وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
اهلا وسهلا بالسائل الكريم
الروايات الدالة على الذهاب
روى المؤرّخون كثيراً من الروايات حول ذهاب عقيل إلى معاوية، متجاهلين أسباب ذلك.
فبعضهم أوعزها إلى فقره، وجعلوه السبب الأوّل والأخير لذهابه، من دون استقراء لشخصيته ومعرفة هل كان فقيراً أم لا؟ ودون الاستناد إلى وضع حدّ تقريبي لأفراد أسرته، وكم عددهم، وهل هم في سن العمل أو أقل من ذلك؟ ولم تكن هناك التفاتة بسيطة إلى الوراء ولو قليلاً لمعرفة هل أنّ عقيلاً هو الذي ملك دور بني هاشم على زعم بعضهم، فإذا ورث دور ورباع بطن كامل من بطون قريش كيف يكون فقيراً؟ إذن أين ذهبت هذه الدور والرباع؟! وأشياء كثيرة سوف نتناولها بالبحث والتحليل.
وتجدر الإشارة إلى أنّه لم تثبت لحدّ الآن قضية ذهابه إلى معاوية! وهل أنّه ذهب - إذا صحّ - في حياة أمير المؤمنين عليه السلام أم بعد وفاته؟ وهذا ما أشار إليه ابن أبي الحديد بقوله: « ... المزید واختلف الناس في عقيل هل التحق بمعاوية وأمير المؤمنين حيّ؟ فقال قوم: نعم، وروا أنّ معاوية قال يوماً وعقيل عنده: هذا أبو يزيد لولا علمه أنّي خير له من أخيه لما أقام عندنا وتركه, فقال عقيل: أخي خير لي في ديني وأنت خير لي في دنياي وقد آثرت دنياي وأسأل الله خاتمة خير, وقال قوم: إنّه لم يعد إلى معاوية إلّا بعد وفاة أمير المؤمنين عليه السلام واستدلّوا على ذلك بالكتاب الذي كتبه إليه في آخر خلافته والجواب الذي أجابه عليه السلام ...
٢٨٦
وهذا القول هو الأظهر عندي».
أمّا المدائني فروى: «قال معاوية يوماً لعقيل بن أبي طالب: هل من حاجة فأقضيها لك؟ قال: نعم جارية عرضت عليّ وأبى أصحابها أن يبيعوها إلّا بأربعين ألفاً, فأحبّ معاوية أن يمازحه فقال: وما تصنع بجارية قيمتها أربعون ألفا وأنت أعمى تجتزئ بجارية خمسون درهماً؟ قال أرجو أن أطأها فتلد لي غلأمّا إذا أغضبته يضرب عنقك بالسيف, فضحك معاوية وقال: مازحناك يا أبا يزيد, وأمر فابتيعت له الجارية التي أولدها مسلماً فلمّا أتت على مسلم ثماني عشرة سنة وقد مات عقيل أبوه قال لمعاوية: يا أمير المؤمنين إنّ لي أرضاً بمكان كذا من المدينة وأني أعطيت بها مائة ألف وقد أحببت أن أبيعك إياها فادفع لي»(١).
ورواية المدائني هذه غير صحيحة، وقد نوقشت وتمّ تفنيدها، لأنّ مسلم بن عقيل عاش أيام النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وكان على ميمنة جيش أمير المؤمنين عليه السلام في واقعة صفين، وحادثة ذهاب عقيل قيل في أثناء الواقعة، فكيف يصح ذلك؟! ثمّ لا يصح أنّ الأب في جيش معاوية والابن في جيش الإمام عليّ عليه السلام ! ثمّ قضية زواجه من جارية قيمتها أربعين ألفاً يتعارض مع قضية فقره وفقدان بصره، لأنّه أعمى وفقير ومتزوّج عدّة زوجات، ومن ضمنهنّ فاطمة بنت عتبة بن ربيعة خالة معاوية، فكيف يزوجه على خالته؟ وقد عدّ ذلك من أسباب ذهابه إلى معاوية(٢)!
ورواية زواجه هذا تتعارض مع الرواية القائلة بأنّه قد ركبه دين عظيم،
١- شرح نهج البلاغة ١١/ ٢٥٠.
