اهلا وسهلا بالسائل الكريم
رثاء علي عليه السلام لعمر
في نهج البلاغة كلام يقال : إنه لأمير المؤمنين « عليه السلام » في رثاء بعض الناس ، زعم بعضهم : أن المقصود به عمر بن الخطاب ، وهو الكلام التالي :
« لله بلاء فلان ، فقد قوّم الأود ، وداوى العمد ، خلف الفتنة ، وأقام السنة ، ذهب نقيَّ الثوب ، قليل العيب . أصاب خيرها ، وسبق شرها . أدى إلى الله طاعته واتقاه بحقه . رحل وتركهم في طرق متشعبة ، لا يهتدي فيها الضال ، ولا يستيقن المهتدي » 1 .
ونقول :
لم يثبت لنا : أنه « عليه السلام » قد قال ذلك في حق عمر بن الخطاب ، لأن النصوص قاصرة عن إثبات ذلك ، فلاحظ ما يلي :
1 ـ قال الطبري : « حدثنا عمر ، قال : حدثنا علي ، قال : حدثنا ابن دأب وسعيد بن خالد ، عن صالح بن كيسان ، عن المغيرة بن شعبة ، قال : لما مات عمر بكته ابنة أبي حثمة ، فقالت : وا عمراه ، أقام الأود ، وأبرأ العمد ، أمات الفتن ، وأحيا السنن . خرج نقي الثوب ، بريئاً من العيب .
قال : وقال المغيرة ابن شعبة : لما دفن عمر أتيت علياً « عليه السلام » وأنا أحب أن أسمع منه في عمر شيئاً ، فخرج ينفض رأسه ولحيته ، وقد اغتسل وهو ملتحف بثوب ، لا يشك أن الأمر يصير إليه ، فقال :
يرحم الله ابن الخطاب ، لقد صدقت ابنة أبي حثمة ، لقد ذهب بخيرها ، ونجا من شرها . أما والله ، ما قالت ، ولكن قولت » 2 .
والظاهر : أن المغيرة قد حوَّر هذا الكلام ، لأن قوله « عليه السلام » : ما قالت ولكن قوّلت ، يشير إلى : أن الآخرين قد طلبوا منها أن تقول ذلك ، أو أنهم قد نسبوا إليها أمراً لم تقله ، وهذا لا يتلاءم مع قوله « عليه السلام » : لقد صدقت .
فلعل الذي قال : يرحم الله ابن الخطاب ، لقد صدقت هو المغيرة . . فأجابه علي « عليه السلام » مقسماً بالله . . أنها ما قالت هي ذلك ، ولكن قولت . . أي أنه أمر مدبر بليل ، إما بالإملاء عليها ، أو بافتراء القول على لسانها . .
ويدلُّ على ذلك : ذيل الكلام السابق ، وهو قوله : « رحل وتركهم في طرق متشعبة ، لا يهتدي فيها الضال ، ولا يستيقن المهتدي »
2 ـ إن الشريف الرضي « رحمه الله » لم يصرح باسم عمر بن الخطاب ، بل الموجود فيه هكذا : « ومن كلام له « عليه السلام » : لله بلاء فلان ، فقد قوّم الأود إلخ . . » .
وإنما اجتهد بعض الناس في تطبيق هذا الكلام على عمر . . والظاهر : أنهم أخطأوا في اجتهادهم هذا .
3 ـ ذكر القطب الراوندي : أنه « عليه السلام » مدح بهذا الكلام بعض أصحابه بحسن السيرة ، وأنه مات قبل الفتنة التي وقعت بعد رسول الله « صلى الله عليه وآله » ، من الإختيار والإيثار 3 ، أي اختيار غير علي « عليه السلام » ، وإيثار غيره عليه .
4 ـ زعمت الجارودية من الزيدية : أن مراده « عليه السلام » عثمان ، وقالوا : إنه مدح يراد به الذم والتهكم 4 .
5 ـ ذكر ابن أبي الحديد المعتزلي : أن المقصود هو عمر بن الخطاب ، وحجته في ذلك : أن السيد فخار بن معد الموسوي الأودي الشاعر حدثه : أنه وجد النسخة التي بخط الرضي . . وتحت فلان : عمر 5 .
