وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
الكلام الجامع الذي جمع صفات المتقين هو كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) لهمّام في وصف المتقين فقد وصف المتقين له بقوله:"…فالمتقون فيها هم أهل الفضائل : منطقهم الصواب ، وملبسهم الاقتصاد ، ومشيهم التواضع ، غضوا أبصارهم عمّا حرم الله عليهم ، ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم ، نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالذي نزلت في الرخاء ، لولا الأجل الذي كتب الله عليهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين ، شوقاً إلى الثواب ، وخوفاً من العقاب .عظُم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم ، فهم والجنة كمَن قد رآها ، فهم فيما منعمون ، وهم والنار كمَن قد رآها فهم فيها معذبون ، قلوبهم محزونة وشرورهم
مأمونة ، أجسادهم نحيفة ، وحاجاتهم خفيفة ، وأنفسهم عفيفة ، صبروا أياماً قصيرةً أعقبتهم راحة طويلة ، تجارة مربحة يسرها لهم ربهم ، أرادتهم الدنيا فلم يريدوها وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها . أمّا الليل فصافون أقدامهم ، تالين لأجزاء القرآن ، يرتلونه ترتيلاً يحزنون به أنفسهم ، ويستشيرون به دواء دائهم ، فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعاً ، وتطلعت نفوسهم إليها شوقاً ، وظنوا أنّها نصب أعينهم ، وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليه مسامع قلوبهم ، وظنوا أنّ زفير جهنم وشهيقها في أصول آذانهم .
فهم حانون على أوساطهم ، مفترشون لجباههم ، وأكفهم ، وركبهم ، وأطراف أقدامهم ، يطلبون إلى الله تعالى فكاك رقابهم .
وأمّا النهار فحلماء ، علماء ، أبرار ، أتقياء ، قد براهم الخوف بري القداح ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى ، وما بالقوم من مرض ، ويقول : قد خولطوا ولقد خالطهم أمر عظيم لا يرضون من أعمالهم القليل ، ولا يستكثرون الكثير ، فهم لأنفسهم متهمون ، ومن أعمالهم مشفقون ، وإذا زكي أحد منهم خاف ممَّا يقال له فيقول : أنا أعلم بنفسي من غيري ، وربي أعلم منّي بنفسي ، اللهمّ لا تؤاخذني بما يقولون ، واجعلني أفضل ممَّا يظنون واغفر لي ما لا يعلمون . فمن علامة أحدهم أنّك ترى له قوة في دين ، وحزماً في لين ، وإيماناً في يقين وحرصاً في علم ، وعلماً في حلم ، وقصداً في غنى ، وخشوعاً في عبادة ، وتجملاً في فاقة ، وصبراً في شدة ، وطلباً في حلال ، ونشاطاً في هدى ، وتحرجاً عن طمع يعمل الأعمال الصالحة وهو على وجل ، يمسي وهمّه الشكر ، ويصبح وهمّه الذكر يبيت حذراً ، ويصبح فرحاً: حذراً لما حذر من الغفلة ، وفرحاً بما أصاب من الفضل والرحمة . إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره ، لم يعطها سؤلها فيما تحب ، قرة عينه فيما لا يزول ، وزهادته فيما لا يبقى ، يمزج الحلم بالعلم ، والقول بالعمل ، تراه قريباً أمله ، قليلاً زلله ، خاشعاً قلبه ، قانعةً نفسه ، منزوراً أكله ، سهلاً أمره حريزاً دينه ، ميتةً شهوته ، مكظوماً غيظه ، الخير منه مأمول ، والشر منه مأمون . إن كان في الغافلين كتب في الذاكرين ، وإن كان في الذاكرين ، لم يكتب من الغافلين ، يعفو عمَّن ظلمه ، ويعطي مَن حرمه ، ويصل مَن قطعه ، بعيداً فحشه ليناً قوله ، غائباً منكره ، حاضراً معروفه ، مقبلاً خيره ، مدبراً شره . في الزلازل وقور ، وفي المكاره صبور ، وفي الرخاء شكور ، لا يحيف على مَن يبغض ، ولا يأثم فيمَّن يحب ، يعترف بالحق قبل أن يشهد عليه ، لا يضيع ما استحفظ ، ولا ينسى ما ذكر ، ولا ينابز بالألقاب ، ولا يضار بالجار ، ولا يشمت بالمصائب ، ولا يدخل في الباطل ، ولا يخرج من الحق . إن صمت لم يغمه صمته ، وإن ضحك لم يعلُ صوته ، وإن بغي عليه صبر حتى يكون الله هو الذي ينتقم له ، نفسه منه في عناء ، والناس منه في راحة ، أتعب نفسه لآخرته ، وأراح الناس من نفسه ، بعده عمَّن تباعد عنه زهد ونزاهة ، ودنوه ممَّن دنا منه لين ورحمة ، ليس تباعده بكبر وعظمة ، ولا دنوه بمكر وخديعة ".
قال : فصعق همام صعقة كانت نفسه فيها ، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) :" أَما والله لقد كنت أخافها عليه". خطب نهج البلاغة: خطبة١٩٣).