٢- يُنظر مبحث زوجاته وأولاده (الفصل الثاني)، والمحمداوي: فاطمة بنت عتبة، بحث غير منشور.
٢٨٧
وطلب المال من أخيه عليه السلام ولم يعطه، فذهب إلى معاوية كي يوفّي دينه، لا لغرض الزواج(١).
وحول ذهابه إلى معاوية هناك روايات، منها:
أوّلاً: رواية ابن قتيبة الدينوري ت٢٧٦هـ :
قوله: «وذكروا أنّ عقيل بن أبي طالب قدم على أخيه عليّ عليه السلام بالكوفة، فقال له عليّ عليه السلام : مرحباً بك وأهلاً ما أقدمك يا أخي؟ قال: تأخّر العطاء عنّا وغلا السعر ببلدنا وركبني دين عظيم، فجئت لتصلني, فقال عليّ عليه السلام : والله ما لي ممّا ترى شيئاً إلّا عطائي، فإذا خرج فهو لك, فقال عقيل: وإنّما شخوصي من الحجاز إليك من أجل عطائك؟ وماذا يبلغ منّي عطاؤك؟ وما يدفع من حاجتي؟ فقال عليّ عليه السلام : مه! هل تعلم لي مالاً غيره؟ أم تريد أن يحرقني الله في نار جهنّم في صلتك بأموال المسلمين؟ فقال عقيل: والله لأخرجنّ إلى رجل هو أوصل لي منك, فقال له عليّ عليه السلام : راشداً مهدياً, فخرج عقيل! حتّى أتى معاوية، فلمّا قدم عليه، فقال له معاوية: مرحباً وأهلاً بك يا بن أبي طالب، وما أقدمك عليّ؟ فقال: قدمت عليك لدين عظيم ركبني، فخرجت إلى أخي ليصلني، فزعم أنّه ليس له ممّا يلي إلّا عطاؤه، فلم يقع موقعاً، ولم يسدّ منّي مسّداً، فأخبرته أنّي سأخرج إلى رجل هو أوصل منه لي، فجئتك, فازداد معاوية فيه رغبة وقال: يا أهل الشام هذا سيّد قريش وابن سيّدها، عرف الذي فيه أخوه من الغواية والضلالة، فأثاب إلى أهل الدعاء إلى الحقّ، ولكني أزعم أنّ جميع ما تحت يدي لي، فما أعطيت فقربة إلى الله، وما أمسكت فلا جناح عليّ فيه، فأغضب كلامه عقيلاً
١- ابن قتيبة: الإمامة والسياسة ١/ ١٠١، وبقية الروايات.
٢٨٨
لمّا سمعه ينتقص أخاه، فقال: صدقت خرجت من عند أخي على هذا القول وقد عرفت من في عسكره، لم أفقد والله رجلاً من المهاجرين والأنصار، ولا والله ما رأيت في معسكر معاوية رجلاً من أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ، فقال معاوية عند ذلك: يا أهل الشام أعظم الناس من قريش عليكم حقّاً ابن عمّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم وسيّد قريش، وها هو ذا تبرأ إلى الله مما عمل به أخوه، قال: وأمر له معاوية بثلاث مائة ألف دينار، قال له: هذه مائة ألف تقضي بها ديونك ومائة ألف تصل بها رحمك، ومائة ألف توسع بها على نفسك»(١).
وقد قبلت هذه الرواية عند بعض الذين كتبوا في التاريخ واعتبروها صحيحة مدلّلين بها على عدل أمير المؤمنين عليه السلام ، ومشيرين بلا شك أنّ عقيلاً لا يسعه ذلك فارتحل إلى معاوية الذي لا يميّز بين الحلال والحرام ويعتبر بيت مال المسلمين جميعاً ملكاً له وحده(٢).
والملاحظ على الرواية الآتي:
أنّها وردت من دون سلسلة سند، كي نعرضها على كتب الجرح والتعديل، وهذا لا يساعدنا على توثيقها أو عدمه، وقد اكتفى صاحب الرواية بالقول (وذكروا)، فما نعرف من هم الذين ذكروا! فلم نهتد إلى معرفة أسمائهم، ولم ترد الرواية إلّا عند ابن قتيبة دون سواه.
