأخوة في مركز الأبحاث نسأل الله لكم الهداية.
وأود أن أخبركم أنّني من المتابعين الجادين لهذا المركز، علّى أصل إلى الحقّ الذي يرضاه الله لي ويبرئ ذمتى عند الله يوم القيامة، غير أنّي لم أستسغ كثيراً من الأفكار التي تحومون حولها خصوصاً العصمة والنص وغير ذلك. ويعلم الله أنني لست متحاملاً على هذا المذهب، بقدر ما قررت في نفسي بأنّي لو وجدت ما يريحني من حيرتي لسلكت ذلك السبيل عن قناعة ورضى. أيّها الأخوة كما قلت لكم لماذا هذه المقدمات الكبيرة كالعصمة والنص وغير ذلك، وأنتم لم تأتونا بنص جليّ على العصمة، لا في القرآن ولا في السُنّة وانّما كلّه استنباط، كما أنّه لو كان التطهير وإذهاب الرجس يدلّ على العصمة، فلم لا يقول الله عليّ معصوم ويريح الناس في هذا الأمر الذي عددتموه أصلاً من أصول المذهب، فمتى كانت الطهارة تعني العصمة؟ أترى أنّ قوله تعالى (( خُذ مِن أَموَالِهِم صَدَقَةً تُطَهِّرُهُم وَتُزَكِّيهِم بِهَا )) (الأنفال:103) هل يعني هذا أنّ الصدقة تجعلهم معصومين؟ وأنّي أعلم أنّكم ستفلسفون هذه الآية وتجدون مخرجاً، ولكن كلّ ما أريد أن أقوله: أنّ الأصول لا بد أن يرد فيها النص الظاهر في الثبوت والدلالة، وإلاّ صار الدين مجرد ألغاز وطلاسم لا تفهم إلاّ بنصوص أخرى، وتلك الأخرى تحتاج الى أخرى، وهكذا تتسلسل النصوص الى أن يأتي النص القاطع في الحكم.
من هنا اقتضت الحكمة الالهية أن تأتي النصوص الكلية والأصول في الإسلام ظاهرة محكمة يفهما كلّ الناس، وإنّما يحتاج إلى الفقه والإجتهاد في مسائل فرعية وقضايا لا يبنى عليها إيمان ولا كفر. ولذا أيّها الأخوة تأملت كثيراً في أصول مذهبكم وأصول مذهب السنة، فوجدت أنّ الأصول في السُنّة كلّها مقبولة عقلاً وشرعاً، والأدلة عليها سهلة وواضحة في القرآن والسُنّة يصل إليها كلّ أحد، بخلاف أصولكم التي لا تصح إلاّ بمقدمات خارج الدليل بحاجة الى دليل آخر، وذلك باطراد.
ويعلم الله أنني مع كثر اطلاعي وقراتي في كتبكم ومراجعكم، لم أجد دليلاً واحداً خاصّة من القران مستقلاً بذاته، بل بحاجة إلى نص من السنة، ولقد رجعت إلى أحد الكتب المعتبرة وهو (منهاج الكرامة) لابن المطهّر الحلّي، وقرأت ما كتبه في البراهين الدالة على إمامة عليّ من القرآن الكريم، وقد أورد المصنف أكثر من ثلاثين برهاناً على حدّ قوله من القرآن الكريم، والغريب أنّي لم أجد برهاناً من تلك البراهين إلاّ في أخبار من كتب الثعلبي وأبي نعيم، فأين القرآن؟ وهو قد حدد أنّها من القرآن، لكن لم أجد شيئاً منها من القرآن.
فأقول أيّها الأخوة؛ لماذا الإتكاء على أمور محتملة وجعلها من أصول الدين؟ دعوني أصارحكم بما يدور في رأسي الآن بعيداً عن النصوص، ولنأتي الى الواقع الذي عاشه عليّ وغيره، ودعونا نتأمل أهكذا يكون المعصوم؟ 1- تولى عليّ الخلافة بعد مقتل عثمان وكانت الأمّة واحدة موحدة مجتمعة على إمامها، فصارت الأمّة ثلاثه أقسام، مع عليّ قسم بايعه وقاتل معه، وقسم رفض مبايعته وهم أهل الشام، وقسم لا معه ولا عليه وهم أكثر السابقين الأولين، وهنا يرد تساؤل: كيف ساغ لأكثر الناس أن يتخلفوا عن البيعة لإمام معصوم وقد بايعوا من لم يكن معصوماً قبله؟ ولماذا لم يحتج عليهم عليّ بأنّه معصوم واجب البيعة؟ 2- المهم نحن نعلم أنّ عليّاً كاد أن يحسم الأمر لصالحه في صفين، لولا الحيلة الذكية من معاوية ومن معه في رفع المصاحف والدعوة الى التحكيم، هنالك توقف القتال وأدى التحكيم إلى ما أدى إليه من عدم حصول المصلحة منه، بل تفرق الناس على عليّ وبايعوا معاوية خليفة، بعد أن اتفق الحكمان على عزل كلّ من عليّ ومعاوية وترك الأمر شوري بين المسلمين.
والسؤال: هنا جرى الصلح بموافقة عليّ أم لا؟ فإن كان الأوّل: فما هكذا يكون عمل المعصوم الذي لا يخطئ، بل كان الحزم من عليّ أن يكمل المعركة ويحسم الأمر، لا أن يجر على نفسه من المتاعب والخسارة ما جره وقف المعركة وقصة التحكيم، فإنّه من المعلوم أنّه منذ ذلك الوقت [التحكيم] بدأ أمر عليّ في الضعف وأمر معاوية في القوة، حتى انتهى الأمر بخروج مصر واليمن والمدينة ومكة وغيرها من أمر علىّ وصارت في أمر معاوية. أمّا إن كان الثاني: أي أنّ الصلح تم بدون رضاه وأنّه أكره على ذلك، فهذ أبلغ في الحجّة عليكم، في أنّ أصحاب على الذين حاربوا معه كانوا لا يعلمون له عصمة، وإلاّ لما جادلوه في الأمر وأكرهوه على التحكيم، بل كانوا أشد تحمساً للحرب معه، كونهم يعلمون أنّهم يقاتلون مع معصوم.
فكيف تفسرون لنا موقف عليّ من الصلح؟ وبأيّ حقّ ساغ لعليّ أن يجعل الأمر في الصلح لأبي موسى، وهو الذي عزله بعد ذلك عن الخلافة حتى يكون الأمر شورى بين المسلمين؟ أكان أبو موسى موثوقاً من عليّ! فكيف ساغ له عزل المعصوم، وإن كان غير ذلك فلماذا اختاره علىّ على غيره؟
أرأيتم أيّها الأخوة كيف أنّ الأمر لا يستقيم بالقول بعصمة عليّ، وإنّما الامر بغير ذلك أقرب الى الصواب والفهم، وهو الواقع الذي حدث، فأهل السُنّة ينظرون إلى عليّ أنّه كان أحقّ بالأمر من غيره آنذاك، ولكنه بلي بقوم لا يطيعونه في الغالب، وجروه إلى بعض الأمور التي كان يرى أنّ الصواب في خلافها، ومع ذلك اجتهد في كلّ أموره وسيأجره الله عليها، على كلّ حال فما كان في مقدوره في اصلاح أمر الأمّة أكثر من ذلك رضي الله عنه وأرضاه. أما عند الشيعة فلا يمكن أن يفهم موقف علىّ من تلك الأحداث، كما بيّنا؛ إلاّ أن يكون المعصوم مقهوراً حتى من أصحابه، لا تفيده عصمته ولا تفيد أصحابه، بل يأمرون بخلافها وهو لا يمانع ولا يملك من أمر نفسه شيئاً مع معرفته بالحق، ولكنه يسلك معهم حيث يريدون بخلاف الحقّ الذي يعلمه، فأيّ عصمة هذه، وما الذي أفادت الأمّة من المصالح خاصّة. وإنّ الأئمة الثلاثة السابقين مع كونهم ليسوا معصومين، لكن حال الأمّة معهم أصلح وأقوى، والجهاد ماض، والاسلام عزيز، والناس يدخلون فيه أفواجاً، والأمّة متحدة في كلّ شؤنها على خليفتها، بعكس الأمر أيام عليّ، فكيف صلحت أمور الناس واستقامت مع غير المعصومين، واضطربت واختلفت مع المعصوم؟ فإذا كان الأمر كذلك كان أمر الأمّة بلا معصوم أفضل وأقوم. وأخيراً قد تقولون ما اعتدنا عليه دائماً، من أنّ كلّ تلك الأمور التي جرت كان عليّ يعلمها ويرضاها، لأنّها ممّا كتبه الله عليه وعلى الأمّة، كما تقولون في الحسين بن علىّ بأنّه كان يعلم أنّه سيقتل ولكنّه نفذ المشيئة. فنقول: إنّ الله لا يرضى إلاّ بالطاعة ولا يرضى بالمعصية، فإن كان وقف القتال في صفين والرضا بالتحكيم ممّا يرضاه الله، فقد فعل عليّ الصواب ولم تنفعه عصمته هنا، وكان ذلك حجّة لمعاوية ومن معه ممّن قاتل عليّاً، وإن كان ذلك ممّا لا يرضى به الله، بل كان الله يرضى بالحسم وخالفه علىّ، فقد ترك عليّ ما يرضى الله بعد أن قهره أصحابه على رأيهم الآخر، وما ذلك شأن المعصوم.