ونقول :
هذا لا يصلح دليلاً على ذلك ، إذ لا شيء يثبت أن الرضي « رحمه الله » هو الذي كتب كلمة « عمر » ، فلعل صاحب النسخة ومالكها هو الذي كتب كلمة « عمر » تحت قوله : فلان . . وذلك اجتهاداً منه ، حيث رأى ـ بزعمه ـ : أن هذه الصفات تنطبق على عمر دون سواه .
ولو أن الرضي قد كتب ذلك لكان أدخله في عنوان الخطبة وشطب كلمة « فلان » من النص ، كما فعل في سائر الموارد ، وقال : ومن كلام له « عليه السلام » في عمر بن الخطاب .
6 ـ إن المعروف من رأي أمير المؤمنين « عليه السلام » في عمر بن الخطاب يخالف هذا الكلام . .
وسيأتي بعض ما قاله فيه ، حيث سنذكر فقرات من الخطبة المعروفة بالشقشيقة .
ولو فرض أن علياً « عليه السلام » هو القائل ، فلا بد أن يراد به معنى يتناسب مع نظرة علي « عليه السلام » ، والكلام موهم في نفسه محتمل لمعاني متضادة . .
7 ـ ومما يدلُّ على أن ثمة تصرفاً في النص : أن ابن عساكر يروي هذا الحديث من دون كلمة « لقد صدقت ابنة أبي حثمة » فهو يقول :
« لما كان اليوم الذي هلك فيه عمر ، خرج علينا علي مغتسلاً ، فجلس ، فأطرق ساعة ، ثم رفع رأسه فقال : لله در باكية عمر قالت : وا عمراه ، قوم الأود ، وأبرأ العمد ، وا عمراه ، مات نقي الثوب ، قليل العيب ، وا عمراه ذهب بالسنة ، وأبقى الفتنة » 6 .
وزاد في أخرى : فقال علي : « والله ما قالت ، ولكن قولت » 7 .
وفي نص آخر لابن عساكر : أنه « عليه السلام » قال : « أصدقت » ؟! 8 ، على سبيل الإستفهام ، ولم يقل : لقد صدقت .
ثم إن الشيخ التستري اعتبر أن قوله : ذهب بخيرها ونجا من شرها . يراد به : أنه استفاد منها ، ولم يصبه أي مكروه ، فهو نظير قوله « عليه السلام » في الخطبة الشقشقية : لشد ما تشطرا ضرعيها 9 .
(السيد جعفر مرتضى العاملي - رحمه الله - )
———————————————————————————
1. نهج البلاغة (ط مؤسسة الأعلمي ـ بيروت) ص 473 و (ط دار الذخائر ـ قم سنة 1412هـ) ج2 ص222 والإيضاح لابن شاذان ص540 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج12 ص3 .
2. تاريخ الأمم والملوك (ط مؤسسة عز الدين ـ بيروت سنة 1405 هـ) ج2 ص218 و(ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص285 والفايق في غريب الحديث ج1 ص50 و(ط دار الكتب العلمية) ج1 ص59 وراجع : البداية والنهـايـة ج7 ص158 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج 12 ص 5 و 164 وتاريخ المدينة لابن شبة ج 3 ص941 والكامل في التاريخ لابن الأثير ج 3 ص 61 وغريب الحديث لابن قتيبة ج1 ص291 .
3. منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة للراوندي ج2 ص402 وعنه في شرح نهج البلاغة للمعتزلي (ط دار مكتبة الحياة سنة 1963 م) ج3 ص754 و (ط مؤسسة إسماعيليان) ج12 ص4 وراجع : مصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج1 ص 60 ـ 62 .
4. شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج3 ص 753 و754 و(ط مؤسسة إسماعيليان) ج12 ص4 .
5. المصادر السابقة .
6. تاريخ مدينة دمشق ج44 ص457 ومختصر تاريخ دمشق ج19 ص48 و49 وكنز العمال ج12 ص700 .
7. تاريخ مدينة دمشق ج44 ص458 ومختصر تاريخ دمشق ج19 ص48 و49 وراجع : شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج12 ص5 وتاريخ الأمم والملوك ج3 ص285 والكامل في التاريخ ج3 ص61 والبداية والنهاية ج7 ص158 .
8. بهج الصباغة (ط دار أمير كبير ـ طهران ـ إيران سنة 1418هـ) ج9 ص482 .
9. المصدر السابق .