ما تفسير الآيات التالية:
ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولى القربى والمسكين والمهجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم (22) إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم (23) يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون (24)
السلام عليكم ورحمة الله و بركاته ، مرحبًا بك أيها السائل الكريم
جاء في الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج ١١ - الصفحة ٥٨-٦٢:
إن هذه الآية نزلت بشأن عدد من الصحابة أقسموا على عدم تقديم مساعدة مالية إلى الذين تورطوا في هذه القضية وأشاعوا هذه التهمة بين الناس، وألا يشاركوهم همومهم، فنزلت هذه الآية لتمنعهم من رد فعل قاس، وأمرتهم بالعفو والسماح.
وقد روى سبب النزول هذا " القرطبي " في شأن نزول هذه الآيات في تفسيره عن ابن عباس والضحاك، ورواه المرحوم " الطبرسي " عن ابن عباس، ورواه آخرون لدى تفسير الآيات موضع البحث، وهو يمتاز بعموميته.
إلا أن مجموعة من مفسري أهل السنة يصرون على أن هذه الآية نزلت بخصوص " أبي بكر " حيث أقسم بعد حادث الإفك على عدم تقديم أية مساعدة مالية ل " مسطح بن أثاثة " الذي كان ابن خالته، أو ابن أخته، وهو الذين نشر شائعة الإفك، في حين أن الضمائر التي استعملتها الآية، جاءت بصيغة الجمع، وتبين أن مجموعة من المسلمين اتخذوا قرارا بقطع مساعداتهم عن هؤلاء المجرمين، إلا أن هذه الآية نهتهم عن العمل.
ومن المعلوم أن الآيات القرآنية لا تختص بسبب النزول فقط، بل تشمل جميع المؤمنين إلى يوم القيامة، فهي توصي المسلمين جميعا بألا يستسلموا لعواطفهم، وألا يتخذوا مواقف عنيفة إزاء أخطاء الآخرين.
نعود الآن إلى تفسير الآية بملاحظة سبب النزول هذا:
يقول القرآن ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله.
إن هذا التعبير يكشف أن عددا ممن تورط في قضية الإفك كانوا من المهاجرين في سبيل الله إذ خدعهم المنافقون، ولم يجز الله طردهم من المجتمع الإسلامي لماضيهم المجيد، كما لم يسمح بعقابهم أكثر مما يستحقونه.
كلمة " يأتل " مشتقة من " ألية " (على وزن عطية) أي اليمين، أو إنها مشتقة من " ألو " (على وزن دلو) بمعنى التقصير والترك.
وعلى هذا، فإن الآية تعني وفق المعنى الأول النهي عن هذا القسم بقطع مثل هذه المساعدات (1)، وعلى المعنى الثاني النهي على التقصير في مساعدتهم وترك مثل هذا العمل.
ثم تضيف الآية وليعفوا وليصفحوا لتشجيع المسلمين وترغيبهم في العفو والصفح بقولها: ألا تحبون أن يغفر الله لكم.
فإنكم مثلما تأملون من الله العفو عنكم وأن يغفر خطاياكم، يجب عليكم العفو والصفح عن الآخرين والله غفور رحيم.
والمثير للدهشة أن أصحاب الإفك أدينوا بشدة في آيات شديدة اللهجة، إلا أنها تسيطر على مشاعر المفرطين لمنعهم من تجاوز الحد في العقوبة بثلاث جمل ذات تشعشع أخاد، الأول: الأمر بالعفو والسماح.
ثم تقول: ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟ فينبغي عليكم أن يعفوا وتصفحوا كذلك.
ولتأكيد ذلك تذكر الآية صفتين من صفات الله " الغفور " و " الرحيم ".
وهكذا تقول الآية للناس: لا يمكنكم أن تكونوا أحرص من الله الذي هو صاحب هذا الحكم، وهو يأمركم بألا تقطعوا مساعداتكم.
مما لاشك فيه أن جميع المسلمين الذين تورطوا في حادثة الإفك لم يكونوا مشاركين في التآمر بهذا الصدد، ولكن المنافقين هم الذين وضعوا أساس فتنة الإفك وتبعهم مسلمون مضللون.
ولا شك في أنهم جميعا مقصرون ومذنبون، ولكن بين هاتين المجموعتين فرق كبير، وعلى هذا يجب أن لا يعامل الجميع سواسية.
وعلى كل حال، ففي الآيات السابقة درس كبير لحاضر المسلمين ومستقبلهم، وتذكير لهم بأن لا يتجاوزوا الحد المقرر في معاقبة المذنبين، ولا ينبغي طردهم من المجتمع الإسلامي، أو اغلاق باب المساعدة في وجوهم، ذلك من أجل المحافظة عليهم كي لا يزدادوا انحرافا فيقعوا في أحضان العدو، أو ينحازوا إلى جانبه.