الأخ علي المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نشكرك على هذا الإهتمام بالموقع ونسأل الله أن يهديك إلى الصراط المستقيم والحقّ الذي يرضاه.
ثم.. أنّنا نراك قد أوردت تعليقك تحت موضوع آية التطهير, مع أنّك لم تتطرق إلى ما مذكور من بحث حولها، ولا إلى الإجابة على الإشكالات الواردة هناك، إلا بالإشارة من بعيد إلى أنّها استنباط أو تفلسف, وأنّ الطهارة لا تعني العصمة بدلالة آية التصدق. وسيأتي بعض الجواب على ما قلته بالتسلسل.
ولكن إذا كان ما نقوله إستنباط؛ أفلا يحتاج إلى جواب؟ ثم من أين لك إنّ الإستنباط ليس بحجّة؟! أليس ما يفعله العلماء كلّهم سوى الإستنباط.
إنّ الإستنباط قسمان: إستنباط صحيح، وثبتت حجية مقدماته؛ فهو حجّة, وإستنباط خاطيء وأن مقدماته ليست بحجّة، فهو ليس بحجّة. ومن المعلوم أنّ النقاش العلمي يكون في إثبات حجية وصحة الإستنباط من عدمه، لا في أصل الإستنباط! فما هذا إلاّ من الخطأ في فهم المنهج العلمي والشرعي، إن لم نقل من الغفلة والشبهة.
وعلى كلّ؛ فإنّا نراك لم تناقش في الأدلة التي أقامها العلماء على إثبات العصمة، وهي المعول في البحث العلمي وتركتها جانباً, واقتصرت على ذكر بعض ما تصورته من النقوض الجزئية لرد القول بالعصمة, وهذه النقوض لا تخرج عن كونها أوهام، دائرة الآن في الساحة على الإنترنيت، لا تصمد أمام البحث، وسنبين ما فيها لاحقاً. ومن هنا تبيّن لنا؛ أنّ المشكلة عندك ليست في الأدلة، إذ لم تناقشها إلاّ لماماً! وإنّما المشكلة هي في المنهج المتبع، أو عدم إدراك كليات وقواعد المنهج اللازم إتباعه في البحث العلمي عموماً، والبحث العلمي في علم الكلام، أو كلّ علوم الشريعة خصوصاً, وقد تستنكر ذلك الآن وترفضه! ولكن سنوضح لك ذلك بما يسعنا من مجال. ولنبدأ من بداية كلامك بالتسلسل: أولاً: بعد المقدمة التي ذكرتها في سطر ونصف تقريباً، قلت: ((غير أنّي لم أستسغ كثيراً من الأفكار التي تحومون حولها)).
فنقول: إنّنا سنأخذ كلامك على المعنى المفهوم من ظاهر الألفاظ التي ذكرتها، التي يتعامل ويتعاطى بها أصحاب اللغة العربية, نقول هذا إذ لعلك لا تقصد بالحرف المعنى الذي سوف نفهمه من ظاهر اللفظ، وإنّما ذكرته من جهة المسامحة في التعبير، وهي منتشرة كثيراً عند الكتاب, ولكن نحن لا نعلم الغيب، وإنّما نأخذ بظاهر الكلام.
فأنت تقول: ((أنّي لم أستسغ)), فمتى كان الدليل العلمي يقوّم بالإستساغة أو عدمها, أو التفاعل, أو الحبّ, أو الرغبة, وما إلى ذلك؟! إنّ حجية الدليل تتم بسلامة مقدماته، مادة وصورة، فإذا أورثت القطع فهو المطلوب, أو ترجع بالنهاية إلى دليل قطعي، كما في الحجج الظنية في الفروع, ونحن لا نطرح في موقعنا أفكاراً مجردة للترف العلمي, وإنّما نطرح أدلّة علمية قطعية تكفي للحجية في باب العقائد وأصول الدين والشريعة, فلاحظ, خاصّة ما نطرحه في باب النص على الإمامة والتي من لوازمها العصمة, فإنّ هذه المسألة ممّا لا يتسامح بها في الدين والعقيدة.
ثم قلت: ((التي تحومون حولها)), فنحن لا نحوم حول هذه المسائل, بل نستدل عليها مباشرة من دون تعريض، ونثبتها بالقطع بكلّ صراحة ووضوح. ثانياً: قلت: ((ويعلم الله أنني لست متحاملاً على هذا المذهب ... المزیدالخ)), فهذا هو الإنصاف والحيادية، وهو المطلوب من كلّ أحد يريد السلامة لدينه، ويخاف يوم المعاد ويوم لا تنفع الأشهاد, ونشد على يدك في ذلك, ولكن هل استطعت أن تخرج عن ميلك إلى جانب معين وتلتزم الحياد في كلّ مسألة؟ سنرى فيما يأتي! ثالثأ: قلت: ((أيّها الأخوة كما قلت لكم؛ لماذا هذه المقدمات الكبيرة كالعصمة والنص)), نحن لا نقدم مقدمات! فليس الأمر هو مقالة صحفية حتى نقدم لها مقدمات تهيء ذهن القارئ, وإنّما هي الأدلة إذا صحت لزم المطلوب وتمت الحجّة. رابعاً: قولك: ((وأنتم لم تأتونا بنص جلّي على العصمة، لا في القرآن ولا في السنة، وإنّما كلّه إستنباط)), هنا لابد من أن نبيّن بعض القواعد والمباني المستخدمة في الاستدلال، كما وعدناك، والمبحوث بعضها في علم الكلام وعلوم القرآن وأكثرها في علم أصول الفقه:
من الواضح أنّك حصرت موضوع كلامك على الدليل النقلي، ولم تتطرق إلى الدليل العقلي, إذ قولك: ((بنص جلّي...الخ)) يدلّ على ذلك, ونحن نحبّ أن ننبهك إلى وجود أدلّة عقلية عندنا على وجوب الإمامة ولزوم عصمة الإمام, ولا تتم الحجّة عندك إلاّ بالبحث فيها وردها أو قبولها, ولكن بما أنّك لم تذكر شيئاً منها فإننا سنعطف عنان القلم إلى القواعد المستخدمة في الاستدلال من الدليل النقلي, فنقول:
إنّ الدليل النقلي يأخذ من القرآن ومن السُنّة بأقسامها من القول والفعل والتقرير, والظاهر من كلامك أنّك ترى حجيتهما معاً, فقولك: ((لا في القرآن ولا في السنة)) يدلّ على ذلك! على العكس من بعض المتشدقين هذه الأيام، الذين يطالبون بالدليل من القرآن ويعزلون السُنّة عن حجيتها ودلالتها, ولذا فنحن سوف نترك الردّ عليهم، لعدم الدعوى عليه هنا.