إذن هي من روايات الآحاد، وغير مسندة! وهي جعلت العوز والفاقة سبب ذهابه إلى معاوية، لكي يسد رمقه ويوفّي ديونه، وأنّ الحادثة وقعت في أثناء
١- الإمامة والسياسة ١/ ١٠١.
٢- السيّد مرتضى العسكري: أحاديث أم المؤمنين ١/ ٤٠٢، حامد حفني داود: نظرات في الكتب الخالدة/ ١٤٦، الميانجي: مواقف الشيعة ٣/ ٣٣.
٢٨٩
وقعة صفين، بدليل أنّه وصف المعسكرين المتحاربين، معسكر المسلمين، ومعسكر المنافقين؛ وعن المناسبة لوصف المعسكرين أنّ معاوية تبجّح، فأغضب عقيلاً عندما انتقص من أمير المؤمنين عليه السلام فتفوّه بالقول لكي يغضب معاوية الذي لم يطلب منه ذلك، في حين أنّ بعض الروايات ذكرت أنّ معاوية هو الذي طلب من عقيل أن يصف له المعسكرين(١)؛ ولماذا غضب عقيل من كلام معاوية، وهو الذي اختار الذهاب إليه بنفسه ورضاه عندما قال: «والله لأخرجن إلى رجل هو أوصل لي منك»، فالقضية متناقضة! وأكثر ما يضعفها الاختلاف في مبلغ المال الذي أعطي لعقيل، ففي رواية ابن قتيبة ثلاثمائة ألف دينار، وعند الطوسي والثقفي مائة ألف(٢)!
ثانياً: رواية البلاذري ت٢٧٩هـ :
عن عبّاس بن هشام عن أبيه عن عوانة بن الحكم قوله: «دخل عقيل على معاوية وقد كفّ بصره فلم يسمع كلاماً، فقال: يا معاوية أما في مجلسك أحد؟ قال: بلى, قال: فما لهم لا يتكلّمون؟ فتكلّم الضحاك بن قيس(٣)، فقال عقيل: من هذا؟ فقال له معاوية: هذا الضحاك بن قيس, قال عقيل: كان أبوه من خاصي القردة، ما كان بمكة أخصى لكلب وقرد من أبيه»(٤).
١- الثقفي: الغارات/ ٦٤، الطوسي: الأمالي/ ٧٢٣، وينظر مبحث علمه بالنسب وأيام الناس.
٢- الطوسي: الأمالي/ ٧٢٣، الثقفي: الغارات ٢/ ٩٣٥.
٣- ابن خالد الأكبر بن وهب بن ثعلبة يكنّى أبا قيس، وقيل: أبو عبد الرحمن، ولد قبل وفاة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بسبع سنين، كان على شرطة معاوية ثمّ صار عاملاً على الكوفة بعد وفاة زياد وقد قتل بمعركة مرج راهط لأنّه كان يأخذ البيعة لابن الزبير سنة ٦٤هـ. (النووي: المجموع ١٨/ ٤٣٨، وينظر ابن سعد: الطبقات ٥/ ٣٩، ابن خياط: طبقات/ ٢١٥).
٤- أنساب الأشراف/ ٧٦.
٢٩٠
الملاحظ على الرواية، أنّها وصفت عقيل بالعمى، وهناك كثير من الروايات تناقضها، وقد ذكرته أنّه سليم النظر!
أمّا عن سندها، فهو مطعون فيه من قبل عبّاس بن هشام، الذي نقل البلاذري الرواية عنه، ولم يحدّد شخصيته، وبالأحرى لم نعرفه، وبمراجعة كتاب (أنساب الأشراف) للبلاذري، نجد أنّه قد نقل عن ثلاثة أشخاص سمّوا بهذا الاسم، أحدهما عبّاس بن هشام عن أبيه، ورد في إسناد جملة من الروايات في (١٤) مورداً, والثاني عبّاس بن هشام بن الكلبي عن أبيه، ورد في (٢٢) موضعاً, والثالث عبّاس بن هشام بن محمّد الكلبي في مورد واحد.
هذا ولا نعرف هل الثلاثة هم أسماء لشخص واحد وذكرهم في النقل هكذا، أم أنّهم ثلاث شخصيات! وإذا سلّمنا وجعلناهم واحداً، ورجّحنا بأنّ المقصود هو عبّاس بن هشام الكلبي، فقد بحثنا عنه، فلم نجد له ذكراً في علم الرجال، أي: أنّه مجهول.
