السلام عليكم ورحمة الله و بركاته ، مرحبًا بك أيها السائل الكريم
يُمثِّل الحياء صفة يرغب بها الناس ويمتدحونها ويذمّون نقيضها، لما تستبطنه من ردع عن المعاصي والقبائح، ولما تؤدّي إلى الورع عن المعاصي، عرّفها بعضٌ بـ: "انقباض النفس عن القبيح وتركه. لذلك يُقال حييّ فهو حي واستحيا فهو مستحي.
ينقسم الحياء إلى قسمين: ممدوح ومذموم، وكونه صفة أخلاقيّة لا يعني كونه ممدوحاً بالمطلق، فهو كأيّ صفة أخلاقيّة لها حدّا إفراط وتفريط وحدّ وسط، والإنسان بنفسه يُمكنه أن يحوِّله إلى مذموم أو ممدوح، تبعاً لعمله وكيفيّة الاستفادة منه، لذا فما كان من العقل والدِّين فهو ممدوح، وما كان من الحمق والجهل فهو مذموم، واليه أشار الرسول صلى الله عليه واله وسلم بقوله: "الحياء حياءان: حياء عقل وحياء حمق، فحياء العقل العلم وحياء الحمق الجهل".
الحياء المذموم: هو الحياء المنبثق من عدم الثقة بالنفس، والخوف من مواجهة الناس على صعيد محادثة أو مقابلة، وإظهار الحقّ وما ينبغي إظهاره، وهذا ما يُسبِّب الجمود والانطواء للشخص ويضعف من شخصيّتة، ويقيّد طاقاتها ويعيق تقدُّمها وتطوّرها، فهذا من قسم الحياء المذموم وهو سلبيّ، وقد نهى الإسلام عنه لأنّه يمنع من التعلُّم والتفقُّه في الدِّين ويمنع الرزق، ويحدّ الشخصيّة، ويُعطِّل قدراتها، ويَحرم المرء من الكثير من الأمور الّتي تواجهه. وبتعبير الرواية هو حرمان، فقد ورد عن الإمام عليّ عليه السلام: "قُرن الحياء بالحرمان" لأنّه يحرم الإنسان من الكثير، فهذا الحياء هو المذموم، وكلّ ما من شأنه أن يحرم الإنسان ويُقتّر عليه في عيشه وعلمه ويحدّ من علاقاته الاجتماعيّة وتفكيره فهو مذموم، وجاء أيضاً: "الحياء يمنع الرزق".
الحياء الإيجابي أو الممدوح: هو ذلك الّذي يجعل المرء يستحي من مخالفة الله وارتكاب نواهيه، والتجاوز لحدوده الشرعيّة، فهو حياء ينبثق من الخوف منه تعالى، و يعني الدقّة والحذر الشديدين في أيِّ أمر، فهو حياء إيمانيّ إلهيّ. فكلُّ ما من شأنه أن يدفع بالإنسان إلى التعلُّم والتفقُّه في الدِّين وكسب العيش وإظهار الحقّ وغيرها، فلا داعي للحياء فيه، ولهذا جاء النهي عن الحياء في الدِّين.
وإنّ من أهمِّ ما يُفرّق بين الحياءين، هو أنّ الحياء السلبيّ لا يُمثِّل حصانة قويّة للإنسان،لأنّه حياء معرّض للزوال والذوبان، بينما الحياء الإيجابيّ هو حياء راسخ وعميق، لأنّه ينبثق من أسس إيمانيّة وخوف من مخالفة الله تعالى وعصيانه. ثمّ إنّ هذا الاختلاف بين الحياءين هو ثمرة العفّة والاحتشام، الّذي ينشأ من شجرة الحياء الإيماني وليس الحياء الطبيعيّ، إذ إنّ الحياء الناشئ من الطبع والعادة لا ينتج بالضرورة حبّ الاحتشام والعفّة.
والمراد من الحياء الطبيعيّ هنا هو الّذي لا يكون له منشأ إيمانيّ.
قد مرّ تعريف الحياء وأنّه قسمان ممدوح ومذموم، أمّا الخجل فإنّه يفترق عن الحياء من حيث موقعه، فقد ذُكِرَ أنّه من الذلّ والدهشة وهو استرخاء، يُقال "رجل خجل وبه خجلة أي حياء، والخجل: التحيُّر والدهشة من الاستحياء وخجل الرجل خجلاً: فعل فعلاً فاستحى منه ودهش وتحيّر".
فقد يقع الخجل من الإنسان موقع الذلّ والحيرة والدهشة، ويمنعه من اتّخاذ الموقف المناسب إزاءه. وهذا من الصنف المذموم، ويتلاقى مع الحياء المذموم الّذي هو من الحمق والجهل.
ويذكر الغزالي الفرق بينهما فيُشير إلى أنّ كلّاً من الحياء والخجل من متفرِّعات العفّة، إلّا أنّ الحياء هو وسط بين الوقاحة والخنوثة ويُستعمل في الانقباض والامتناع عن القبيح، وعمّا يظنّه المستحيي قبيحاً، وقيل هو ألمٌ يعرض للنفس عند الفزع من النقيصة والذمّ والتصغير، وقيل إنّه تقصير يقع فيه الإنسان أمام من هو أفضل منه، وقيل إنّه رقّة الوجه عند إتيان القبائح وتحفّظ النفس عن مذمومة يتوجّه عليها الحقّ فيها. وهذا ما يحصل عادة لدى الصبيان والنساء دون الرجال.
وأمّا الخجل فهو فترة من النفس لفرط الحياء، وإنّما يستحيي الإنسان ممّن يكبر ويعظم في نفسه، فأمّا من يستحيي من الناس، فنفسه أخسّ عنده من غيره، ومن لا يستحيي من الله فلعدم معرفته به تعالى. ولذلك قال الإمام عليّ عليه السلام: "استحيوا من الله حقّ الحياء".
وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرَى﴾، إشارة إلى أنّه كلّما أحسّ في نفسه أنّ الله يراه فيستحيي لا محالة منه إن كان متديّناً معظِّماً له تعالى، كما قال عليه السلام: "لا إيمان لمن لا حياء له"، لأنّ الحياء لدى الإنسان يُمثِّل أوّل إمارات العقل، والإيمان آخر مراتب العقل، وكيف ينال المرتبة الأخيرة من لم يُجاوز الأولى؟
إذن، ضعف النفس وعدم ثقتها اتّجاه موقف ما يُسبِّب خجلاً فيمنع الإنسان من القيام به أو الانتهاء عنه وهو مذموم، بينما إذا كان صادراً عن رقّة الوجه ومنعها عن إتيان القبائح فهو من الممدوح عقلاً و شرعاً وهو من الإيمان، وأوّل درجاته، وأمارة من أمارات العقل، كما جاء عن الأمير عليه السلام: "أعقل الناس أحياهم".
دمتم في رعاية الله