ثم إنّ الدليل النقلي ينقسم من حيث الصدور إلى: قطعي الصدور, وظنّي الصدور. وقطعي الصدور كالقرآن والسُنّة المتواترة, والظنّي الصدور كالخبر الواحد.
وينقسم أيضاً من حيث الدلالة إلى: نص قطعي الدلالة, وظاهر ظنّي الدلالة.
والقطعي الصدور حجّة بذاته لقطعيته, والظنّي الصدور لابد أن يرجع إلى دليل قطعي يدلّ على حجيته, كما في الخبر الواحد الذي قامت الأدلة القطعية على حجية الصحيح أو الموثق على الإختلاف بين المدارس الفقهية.
والنص القطعي حجّة لقطعيته أيضاً, والظاهر حجّة أيضاً وإن كان ظناً لما قامت الأدلة القطعية على حجيته، كإتفاق أهل اللغة وسيرة العقلاء وأهل الدين, وهو واضح من جهة تعامل الفقهاء والعلماء, بل كلّ الناس مع ظواهر القرآن وظواهر السنة.
وعليه فالدليل القطعي التام الدلالة؛ يجب أن يكون قطعي الصدور ونص في المطلوب, ولا يكون قطعياً إذا كان ظنيّاً من أحد الجهتين، سواء كان ظنّي الصدور أم ظاهر في الدلالة, ولكن هذا حكم القطع, ولا يعني عدم حجية الدليل المظنون من جهة الصدور أو الدلالة مطلقاً, وهناك عبارة مشهورة تبين مقدار حجية الظنّ، وهي: ((إنّ الظن لا يورث علماً ولكن يوجب عملاً)), أي يجب العمل به في الفروع والفقه ولا يجب الأخذ به في العقائد.
ولكن هذا المبنى خالف فيه البعض خاصّة أهل الحديث سابقاً والوهابية لاحقاً, فإنّهم يتمسكون بالخبر الصحيح في العقائد مع أنّه ظنّي الصدور، وفي أغلب الأحيان ظنّي الدلالة أيضاً. وأمّا الشيعة الإمامية؛ فإنّهم في العقائد لا يقبلون إلاّ الدليل القطعي صدوراً ودلالة, نعم يعملون بالظنون المعتبرة في الفروع, والدليل القطعي في أصول الدين عندهم أعم من الدليل العقلي والدليل النقلي, المهم أنّه يجب أن يورث القطع, وهم يدّعون وجود الأدلة القطعية على عقائدهم من كلا النوعين عقلاً ونقلاً.
والدليل النقلي من السُنّة عندهم؛ ربما يكون قطعيّاً صدوراً لأنّه نص متواتر، ويسمونه متواتراً لفظيّاً، ربما يكون متواتراً معناً ومضموناً ويسمونه المتواتر المعنوي, والمتواتر اللفظي؛ ربما يكون نص في الدلالة لا يحتاج إلى استدلال، فيطلق عليه النص الجلي, على بعض الإصطلاحات، مقابل ما يحتاج إلى استدلال فيسمى النص الخفي, وهو حجّة أيضاً إذا تم فيه الاستدلال، فلا تتوهم اقتصار الدليل المقبول على النص الجلي! وأيضاً إنّ الظواهر المتعددة إذا تعددت ووصلت حدّاً يورث القطع دخلت في الدليل القطعي.
فما قلته من ((لم تأتونا بنص جلي على العصمة....الخ)), إن كنت تريد النص الجلي بإصطلاحنا؟ فقد ذكر علمائنا عدّة نصوص جلية على العصمة, روها في كتبهم الحديثية (1) , فراجع, هذا أولاً. وثانياً: أنّنا لم نقصر الدليل على الجلي، وإنّما الخفي أيضاً دليل تام عندنا بعد الاستدلال, وهذا كثير في كلامنا، بل أنّنا نقطع بأنّ العصمة لازمة للإمام من جهة العقل! وإن كنت تريد أن تأسس لقاعدة عندك، وهي أنّه لابد في أصول الدين من نص واضح صريح في المطلوب غير ظاهر ولا يحتاج إلى استدلال, فيجب عليك أوّلاً: أن تأسس لهذه القاعدة، وتستدل عليها ثم تطالب الآخرين بها, وأمّا إذا لم تُقِم الدليل عليها، أو ثبت بطلانها، فلا تستطيع أن تحصر الدليل على عقائدك بها, وأمامك أقوال علماء المسلمين في الكلام والقرآن والفقه وأصوله كلّها تنقض هذه القاعدة, بل أنّ التمسك بها والإقتصار على النصوص في المطلوب، يؤدي إلى ضياع معظم عقائد المسلمين, بل ذهاب علم الكلام وتفسير القرآن من أساسه فضلاً عن الفقه، والقرآن نفسه يدحض كلامك! فالقرآن حمال أوجه, استدلت به كلّ فرق المسلمين، منزهٍ ومشبه، قدري وجهمي, واستدل به الإمامية والمعتزلة والأشاعرة والخوارج والكرامية وغيرهم, فأين النصوص الظاهرة المدعاة عند كلّ هذه الفرق؟ ومن الذي اقتصر عليها من هذه الفرق, حتى تطالب الشيعة هم وحدهم بها؟! مع أنّ الشيعة لديهم من النصوص الظاهرة الواضحة ما هو مسطور في كتبهم, ولا يخدش في ذلك إنكار منكر أو ادعاء مدّع بعدم نصيتها ووضوحها, كما لا يضر الأمر البديهي إذا أنكر شخص ما بداهته, فإنّ هذا لا ينبع إلاّ عن عناد أو غفلة أو شبهة. وممّا قدمنا يظهر ما في كلامك: ((إنّ الأصول لابد أن يرد النص الظاهر في الثبوت والدلالة)) من خلط!! فإنّ النص غير الظاهر, إلاّ إذا كنت تريد من (الظاهر) الوضوح والصراحة فيرجع إلى كلامك الأوّل, وقد أجبنا عليه بأنّه دعوى غير مثبته لا غير. ونحن نعلم منبت هذه الدعوى, فإنّها انتشرت وسادت في السنين المتأخرة على الإنترنيت، لمّا دخله أناس غير متخصصين بعلم الكلام سطحيين في التفكير, وقفوا عاجزين أمام أدلة الشيعة الإمامية, فلم يجدوا إلاّ المطالبة بالنصوص على إمامة عليّ(عليه السلام) باسمه من القرآن, ووسعوا طلبهم بالمطالبة بوجود نص من القرآن على الإمامة والعصمة, وغفلوا لمّا كانوا غير مطلعين، على أنّ علماء الكلام اشترطوا في الدليل ما يورث العلم، وهو الدليل القطعي من أي طريق كان وبأي نحو أتى, ولكن الغرض لم يكن الاستدلال والعلم ومعرفة الحقّ وإنّما محاولة إحراج الشيعة! ولذا عندما أورد الشيعة النصوص القرآنية الصريحة في الإمامة, بدأوا بالخدشة فيها والمناقشة والتأويل وتحريف الظاهر، بما كان يفعله من كان قبلهم من الفرق.
ولكن كما قلنا إنّ هذا لا يؤثر في الدليل من حيث الدلالة في نفسه. ومن الظريف أنّهم أخذوا يطالبون بالنص الواضح من الشيعة، مع أنّهم يتمسكون بالظنّي الظاهري في العقائد، كما في الخبر الصحيح عندهم!!
وأظرف من هذا أنّهم أخذوا يطالبون بآيات من القرآن تذكر بعض الألفاظ المصطلحة كالعصمة, وغفلوا أنّ المراد في العقائد هو المعاني والمفاهيم لا الألفاظ البحتة والمصطلحات الكلامية!!
فإذا استدل الشيعة بآية العهد مثلاً: (( لاَ يَنَالُ عَهدِي الظَّالِمِينَ )) (البقرة:124), قالوا: إنّ العهد ليس الإمامة.
وإذا استدلوا بآية التطهير: (( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أَهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً )) (الأحزاب:33), قالوا: لم ترد كلمة العصمة في هذه الآية.