وترسم هذه الآيات صورة للتعادل الإسلامي في جذبه ودفعه، وتشكل آيات الإفك والعقوبات الشديدة التي تفرض على الذين يتهمون الآخرين في شرفهم " قوة الدفع ". وأما الآية موضع البحث التي تتحدث عن العفو والصفح وكون الله غفورا رحيما. فإنها تكشف عن " قوة الجذب "!
ثم تعود الآية إلى قضية القذف واتهام النساء العفيفات المؤمنات في شرفهن، فتقول بشكل حازم: إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم.
ذكرت هذه الآية المباركة ثلاث صفات لهؤلاء النسوة، كل واحدة تشكل دليلا على مدى الظلم الذي تعرضن إليه باتهامهن في شرفهن: " المحصنات " أي العفيفات الطاهرات الذيل و " الغافلات " البعيدات عن كل تهمة وتلوث و " المؤمنات "، كما تكشف العذاب العظيم الذي ينتظر من يقترف هذا العمل (1).
كما أن عبارة - " غافلات " تلفت النظر، لأنها تكشف عن منتهى طهارتهن من أي انحراف وتلوث، أي أنهن غافلات عن كل تلوث جنسي إلى درجة وكأنهن لا يعلمن بوجود مثل هذا العمل فتارة يكون الإنسان في مقابل الذنب أن لا يخطر على ذهنه وجود مثل هذا الذنب في الخارج وهذه مرحلة عالية من التقوى.
ويحتمل أن يكون المراد من " الغافلات " أنهن لا يعلمن بما ينسب إليهن من بهتان في الخارج، ولهذا لسن في صدد الدفاع عن أنفسهن، وفي النتيجة فإن الآية تطرح موضوعا جديدا للبحث، لأن الآيات السابقة تحدثت عن مثيري التهم الذين يمكن التعرف عليهم ومعاقبتهم. إلا أن الحديث هنا يدور حول مثيري الشايعات الذين أخفوا أنفسهم عن العقاب والحد الشرعي: فتقول الآية: أن هؤلاء لا يتصوروا أنهم بهذا العمل سيكون بإمكانهم تجنب العقاب الإلهي دائما، لأن الله تعالى سيبعدهم عن رحمته في هذه الدنيا. كما ينتظرهم العذاب العظيم في الآخرة.
إن هذه الآية رغم مجيئها بعد حديث الإفك، وظهورها بمظهر الارتباط بذلك الحادث، فإنها كبقية الآيات التي تنزل لسبب خاص، وهي ذات مفهوم عام، لا تختص بحالة معينة.
والذي يثير الدهشة هو إصرار بعض المفسرين كالفخر الرازي في " التفسير الكبير "، وآخرين، على أن مفهوم هذه الآية خاص باتهام نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويجعلون هذا الذنب بدرجة الكفر، ويستدلون بكلمة " اللعن " التي ذكرتها الآية، في الوقت الذي لا يمكن فيه اعتبار توجيه التهمة - حتى إن كان هذا الذنب عظيما كاتهام نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لوحده سببا للكفر. لهذا لم يعامل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أصحاب الإفك معاملة المرتدين عن دينهم. بل إن الآيات التالية التي بينا شرحها توصي بعدم تجاوز الحد المقرر لهم وعدم الإفراط في عقابهم، فذنبهم لا يوازي الكفر بالله.
وأما " لعنة الله " فهي تصدق على الكافرين ومرتكبي الكبائر أيضا، وعليه أوردت هذه الآيات المتحدثة عن حد القذف (في الأحكام الخاصة باللعان) مرتين كلمة " لعن " ضد الكذابين المسيئين للناس. كما استعملت الأحاديث الإسلامية كرارا كلمة " اللعن " ضد مرتكبي الذنوب الكبيرة. وحديث " لعن الله في الخمر عشر طوائف ... المزید " معروف.
وتحدد الآية التالية وضع الذين يتهمون الناس بالباطل في ساحة العدل الإلهي، قائلة ويوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعلمون.
تدور ألسنتهم بما لا تشتهي أنفسهم لتستعرض الحقائق. وعندما يجد المجرمون الدلائل والشواهد العينية على ما اقترفوه من أعمال إجرامية، تراهم يعرفون بذنوبهم ويفضحون أمرهم خلافا لرغبتهم الباطنية، حيث لا ينفع في ذلك اليوم إنكارهم للتهم الموجهة إليهم.
وتشهد أيديهم وأرجلهم، وكما ذكرت الآيات القرآنية: تنطق جلودهم وكأنها شريط مسجل، تنطق بما اقترف صاحبها من ذنوب، حيث رسمت آثار الجرائم عليها طوال عمره، حقا إنه يوم البروز والافتضاح، ويوم تنكشف فيه السرائر.
دمتم في رعاية الله