ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير (8) يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون (9) إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون (10)
.(ممكن تفسير هذهِ الآيات بالتفصيل الممل).
السلام عليكم ورحمة الله و بركاته ، مرحبًا بك أيها السائل الكريم
جاء في الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج ١٨ - الصفحة ١٢١-١٢٦:
سبب النزول نقلت روايتان حول سبب نزول الآية الأولى أعلاه، وكل واحدة منهما تخص قسما من الآية الكريمة.
تقول الرواية الأولى: إن الآية نزلت في اليهود والمنافقين حيث كانوا يتناجون فيما بينهم بمعزل عن المؤمنين، مع الإشارة إليهم بأعينهم غمزا، فلما رأى المؤمنون نجواهم ظنوا أن سوءا حصل لإخوانهم في السرايا فحزنوا لذلك، وبثوا حزنهم لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأمرهم الرسول ألا يتناجوا دون المسلمين، فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم فنزلت الآية أعلاه وهددتهم بشدة (1).
أما الرواية الثانية فقد نقل في صحيح مسلم والبخاري وكثير من كتب التفسير أن قسما من اليهود جاءوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبدلا من قولهم له: السلام عليكم، قالوا: أسام عليك يا أبا القاسم (والتي تعني الموت عليك أو الملالة والتعب) فكان رد الرسول عليهم (وعليكم) تقول عائشة: إني فهمت مرادهم وقلت: (عليكم السام ولعنكم الله وغضب عليكم).
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا عائشة عليك بالرفق وإياك العنف والفحش، فقلت:
ألا تسمعهم يولون السام؟ فقال: وأما سمعت ما أقول عليكم فأنزل الله تعالى:
إن جاؤوك حيوك ... المزید. (2).
البحث في هذه الآيات هو استمرار لأبحاث النجوى السابقة، يقول سبحانه:
ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول.
ويستفاد من هذه الآية بصورة جلية أن المنافقين واليهود قد نهوا من قبل ومنعوا من النجوى التي تولد سوء الظن عند الآخرين وتسبب لهم القلق، إلا أنهم لم يعيروا أي اهتمام لمثل هذا التحذير، والأدهى من ذلك أن نجواهم كانت تدور حول ارتكاب الذنوب ومخالفة أوامر الله ورسوله.
والفرق بين " الإثم " و " العصيان " و " معصية الرسول "، هو أن " الإثم " يشمل الذنوب التي لها جانب فردي كشرب الخمر، أما " العدوان " فإنها تعني التجاوز على حقوق الآخرين، وأما " معصية الرسول " فإنها ترتبط بالأمور والتعليمات التي تصدر من شخص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) باعتباره رئيسا للدولة الإسلامية، ويتصدى لمصالح المجتمع الإسلامي. وبناء على هذا فإنهم يطرحون في نجواهم كل عمل مخالف، وهو أعم من الأعمال التي تكون مرتبطة بهم أو بالآخرين أو الحكومة الإسلامية وشخص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
والتعبير ب (يعودون) و (يتناجون) جاء هنا بصيغة مضارع، حيث يوضح لنا أن هذا العمل يتكرر باستمرار، وقصدهم به إزعاج المؤمنين.
وعلى كل حال، فالآية جاءت بعنوان إخبار غيبي يكشف مخالفاتهم ويظهر خطهم المنحرف.
واستمرارا لهذا الحديث فإن القرآن الكريم يشير إلى مورد آخر من أعمال التجاوز والمخالفة للمنافقين واليهود، حيث يقول تعالى: وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله.
" حيوك " من مادة (تحية) مأخوذة في الأصل من الحياة بمعنى الدعاء بالسلام والحياة الأخرى، والمقصود بالتحية الإلهية في هذه الآية هو: (السلام عليكم) أو (سلام الله عليك) والتي وردت نماذج منها في الآيات القرآنية عن الأنبياء وأصحاب الجنة، ومن جملتها قوله تعالى: سلام على المرسلين (1). وأما التحية التي لم يحي بها الله، ولم يكن قد سمح بها هي جملة: (أسام عليك).
ويحتمل أيضا أن تكون التحية المقصودة بالآية الكريمة هي تحية الجاهلية حيث كانوا يقولون: (أنعم صباحا) و (أنعم مساء) وذلك بدون أن يتوجهوا بكلامهم إلى الله سبحانه ويطلبون منه السلامة والخير للطرف الآخر.
هذا الأمر مع أنه كان سائدا في الجاهلية، إلا أن تحريمه غير ثابت، وتفسير الآية أعلاه له بعيد.