وغفلوا عن الدلالة والمعنى! وهذا ممّا يضحك الثكلى, وهو مرض نابع من كثرة ما يلهجون بالظواهر، اجتمع مع جمود فكر، وتبلد ذهن، أدى إلى هذا التحجر على الألفاظ، وعدم عبورهم إلى ما وراء الأذن إلى العقل والقلب, فلعمري بماذا أبتلينا؟!! خامساً: قولك: ((وإنّما كلّه إستنباط، كما أنّه لو كان التطهير وإذهاب الرجس يدلّ على العصمة، فلم لا يقول الله عليّ معصوم ويريح الناس في هذا الأمر)), فقد بيّنا ما يتعلق بالإستنباط وأنّه من الطرق الشرعية لإثبات مسائل الدين, وهو حجّة إذا كان صحيحاً بإتفاق علماء المسلمين, والكلام فيه إذا كان هناك كلام يكون في بيان خطأ الإستنباط، فكان الأجدى بك أن تبيّن أنّ التطهير وإذهاب الرجس لا يدل على العصمة، كما فعل الكثير قبلك وأجبناهم!
ثم إنّ المطلوب في العقائد هو الإيمان بالمفاهيم والمعاني المرتبطة بها، وما تدل عليه من مصاديق واقعية، لا الإيمان بالألفاظ والإعتقاد بها, ومن ثم إنّ المطلوب منّا الإعتقاد بمفهوم ومعنى العصمة لا لفظ العصمة, فإنّ المسلم غير العربي مثلاً لا يسأل يوم القيامة عن لفظة العصمة وإنّما يسأل عن ما اعتقده من مفهوم العصمة بأي طريقة وصل إليه, فالمهم هو عقد القلب على المعنى والمفهوم المراد منه, فإذا كانت هناك ألفاظ وتراكيب لغوية تدلّ على مفهوم ومعنى معين, وضع له اصطلاح من الإصطلاحات كالعصمة مثلاً من قبل العلماء, كانت الغاية الأساس هو المفهوم لا الإصطلاح, ويكون البحث في الأدلة التي تدلّ على هذا المفهوم والمعنى, فإذا ثبت وجب الإعتقاد به, وهذا ليس من الإستنباط في شيء! وإنّما هو فهم للمعنى الظاهر, وللإستنباط معنى آخر مذكور في الفقه وأصوله، ويتضح ذلك - أي أنّه فهم للمعنى - بما يلي:
العصمة لغة: هي المنع, كما يقال: ماء معصوم, وجاء في القرآن بهذا المعنى, قال تعالى: (( وَاللّهُ يَعصِمُكَ مِنَ النَّاسِ )) (المائدة:67), أي يمنعك.
وفي الإصطلاح: ملكة تمنع من إرتكاب الذنوب والآثام والفواحش والرذائل، بل كلّ أنواع الرجس, فهو يعود إلى المعنى اللغوي استخدمه العلماء في الدلالة على خلو هذا الإنسان وتطهّره ممّا عددنا آنفاً.
فإذا وردت آية في القرآن مثلاً تدلّ على خلو أشخاص معينين من جميع أنواع الرجس، وأنّهم مطهّرون بأعلى درجات التطهير, ثبت هذا المفهوم والمعنى لهم, وثبت وصفهم بهذا المعنى الإصطلاحي عند العلماء, فمن الغفلة حينئذٍ المطالبة بورود نص باللفظ الإصطلاحي المعني في القرآن.
بل لربّ قائل يقول لك: لا نريد منك الإيمان باللفظ فلا مشاحة بالإصطلاحات، ولكن نريد منك الإيمان بالمفهوم والمعنى وإثباته لمن ثبت له!!
فقولك: ((لم لا يقول الله عليّ معصوم ويريح الناس)), فيه أوّلاً: تحكم على الله، وحجر على لغة القرآن بما تشتهي أنفسكم, ولسان حالكم يقول: إنّنا لا نؤمن بالعصمة إلاّ بهذا اللفظ. وثانياً: يكون الجواب: أنّه قد جاءت تلك العقيدة التي تطالبون بها في القرآن بما يوصل المعنى المراد من دون شبهة, فإذهاب جميع أنواع الرجس وأعلى درجات التطهير عصمة بلا ريب, وهل لها معنى آخر يا ترى؟! ودعك عن المعاني المدعاة على لسان القوم، كما سنذكرها لاحقاً. سادساً: قولك: ((الذي عددتموه أصلاً من أصول المذهب)), إنّ الذي عددناه أصلاً من أصول المذهب هو الإمامة ووجوب وجود إمام, وأمّا كونه معصوماً فهو لازم لهذا المنصب له أدلته الخاصّة, فالعصمة مسألة من مسائل الإمامة لاحقةٌ بها وليست هي الأصل الذي عدّ من الأصول. سابعاً: قولك: ((فمتى كانت الطهارة تعني العصمة)), إنّ الطهارة لا تعني العصمة, ولكن الطهارة بأعلى درجاتها, ومن كلّ الآثام والرذائل والفواحش, تعني العصمة الإصطلاحية المدعاة.
والتحقيق: انّ هناك خلطاً بين الطهارة كتشريع كالمرادة من مثل الوضوء, وبين تحقق الطهارة المعنوية والإبتعاد عن الرذائل والذنوب, وإن كانت الطهارة كتشريع لها أثر تكويني في الطهارة المعنوية.
والكلام هنا في تحقق الطهارة المعنوية: وهي لها عرض عريض من أدنى المراتب إلى أعلاها, فهي مشككة, فإذا قلنا مثلاً أنّ هذا الشخص طاهر عن الكذب أبداً, يعني أنّه معصوم من الكذب، وهكذا كلّما زاد في التطهّر عن بقية الذنوب والفواحش والرذائل يكون معصوماً بدرجة أعلى, حتى أن العدالة لإمام الجماعة أو للقاضي نوع من العصمة, حتى إذا تطهّر عن أنواع الشرك الخفي وصل إلى درجة العصمة في الإيمان مثلاً, وهكذا إذا ارتفع عنه النسيان والغفلة والخطاء في التطبيق وصل إلى مرحلة أعلى, فالطهارة وإن كان مفهومها غير مفهوم العصمة، ولكنها تعني الحصول على العصمة بمرتبة ما, فلاحظ.
ومن هنا تبين لك ما في المعاني التي يذكرها القوم لبعض الآيات وخلطهم بين رتب الطهارة, بل بين الطهارة كإرادة تشريعية, والطهارة كإرادة تكوينية, وتفصيله في محل آخر.
فما ذكرت من الآية: (( خُذ مِن أَموَالِهِم صَدَقَةً تُطَهِّرُهُم وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيهِم إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُم وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )) (التوبة:103), فيها الطهارة كإرادة تشريعية، ولو ثبتوا عليها دائماً لحصلت لهم رتبة من العصمة بقدرها.
وقولك: ((إنّي أعلم أنّكم ستفلسفون هذه الآية)), فهل تجد فيما ذكرنا نوع فلسفة؟ أو هو فهم صحيح مطلوب منّا عندما أمرنا بالتدبّر في القرآن؟ ثامناً: قولك: ((لابد أن يرد النص الظاهر في الثبوت والدلالة)), وإن كنّا ذكرنا ما فيه سابقاً, ولكن هنا نود أن نلفت انتباهك إلى ما غفلت عنه! فإنّ جميع المسلمين قاطبة يثبتون العصمة لرسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) على إختلافهم في مراتبها, وأقلّها العصمة في التبليغ والعصمة عن الكبائر, فهل يا ترى تستطيع أن تردهم بعقيدتهم، وتقول لهم: (لابد أن يرد النص الظاهر في الثبوت والدلالة) من القرآن؟! ولم لا يقول الله (محمد معصوم في التبليغ ويريح الناس)؟!
ونحن هنا نوكل الجواب إلى المسلمين, فما يقولونه لك فنحن نقوله, وإذا استدلوا عليك بالآية (( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إِن هُوَ إِلَّا وَحيٌ يُوحَى )) (النجم:3-4), فنرجو أن لا تعتبرها نص ظاهر واضح في الدلالة, فليس فيها لفظة العصمة كما تريد, ولا هي خلت من النقاش والإستنباط, أو على قولك التفلسف في كلام علماء المسلمين!!