وإذا قلنا: إنّ المراد بعبّاس بن هشام هو أبو الفضل الناشري الأسدي ت ٢٢٠هـ ، وهو من أصحاب الإمام الرضا عليه السلام له كتاب الغيبة(١) عربي ثقة جليل كثير الرواية، كسر اسمه فقيل: عبيس، له كتب(٢), وأضاف البغدادي بأنّه عراقي شيعي(٣), ربّما أراد أن يميّزه عن غيره خشية الالتباس في الأسماء، وذكره السيّد الخوئي قدس سره في قوله: «تقدّم غير مرّة أن عدّ رجل واحد في أصحاب أحد المعصومين عليهم السلام ، وفي من لم يرو عنهم عليهم السلام فيه مناقضة ظاهرة، فطريق الشيخ ــ
١- المفيد: الفصول العشرة/ ١٣، الأبطحي: تهذيب ٤/ ٤٠١.
٢- الأردبيلي: جامع الرواة ١/ ٤٣٥، ينظر الطوسي: الاستبصار ٣/ ٤٩، الرجال/ ٣٦٢، الفهرست/ ١٩٣.
٣- إيضاح المكنون ١/ ٣٥٣.
٢٩١
الطوسي ــ إليه صحيح، وقد سها قلم الأردبيلي، فذكر أنّ طريق الشيخ إليه صحيح في المشيخة والفهرست، والشيخ لم يذكر طريقه في المشيخة إلى عبّاس بن هشام، ولا إلى عبيس بن هشام...»(١).
أمّا أبوه فإذا سلّمنا أنّه هشام بن محمّد بن السائب الكلبي ت ٢٠٦هـ الذي روى عن أبيه، كلاهما متروك الحديث(٢)، وقد ضعّفه ابن قدّامة(٣), وابن حنبل قال: «هشام بن الكلبي من يحدّث عنه إنّما هو صاحب سمر ونسب، ما ظننت أنّ أحداً يحدّث عنه»(٤). وقد ذمّ اليوسفي الكتّاب الذين كتبوا للعبّاسيين مستثنياً منهم هشام الكلبي والمدائني فإنّهما لم يكتبا لأحد من العبّاسيين، ولكنهم ما كان لهم أن يتنازعوا مع الخليفة في رأيه خوفاً منه، ولذلك فإنّه لا ينطبق على ماكتبوه من مقاييس الصحّة بدقة(٥). وقيل: إنّ هشام الكلبي قال: «حفظت ما لم يحفظه أحد... حفظت القرآن في ثلاثة أيام...»(٦), وعدّه ابن حجر إمام أهل النسب(٧).
وعوانة بن الحكم بن عياض بن وزر بن عبد الحارث الكلبي ت ١٤٧هـ ، ويكنّى أبا الحكم من علماء الكوفة, راوياً للأخبار عالماً بالشعر والنسب وكان فصيحاً ضريراً، روى بعض الأغاليط عن هشام بن الكلبي، منها قوله: خطبنا عتبة
١- معجم رجال الحديث ١٠/ ٢٧٠.
٢- الهيثمي: مجمع الزوائد ٨/ ٢٤٩، ٩/ ١٣٩.
٣- المغني ٧/ ٣٠٢.
٤- العلل ٢/ ٣١، وينظر البخاري: التاريخ الكبير ٨/ ٢٠٠، العقيلي: الضعفاء ٤/ ٣٣٩.
٥- موسوعة التاريخ الإسلامي ١/ ٣٦.
٦- ابن عابدين: حاشية رد المحتار ٦/ ٧٢٧.
٧- فتح الباري ٦/ ٣٩.
٢٩٢
ابن النهاش العجلي(١) فقال: ما أحسن شيئاً قاله الله جلّ وعلا في كتابه:
ليس حيّ على المنون بباق غير وجه المسبح الخلاق
قال: فقلت إليه: عزّ وجل لم يقل هذا وإنّما قاله عدي بن زيد(٢)، فقال: والله ما ظننته إلّا من كتاب الله، ثمّ نزل من على المنبر.