ثم يضيف تعالى أن هؤلاء لم يرتكبوا مثل هذه الذنوب العظيمة فقط بل كانوا مغرورين متعالين وكأنهم سكارى فيقول عز وجل: ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول وبهذه الصورة فإنهم قد أثبتوا عدم إيمانهم بنبوة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذلك عدم إيمانهم بالإحاطة العلمية لله سبحانه.
وبجملة قصيرة يرد عليهم القرآن الكريم: حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير.
والطبيعي أن هذا الكلام لا ينفي عذابهم الدنيوي، بل يؤكد القرآن على أنه لو لم يكن لهؤلاء سوى عذاب جهنم، فإنه سيكفيهم وسيرون جزاء كل أعمالهم دفعة واحدة في نار جهنم.
ولأن النجوى قد تكون بين المؤمنين أحيانا وذلك للضرورة أو لبعض الميول، لذا فإن الآية اللاحقة تخاطب المؤمنين ستكون مناجاتهم في مأمن من التلوث بذنوب اليهود والمنافقين حيث يقول البارئ عز وجل: يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون.
يستفاد من هذا التعبير - بصورة واضحة - أن النجوى إذا كانت بين المؤمنين فيجب أن تكون بعيدة عن السوء وما يثير قلق الآخرين، ولابد أن يكون مسارها التواصي بالخير والحسنى، وبهذه الصورة فلا مانع منها.
ولكن كلما كانت النجوى بين أشخاص كاليهود والمنافقين الذين يهدفون إلى إيذاء المؤمنين، فنفس هذا العمل حرام وقبيح، فكيف الحال إذا كانت نجواهم شيطانية وتآمرية، ولذلك فإن القرآن يحذر منها أشد تحذير في آخر آية مورد للبحث، حيث يقول تعالى: إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا ولكن يجب أن يعلموا أن الشيطان لا يستطيع إلحاق الضرر بأحد إلا أن يأذن الله بذلك وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله.
ذلك لأن كل مؤثر في عالم الوجود يكون تأثيره بأمر الله حتى إحراق النار وقطع السيف.
وعلى الله فليتوكل المؤمنون إذ أنهم - بالروح التوكلية على الله، وبالاعتماد عليه سبحانه - يستطيعون أن ينتصروا على جميع هذه المشاكل، ويفسدوا خطط أتباع الشيطان، ويفشلوا مؤامراته.
أنواع النجوى لهذا العمل من الوجهة الفقهية الإسلامية أحكام مختلفة حسب اختلاف الظروف، ويصنف إلى خمسة حالات تبعا لطبيعة الأحكام الإسلامية في ذلك.
فتارة يكون هذا العمل " حراما " وفيما لو أدى إلى أذى الآخرين أو هتك حرمتهم - كما أشير له في الآيات أعلاه - كالنجوى الشيطانية حيث هدفها إيذاء المؤمنين.
وقد تكون النجوى أحيانا (واجبة) وذلك في الموضوعات الواجبة السرية، حيث أن إفشاءها مضر ويسبب الخطر والأذى، وفي مثل هذه الحالة فإن عدم العمل بالنجوى يستدعي إضاعة الحقوق وإلحاق خطر بالإسلام والمسلمين.
وتتصف النجوى في صورة أخرى بالاستحباب، وذلك في الأوقات التي يتصدى فيها الإنسان لأعمال الخير والبر والإحسان، ولا يرغب بالإعلان عنها وإشاعتها وهكذا حكم الكراهة والإباحة.
وأساسا، فان كل حالة لا يوجد فيها هدف مهم فالنجوى عمل غير محمود، ومخالف لآداب المجالس، ويعتبر نوعا من اللامبالاة وعدم الاكتراث بالآخرين.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه " (1).
كما نقرأ في حديث عن أبي سعيد الخدري أنه قال: كنا نتناوب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يطرقه أمر أو يأمر بشئ فكثر أهل الثوب المحتسبون ليلة حتى إذا كنا نتحدث فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الليل فقال: ما هذه النجوى ألم تنهوا عن النجوى " (2).
ويستفاد من روايات أخرى أن الشيطان - لإيذاء المؤمنين - يستخدم كل وسيلة ليس في موضوع النجوى فقط، بل أحيانا في عالم النوم حيث يصور لهم مشاهد مؤلمة توجب الحزن والغم، ولابد للإنسان المؤمن في مثل هذه الحالات أن يلتجئ إلى الله ويتوكل عليه، ويبعد عن نفسه هذه الوساوس الشيطانية (3).
دمتم في رعاية الله