ومع ذلك.. فإننا نرى أنّ كلامك أخذ بالسير بإتجاه وحيد، وحصر الدليل من خلال القرآن, خاصّة قولك: ((لم لا يقول الله....الخ))! وإلاّ قد كنّا أرضيناك وذكرنا لك النصوص من الروايات التي عندنا بلفظ العصمة. تاسعاً: قولك: ((وإلاّ صار الدين مجرد ألغاز وطلاسم لا تفهم إلاّ بنصوص أخرى...الخ))، لابد أنّك لا تقصد من كون الدين طلاسم المعنى الحرفي, إذ أنّ الدين مفاهيم إعتقادية وأحكام شرعية لا تصبح طلاسم إلاّ إذا كانت مبهمة, لا أنّ الأدلة عليها غير واضحة مثلاً, فالظاهر أنّ مرادك أنّ الأدلة التي تقام على مفاهيم الدين إذا كانت غير واضحة أصبحت طلاسم بمعنى ألغاز تحتاج إلى حلّ, ولكن الأدلة لا تكون هكذا إلاّ إذا كانت غامضة معبراً عنها بالرموز, وهذا ما يدّعيه أصحاب التفسير الباطن, ونحن لا ندعيه ونرفضه رفضاً باتاً, وإن كان البعض يتهمنا به تعميماً علينا لِما عند بعض الفرق المنسوبة للشيعة, أو لعدم فهم ٍ منه لسياقات أدلتنا.
وأمّا أنّ الأدلة اللفظية المحتاجة إلى تفسير وتوضيح، أو المفاهيم التي تحتاج إلى استدلال، أو الأحكام التي تستنبط إستنباطاً فليست هي من الألغاز, بل أن ديدن البشرية في التعامل مع النصوص في كافّة العلوم على الشرح والتفسير والاستدلال, ولا يوجد دين ولا عقيدة ولا أيدلوجية في العالم تورد جميع المعاني الجزئية في نصوص وأدلة لفظية مبسوطة.
وهذا القرآن أمامك فهو كتاب هداية، جاءت الآيات فيه على شكل قواعد ومعاني كلّية في أغلبها, ولم يأت بالتفصيل لكلّ شيء, وإلاّ لما انتهت آياته بالملايين, بل أنّ من مرتكزات المسلمين أنّ القرآن يحتاج إلى مبيّن ومفسر, وأوّل من فسره وبيّنه رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم)، بنص القرآن الذي أمرنا بإتباع سنته وما بينه, وتفصيل البحث هنا يطول، مذكور في علوم القرآن وكتب التفسير.
ومن مرتكزاتهم وجود المحكم والمتشابه، والعام والخاص، والمطلق والمقيد فيه, بل من مرتكزاتهم أنّه يجب التعامل معه بكلّ ما يشمله معنى التدبّر الوارد فيه من مصاديق, وغير ذلك من الشواهد ما لو أردنا إيراده لطال بنا الأمر.
والأمر بالتدبّر يشمل مقارنة الآيات مع بعضها وفهم القرآن فهماً كلّياً لا جزئياً, بل يشمل الإستعانة بنصوص السُنّة ولغة العرب وأساليبها, ولا يرجع الأمر إلى الإستعانة بالنصوص على النصوص إلى غير نهاية كما تدعي! بل هو بالإستعانة والتعرف على القرائن المختلفة، وهو فعل طبيعي عند كلّ البشر. ثم إنّ في السُنّة ما يكفي للوقوف على المعنى المراد وهو حجّة, فلا يستمر الأمر إلى ما لا نهاية حتى تدعي المشابهة للألغاز والطلاسم, فالسُنّة شارحة للقرآن لا تفرق حجيتها عن حجيته, فلاحظ.
ودعواك: ((أن تأتي النصوص الكلية والأصول في الإسلام ظاهرة محكمة...الخ)) حسبما تقصده من معنى وضوحها, ليس لها مورد واحد على إطلاقه في القرآن, وإلاّ لما أختلف المسلمون في أبرز مسائل التوحيد بين مجسم ومشبهة ومنزه, وكلّهم يستدلون بآيات القرآن.
فقل لي بربك أتدعي مثلاً أنّ الآية (( عَلَى العَرشِ استَوَى )) (طه:5)، أو (( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ )) (القيامة:23)، نص ظاهر في القرآن؟ وإلاّ كيف تفعل بقوله تعالى: (( لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ )) (الشورى:11)؟! وإذا حاولت أن تجمع بين هذه وهذه، فهذا الذي فررت منه، وقلت أنّه ألغاز وطلاسم!.
إنّ القرآن حمال أوجه.. كما قال أمير المؤمنين عليّ(عليه السلام) عندما أمر ابن عبّاس بمناظرة الخوارج بالسُنّة لا بالقرآن، ومع ذلك فنحن لا ندعي عدم وضوح القرآن بحسب الظاهر وأنّه غير حجّة - معاذ الله -, وإنّما نقول: إنّ فيه علوماً واستدلالات تشمل كلّ العلوم, لا يعرفها على وجهها إلاّ الراسخون في العلم. كما لا ننكر وجود درجة من الوضوح في آياته تكفي للاستدلال والحجية في العقائد، بما تكفي لإلزام المكلف بها يوم القيامة. بل الذي ننكره وجود ما تدّعون وتقصدون من الوضوح, فإنّكم تطالبون بنصوص توضح كلّ ما يخطر في أذهانكم, أو نصوص لا يوجد من لا يفهم معناها، ولا يوجد من يخالفها كما تزعمون! فإن مثل هكذا نصوص لا توجد في الدنيا! فما من نص مهما كان إحكامه إلاّ وتجد من يتأول أو يخالف فيه.
ونحن لا ننكر وجود آيات محكمة, فهي موجودة بنص القرآن, ولكن ننكر عدم وجود من يخالف فيها لشبهة ما أو لعصبية, وهذا لا يخدش في إحكامها ووضوحها ودلالتها وحجيتها, فالأمر كما قلنا في البديهي، أنّه لا يخدش فيه إن أنكره منكر، فليس النص الواضح بالتشهي، وإنّما بمقدار وضوح الدلالة عند أهل اللسان بما يكفي في الحجية.
فقوله تعالى: (( وَجَعَلنَا مِنهُم أَئِمَّةً يَهدُونَ بِأَمرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ )) (السجدة:24)، نص واضح ظاهر محكم في الدالة على الإمامة وإن أنكرته، كما هو الحال في قوله تعالى: (( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأولي الأمر منكم )) (النساء:59)، وإن جادلت في مصداق أولي الأمر.
وقول رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه)، نصّ واضح ظاهر محكم جلي على الولاية والإمامة وإن أنكره منكر, أو أُورِدت عليه الشبهة لمدّة ألف وأربعمائة سنة, ولا يخدش في وضوحه ودلالته إدعائك أنّه يحتاج إلى إستنباط أو إلى مقدمات من خارج, فإنّ ما تدعيه من الإحتياج إلى إستنباط ليس إلاّ ردّ الشبهات عنه لا كونه إستنباطاً بالحقيقة, وإن تُوهم ذلك بعد بُعد الزمان. ونحن لا نستطيع أن نورد لك كلّ ما ندعيه لأنّ الأمر سيطول, ولكن لو بدأت معنا من البداية ونقحت المنهج المتبع لديك، وحددت القواعد والأصول فيه لجاريناك فيه بالتدريج، والأمر في بدايته لو أردت.
ثم إنّ قولك: ((النصوص الكلية والأصول)) ينقض كلامك! فما هو مرادك من الكلية؟ وما هو مرادك من الأصول؟ هل هما بمعنى واحد عندك, وهو القواعد الكلية مثلاً, أو تريد بالكلية أمهات المطالب، وبالأصول أصول الدين مثلاً؟ وهلا سقت على ما تريد أمثلة.
وقولك: ((يفهمها كلّ الناس)), ليس على إطلاقه, بل المراد يفهمها أهل اللغة مستقيمي السليقة غير مسبوقين بالشبهة, وهذا واضح.. لا كلّ الناس على إطلاقهم عاميهم وخاصيهم.
ويظهر في قولك: ((إنّما يحتاج إلى الفقه والإجتهاد في المسائل الفرعية...الخ)), خلطك بين معنى الإستنباط المصطلح في الفقه والأصول, وبين الاستدلال في العقائد. عاشراً: قولك: ((ولذا أيّها الأخوة تأملت كثيراً في أصول مذهبكم وأصول مذهب السنة، فوجدت أنّ الأصول في السُنّة كلّها مقبولة عقلاً وشرعاً والأدلة عليها محكمة....الخ))، هذا هو الذي أردنا تنبيهك عليه من عدم الحيادية!! وإلاّ ماذا تسمي إرسال الدعوى بدون دليل؟! فهلا ذكرت الأمثلة لتوضح ذلك؟
ومثل ذلك قولك: ((بخلاف أصولكم، التي لا تصح إلاّ بمقدمات خارج الدليل، بحاجة إلى دليل آخر، وذلك بأطراد)), فهلا مثلت لذلك مثالاً؟
ولنذكر نحن لك المثال: فإنّ أبرز العقائد المختلف عليها بيننا، هو أصل الإمامة والحاكمية بعد رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم), فهلا بينت لنا ما هو الدليل الواضح على إعتقاد أهل السُنّة بالشورى، أو بيعة أهل الحلّ والعقد، أو بيعة الواحد، أو الإستيلاء بالقوة على السلطة، من القرآن كما تدعي؟
أليس ما نذكره نحن من الآيات في الإمامة أقوى وأوضح وأحكم وأكثر ممّا تدعونه في الشورى! بل لا يوجد أي استدلال ببيعة أهل الحل والعقد وعددهم وشروطهم مثلاً, فهلا أنصفت؟!!
وقولك: ((ويعلم الله أنّني مع كثرة إطلاعي وقراءتي في كتبكم ومراجعكم)).. فلا نستطيع أن نصدقه!! إذ على الأقل كان يظهر في كلامك إدراك ولو بسيط لأصولنا ومنهجنا في العقائد, وهذا ما لم نجد منه شيئاً في ما قلته, بل بالعكس وجدنا عدم فهم، بل عدم معرفة وإطلاع عليها! الحادي عشر: و((قولك لم أجد دليلاً واحداً خاصّة من القرآن مستقلاً بذاته...)), دعوى لا نريد أن ندخل في تفاصيلها الآن, وإلاّ كان لابد من تحديد المراد من إستقلالية الدليل في القرآن أوّلاً, وهل يوجد مثل ذلك عند المقابل؟ ثم هل يوجد مثل هذا الدليل عند الشيعة أو لا؟
ولكن نريد أن نعرف لماذا القرآن والقرآن فقط؟! فهل هذا تطبيق لمقولة ((حسبنا كتاب الله)), أم ماذا؟! وإذا فرضنا وفرض المحال ليس محال، أنّه لا يوجد في القرآن دليل على عقيدة ما، ووجد ذلك الدليل في السُنّة فهل نسقط هذه العقيدة ونرمي السُنّة وراء ظهورنا؟ هذه أسئلة نحتاج إلى جواب فيها منك، لكي تحدد لنا منهجك, إذ في ذلك مفارقة لم يلتفت إليها مدعيها، أو لا يريد الإلتفات إليها، لما فيه نقض غرضه من اللجاج مع الشيعة. الثاني عشر: قولك عند كلامك عن كتاب العلامة الحلي ابن المطهّر (2) : ((أورد المصنف أكثر من ثلاثين برهاناً على حدّ قوله من القرآن الكريم، والغريب أنّي لم أجد برهاناً من تلك البراهين، إلاّ في أخبار من كتب الثعلبي وابن نعيم، فأين هذا القرآن)), بالله عليك! ألم يستدل ابن المطهّر الحلي مثلاً بالآية: (( إنّما وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم رَاكِعُونَ )) (المائدة:55) على الإمامة؟ وهل إحتاج إلى غير القرآن في تحديد معنى الولاية في (( وَلِيُّكُمُ )) بأنّه الدال على الإمامة؟ وهل استدل بغير (( إنّما )) في الآية على الحصر؟ وهل استدل على تحديد صفة الولي بعد النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بغير قوله في الآية: (( وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم رَاكِعُونَ )) ؟
ولا أظنك إلاّ ستنتفض وتقول: إنّه لم يحدد المراد بهذا المصداق، وأنّه عليّ(عليه السلام) إلاّ من السُنّة ونسيت أنّه، أوّلاً: ذكرٌ لمورد النزول - وكلّ آية في القرآن فيها مورد للنزول وهو غير خارج عن القرآن - ثم إنّه تحديد للمصداق الخارجي لفاعل التصدق لا لصفات الإمام التي تكفل القرآن بذكرها، ولا لمفهوم ومعنى الإمامة الكلي فإنّه معلوم من الآية، وهو المراد الأصلي من ذكره في أصول الدين, فلا تغفل.
وأمّا ايراده الروايات من طريق أهل السُنّة كالثعلبي وأبو نعيم، فما هو إلاّ للإلزام لا غير, وإلاّ فنحن لا نحتاج إلى تلك الروايات، فإنّ عندنا ما يغنينا عنها. الثالث عشر: قولك: ((فأقول أيّها الأخوة لماذا الإتكاء على أمور محتملة وجعلها من أصول الدين)), نحن لا نعتقد بأمور محتملة, فإنّ العلم والقطع شرط عندنا في العقيدة, ولو كنت اطلعت على كتب الشيعة كما تقول، لعرفت ما نشترط في صحة العقيدة.
وربما تقول: إنّها محتلمة عندي. فهلا احتملت أيضاً عدم فهمك للأدلة؟ أو عدم استقصائك لها؟ أو أنّك لا تؤمن بها، لوجود شبه في مقابلها عندك؟ الرابع عشر: هنا ذكرت عدّة نقاط زعمت أنّها من الواقع, وحاولت أن تجعلها نقوضاً على القول بالعصمة, ونحن سنجيبك عليها كما وعدناك:
(1) هذه النقطة فيها عدّة أمور: فيها قولك: ((تولى عليّ الخلافة بعد مقتل عثمان، وكانت الأمة واحدة موحدة مجتمعة على إمامها)), إن كنت تقصد أنّها كانت موحدة قبل تولي الإمام(عليه السلام) مباشرة, فمن يا ترى قتل عثمان؟! أليس الصحابة اشتركوا في قتله، وقتله أهل مصر والعراق!
وإن كنت تقصد أنّها اجتمعت على خلافة من كان قبله, فهذا محض إدعاء, فلا هم اجتمعوا في بيعة أبي بكر يوم السقيفة، التي خالف فيها الأنصار وتخلف عنها بنو هاشم وعلى رأسهم عليّ(عليه السلام), ولا اجتمعوا على بيعة عمر وإنّما ولاه أبو بكر عنوة وعلى كره من المسلمين، حتى عاتبه عبد الرحمن بن عوف على ذلك, ولا اجتمعوا يوم الشورى حينما جمعها عمر بين ستة دون المسلمين، وأمرهم بقتل من خالف، وكانت على مكيدة منه ومن عبد الرحمن، وكُره من عليّ(عليه السلام), ولم يجتمع من بيده البيعة من الأنصار والمهاجرين ومعهم من جاء من مصر والعراق على بيعة سوى بيعة عليّ(عليه السلام) العامة في المسجد, فراجع السيرة والتاريخ ثم تكلم! وإن كنت تقصد أنّ الأمّة كانت مجتمعة بعد بيعتهم للثلاثة المتقدمين وفي زمن حكمهم, فلعمري هذا لا يعطي الحجية لولاية أحد! فإنّ أخذ البيعة بالإكراه من الآخرين حتى يستتب الأمر لمن أستبد به مناقض لشرع الله والإسلام, وستكون حجّة لكلّ متغلب بعدهم, وهو ما دعاه معاوية بعد أن قاتل الحسن(عليه السلام)، واستخدم كلّ وسيلة لإجباره على الهدنة، وهذا ما حصل.
ومن هذا يظهر ما في قولك: ((فصارت الأمّة ثلاثة أقسام مع عليّ...))، من كذب على الواقع والحقيقة! فمتى أصبحت الأمّة ثلاثة أقسام؟!! هل في البيعة لعليّ(عليه السلام) في المسجد؟ أم بعد أن عصى معاوية ولم يبايع للخليفة الحق، كما هو رأي إجماع المسلمين؟ فإستقلال معاوية في الشام بعدم البيعة، لا يجعله ومن معه قسم من الأمّة لها حرية في أن تنقض البيعة، بعد أن بايع أهل الحلّ والعقد حسب مباني أهل السنة.
أم أصبحوا ثلاث فرق بعد خروج أُمّ المؤمنين عائشة مع طلحة والزبير إلى البصرة؟ فهل يا ترى يحقّ لأمّ المؤمنين الخروج على الخليفة الشرعي؟ أو هل يحقّ لطلحة والزبير نقض البيعة؟ وهل يصبحوا عند ذلك فرقة يعتد برأيها وخلافها؟!
نعم, إنّ من كانوا ظاهراً من المسلمين، انقسموا في خلافة عليّ(عليه السلام) على الباطل وخلافاً للحقّ وطمعاً في الدنيا, ولكن هذا لا يعطي الحجية بحيث يبنى عليه في إتخاذ موقف في العقائد، وهو غايتنا, فلاحظ.
فقولك: ((قسم بايعه وقاتل معه)), فهم المجمعون على بيعته من أهل الحلّ والعقد، وقولك: ((وقسم رفض مبايعته)), وهم أهل الشام, فهم لا يحقّ لهم ذلك في الدين بُعيد انعقاد البيعة الشرعية, وهم فساق عصاة خارجون على الإمام، وقولك: ((وقسم لا معه ولا عليه، وهم أكثر السابقين الأولين)), فهذا كذب صريح! فياليتك ذكرت هؤلاء السابقين الذين لم يبايعوا؟ فإنّ من تخلف عنه هم سعد بن أبي وقاص، وأسامه بن زيد، ومحمد بن سلمة، مع عدّة آخرين, وهم ليسوا بكثير وإنّما وصفوهم بالعدّة, ولاهم بأكثر السابقين الأولين, فلماذا هذا التعامي والإدعاء الكاذب على حقائق التاريخ؟
إنّ مبنى نقضك يتركز على قولك: ((كيف ساغ لأكثر الناس أن يتخلفوا عن البيعة))! وقد بيّنا لك عدم صحة ذلك, وإنّما هي دعوى كاذبة لا تكون حجّة لمدعيها يوم القيامة.
وقولك: ((أن يتخلفوا عن البيعة لإمام معصوم، وقد بايعوا من لم يكن معصوماً قبله)), قد بيّنا ما فيه, فهم أوّلاً: قد بايعوا بالإجماع إلاّ معاوية الذي استقل في الشام، وأهل الشام تبعوه عن عمى لا يدرون شيئاً.
وثانياً: قد بيّنا كيفية مبايعة من كان قبله وهو غير معصوم.
وثالثاً: إنّ من كان يعتقد ويعرف أنّ الإمام(عليه السلام) معصوم، وهو الأحقّ بالخلافة لم يبايع السابقين، إلاّ بعد الإكراه كإمامهم عليّ(عليه السلام), ولم يتخلوا قاطبة عن بيعة عليّ(عليه السلام) وهم خلص أصحابه, والذي ندعي نحن الشيعة أنّهم سلفنا, وأمّا الجمع الغفير من المسلمين غيرهم فقد بايعوه بيعة عامّة، لما يظنون من أنّها تعطي الحجية لمن يبايعون ليكون خليفة, فلم يكن لهم أحسن من عليّ(عليه السلام) بعد مقتل عثمان, ونحن لا ندعي أنّ كلّ من بايع عليّاً(عليه السلام) فهو من الشيعة, فلاحظ ولا تتعجل!
وأمّا قولك: ((ولماذا لم يحتج عليهم عليّ بأنّه معصوم واجب البيعة)), فمن أعجب العجب!! وكيف يحتج بالعصمة وهم رفضوا الأوضح والأصرح منها وهو تولية النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) له يوم الغدير؟!
ثم من قال لك أنّه لم يحتج بالعصمة؟ ومؤداها في كلامه وهو كثير في احتجاجاته عليهم, بل أنّ فاطمة(عليها السلام) ذكرتها لهم في خطبتها، ونوهت بها حسب مفاهيم القوم يوم ذاك. (2) يرحمك الله على قولك: ((لولا الحيلة الذكية من معاوية ومن معه في رفع المصاحف)), ولكن ننبهك أنّها لم تنطل على عليّ(عليه السلام)، وقد حذرهم منها وبيّن لهم أنّها خدعة، كما هو منصوص في كتب التاريخ, وأنّ من انخدع بها هم ضعفاء العقول والإيمان من أهل الكوفة بقيادة الأشعث. وأمّا توقف القتال، فقد كان بالإكراه منهم لعليّ(عليه السلام)، حتى أنّهم هددوا بتسليمه إلى معاوية، وأحاطوا بخيمته إن لم يُرجِع الأشتر, وقد كان فتح الله عليه، ووصل الى فسطاط معاوية، واستعد معاوية للهرب, وإنّ الأشتر رفض الرجوع، وقال أمهلوني ساعة.. للنصر النهائي, فأجابه عليّ(عليه السلام): (أيهما أحبّ إليك أن ترجع بالنصر أو ترجع بقتل إمامك)! وأمامك كتب التاريخ فانصفنا وأنصف نفسك.
ثم إنّ الإمام(عليه السلام) لم يوافق على التحكيم، بعد أن لم يوافق على إنهاء القتال, ولكنّهم أجبروه على القبول, بل رفضوا مرشحه للتحكيم وهو ابن عبّاس، وأصروا على إختيار أبي موسى الأشعري، تصوراً منهم بأنّه منتهى في النزاهة والحيادية! لأنّه خالف عليّاً(عليه السلام) واعتزله في القتال، فيالِ سذاجتهم وغبائهم مقابل دهاء معاوية واختياره لعمرو بن العاص الغادر، ثم رجعوا يتلاومون بعد التحكيم!
ولم يبايعوا معاوية كما أدعيت! وإنّما بايعه أهل الشام بالخلافة على باب اللّد, وقد نص رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) على وجوب قتل الثاني الذي يبايع بالخلافة، كما في الصحيح عندكم (3) ، وعليّ(عليه السلام) لم يزل خليفة حينذاك!
والحكمان وإن اتفقا على عزل عليّ(عليه السلام) ومعاوية, ولكن العزل وقع من أبي موسى فقط، وغدر به عمرو بن العاص, وقد كان عملهما معاً خلاف القرآن, لأنّ عليّ(عليه السلام) اشترط عليهما أن يحكما بالقرآن لا بغيره, فلاحظ. ومن هنا يتضح ما في قولك: ((جرى الصلح بموافقة عليّ أم لا؟)), من مجانبة للحقيقة, فإنّه (عليه السلام) لم يوافق على الصلح, بل أجبر عليه أولاً, ثم أنّه شرط عليهما عدم الخروج عن القرآن ثانياً.
ومن المضحك القول بأنّ عمل المعصوم يجب أن لا يخضع للإكراه والإجبار والإضطرار! فهل راجعت سيرة رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو الأنبياء السابقين قبل أن تحكم؟!!
ثم أي حزم تريد من عليّ(عليه السلام) بقولك: ((بل كان الحزم من عليّ أن يكمل معركته))، بعد أن هدد بالقتل أو التسليم لعدوه، وانقسم الجيش ووقعت الفتنة؟!
فهل العصمة تنتقض بالعمل الإضطراري والإكراه أو بالعمل الإختياري؟ راجع تعريف العصمة لو كان عندك وهم في ذلك؟ وهل خالف رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) العصمة عندما صالح المشركين في الحديبية أو لا؟ وأين كان حزم رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) - نعوذ بالله - على فرضك؟ والأمثلة أكثر من أن تحصى.
وهل ضُعف جانب الحقّ لقوة أهل الضلال يخدش العصمة؟ فعلى هذا لم يبق نبيّ معصوم, لأنّ أكثرهم وصلوا إلى جانب من الضعف في الموازين الدنيوية حتى قتلوا, والقرآن ينص على إستضعافهم بآيات عديدة، فهل راجعتها؟
ثم من قال لك أنّنا ندعي أنّ أصحاب عليّ(عليه السلام)، الذين بايعوه بالخلافة وقاتلوا معه كانوا يعتقدون بالعصمة, وهل يعقل مثل هكذا إدعاء، بعد وضوح خلافهم في صفين في قصة التحكيم ورفع المصاحف! فما فرعته من ثانياً؛ ليس به بالغ الحجّة علينا إلاّ في ذهنك ووهمك!
وإذا كان معظم أصحابه لا يعلمون شيئاً عن عصمته، بل عن إمامته الإلهية، سوى أنّه خليفة بايعه المسلمون, فما هي الحجّة علينا في ذلك؟ بل أنّ أكثر المسلمين الآن لا يعتقدون بعصمة النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلاّ في التبليغ؟ فما هي الحجّة علينا من إعتقادهم بعد أن كانوا مخطئين؟
وممّا ذكرنا يتضح أنّ عليّاً(عليه السلام) لم يوافق على الصلح، وإنّما أجبر ولم يوافق على أبي موسى الأشعري, بل كان يعرفه بالخيانة والغفلة، وقد نبه أصحابه على ذلك، ولكنّهم أصروا عليه, ويظهر أيضاً أنّ رأي عليّ(عليه السلام) من البداية كان هو الصواب وأنّه يتكلم عن علم ودراية بما سدده الله من العصمة, وحاله حال الأنبياء المعصومين عند عصيان أممهم، ليس عليهم إلاّ إقامة الحجّة وبذل الجهد معهم ما استطاعوا, وليس في الأمر إجتهاد أو إجالة فكر وتصويب رأي. وظهر أيضاً وضوح موقف الشيعة في فهم تلك الأحداث حسب مبناهم بعصمة الإمام, وأنّه لا إشكال في أن يكون الإمام أو النبيّ(صلّى الله عليه وآله وسلّم) مقهوراً, وهي سُنّة من سنن الله, وأنّ العصمة لطف من الله للأمّة، يكون في تصرفات الإمام، يحصلون عليه لو أطاعوا إمامهم, وليس القول بثبوت العصمة للإمام، يلزم منه القول بوجوب وقوع الطاعة من قبل المكلفين بالجبر, وإنّما معرفتهم بالعصمة وترتيب أثرها عليهم يكون بالإختيار، حاله حال ما وضعه الله من العقل في نفوسنا إذا استخدمناه فلحنا، وإذا عزلناه سقطنا, وليس لقائل أن ينفي وجود العقل، لما يجده من إعراض الناس عنه.
وأمّا ما ادعيته على عليّ(عليه السلام) من أنّه: ((لا يمانع ولا يمتلك من أمر نفسه شيئاً مع معرفته بالحق، ولكنه يسلك معهم حيث يريدون بخلاف الحقّ الذي يعلمه)), ليس بصحيح.. وضح خطأه وبطلانه ممّا قدمنا.
وقولك: ((وأنّ الأئمة الثلاثة السابقين مع كونهم ليسوا معصومين لكن حال الأمّة معهم أصلح وأقوى...)) غير صحيح أيضاً! بل كان أمر الأمّة إلى سفال، بعد أن انقلبت بعد وفاة نبيّها، وما جرى في زمن عليّ(عليه السلام) إلى زماننا ممّا جنته أيديهم لما عملوا بآرائهم واختيارهم مقابل اختيار الله, وهل كان يصل حال المسلمين لما وصل إليه الآن لولا ما فعلوا من غصب الخلافة؟! وقد أخبرتهم فاطمة الزهراء(عليها السلام) بذلك في خطبتها المشهورة, فراجع.
ونشوء الدول وبقائها وقوتها لأمد محدود ليس راجعاً لعصمة الإمام, وإنّما صلاح الدين والإستقامة على الطريق، ومن ثم صلاح الدنيا مرتبط بعصمة الإمام والرئيس, ولم يكن حال الأمّة قبل المعصوم أفضل وأقوم, وإنّما كان ينقص عندهم الدين من أطرافه، وتحرّف سُنّة رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وشريعته شيئاً فشيئاً، حتى ثار المسلمون على عثمان, ولولا ما مهد له ولمعاوية من كان قبله، لما وصل الأمر إلى هذا الحال من الفتنة, فجهد المعصوم لرد المسلمين إلى طريق الحقّ ما إستطاع، ولكن سُنّة الله قد مضت في الأولين والآخرين. (3) فيما قلته أخيراً: ((قد تقولون ما اعتدنا عليه دائما، من أنّ كلّ تلك الأمور التي جرت على عليّ كان يعلمها ويرضاها، لأنّها ممّا كتبه الله عليه وعلى الأمّة)), فهو صحيح, من جهة أنّه(عليه السلام) يعلمها ممّا علمه رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأخبره به, وهذا ليس ببعيد وعندنا عليه أدلة كثيرة, بل بعضها في روايات أهل السنّة. وأمّا أنه(عليه السلام) يرضاها فليس معناه أنّه يوافق عليها, وإنّما معناه أنّه(عليه السلام) راضٍ بقضاء الله مسلم لأمره صابر على ما يبتلى به, لا أنّ رأيه(عليه السلام) كان مطابقاً لما حصل، كيف وبعضها كان فيه معصية لله من قبل الأمّة! فكيف يرضى بها ونحن نقول بعصمته؟! فتأمل. ولا تتقول علينا ما لا نقوله!! والأمر ينطبق تماماً على ما فعله الحسين(عليه السلام)، فهو راضٍ بالقضاء الذي يعلمه الله قبل خلق الخلق، وهو لا يريد شيئاً ولا يشاء إلاّ ما شاء الله، فما توهمته ليس في محله.
نعم, إنّ الله لا يرضى إلاّ بالطاعة, ومن قال لك أنّ المعصومين لم يرضوا بالطاعة؟ أو لم يجروا عليها طيلة حياتهم؟! بل من قال لك أنّهم رضوا بالمعصية؟ فإنّ وقف القتال في صفين بعد أن أُجبر عليه وأُكره غير خارج عن رضى الله، وليس هو معصية، كما كان حال الصلح مع قريش يوم الحديبية من قبل رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم), فما أضطر إليه المعصوم ليس بمعصية وهو رضا الله من جهته, وأمّا من جهة الأمّة فهو معصية يحلّ بها عليهم غضب الله. وكيف لم تنفع عليّ(عليه السلام) عصمته هنا!! وهو قد بين للأمّة الخطأ فيما تفعل، وحاول جاهداً منعهم من النكوص والمعصية، مبيناً لهم الصواب في الرأي, ولم يمض معهم في خطوة ولو صغيرة إلاّ بعد أن يجبروه, فكان لا يتخذ رأياً كليّاً عامّاً، وإنّما يتدرج معهم مرحلة مرحلة، حتى إذا أجبروه انتقل إلى مرحلة أخرى، محاولاً تفادي الخطأ فيها وهكذا.. مبيناً لهم أنّ رضا الله كان في قتال البغاة، وأنّهم أضر على دين الله وأكثر مفسدة من مفسدة القتال.
ولا نعرف كيف أصبحت المعصية والمكر حجّة لمعاوية حيث قلت: ((وكان ذلك حجّة لمعاوية ومن معه ممّن قاتل عليّاً))؟!! نعم, إنّ الباطل يحتج بكلّ شيء, وكلامنا في الحجّة الشرعية المرضية عند الله وهي كانت مع عليّ(عليه السلام). ثم لو فرضنا أنّ عليّاً(عليه السلام) فعل ما تراه أنت صواباً ولم يوافق على التحكيم مجبراً, أليس كانوا قد قتلوه أو سلموه وأصبح حاله حال عثمان بعد أن أجمع المسلمون على قتله وليس له حجّة, كيف؟! وبما فعله عليّ(عليه السلام) استمرت الحجّة وبان الحقّ ووضح إلى هذا اليوم.
ودمتم برعاية الله