وأتي بامرأة من الخوارج فقال: يا عدوة الله ما خروجك على أمير المؤمنين؟ ألم تسمعي إلى قول الله وعجل الله تعالى :
كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول
فقالت: يا عدو الله حملني على الخروج جهلكم بكتاب الله وإضاعتكم لحق الله.
والأكثر من هذا أنّ الرجل سفياني وأحد أنصار معاوية، له كتاب في سيرته(٣)! فما ينتظر من رجل هو صنيعة معاوية، والأكثر من ذلك كان ناصبياً!
ومقابل ذلك ذكره العجلي في الثقات(٤), وجعله الذهبي صدوقاً(٥), ولعلّ الحال ملتبسة عند ابن حجر فسمّاه عوانة بن الحكم بن عوانة بن عياض، وقال:
١- لم نعثر على ترجمته.
٢- العبادي شاعر وخطيب مشهور. (ينظر اليعقوبي: تاريخ ١/٢١٢، ابن عساكر: تاريخ مدينة دمشق ٤٠/١٠٥).
٣- ابن النديم: الفهرست/ ١٠٣، ينظر الذهبي: سير أعلام النبلاء ٧/ ٢٠١، البغدادي: هدية العارفين ١/ ٨٠٤، المالكي: نحو إنقاذ التاريخ الإسلامي/ ٣٣.
٤- معرفة الثقات ٢/ ١٦٩.
٥- سير أعلام النبلاء ٧/ ٢٠١.
٢٩٣
كان أبوه عبداً خياطاً وأمّه أمة، وهو كثير الرواية عن التابعين قلّ أن روى حديثاً مسنداً، وأكثر المدائني عنه، وكان عثمانياً يضع الأخبار لبني أمية، وجعل وفاته سنة ١٥٨هـ(١), ولعلّ هذه الرواية هي إحدى موضوعاته، وبما أنّه متأخّر الوفاة فقد روى الأخبار مقطوعة الأسانيد من دون أن يكمل سلسلة السند.
وذكر البلاذري رواية أخرى عن عمير بن بكير بن هشام بن الكلبي عن عوانة بن الحكم قوله: «دخل عقيل بن أبي طالب على معاوية والناس عنده وهم سكوت، فقال: تكّلمنّ أيّها الناس فإنّما معاوية رجل منكم، فقال معاوية: يا أبا يزيد أخبرني عن الحسن بن عليّ؟ فقال: أصبح قريش وجهاً وأكرمها حسباً، قال: فابن الزبير؟ قال: لسان قريش وسنانها إن لم يفسد نفسه, قال: فابن عمر؟ قال: ترك الدنيا مقبلة وخلاكم وإياها وأقبل على الآخرة، وهو بعد ابن الفاروق، قال: فمروان؟ قال: أوه، ذلك رجل لو أدرك أوائل قريش فأخذوا برأيه صلحت دنياهم, قال: فابن عبّاس؟ قال: أخذ من العلم ما شاء، وسكت معاوية، فقال عقيل: يا معاوية أأخبر عنك فإنّي بك عالم؟ قال: أقسمت عليك يا أبا يزيد لما سكت»(٢).
يتّضح من الرواية أنّها من روايات الآحاد، حيث وردت عند البلاذري ولم ترد عن غيره، رواها عن عمير بن بكير وهو غير معروف.
ولقد بحثنا لعلّنا نجد ما يشير إلى ذلك، فلم نوفّق سوى إلى إشارة تفيد رجل اسمه محمّد بن عمير بن بكير النجار(٣), أمّا عوانة بن الحكم فقد سبق وأن جرحناه.
١- لسان الميزان ٤/ ٣٨٦.
٢- أنساب الأشراف/ ٧١، وينظر الأحمدي: مواقف الشيعة ١/ ٢٣٧.
٣- الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد ٨/ ٨، السمعاني: الأنساب ٥/ ٣٨٦.
٢٩٤
ويظهر من رواية أخرى أكثر صحّة وردت عند ابن عساكر، تفيد أنّ معاوية سأل رجل من أهل المدينة من قريش أن يخبره عن الحسن بن عليّ عليه السلام ؟ قال: «... إذا صلّى الغداة جلس في مصلّاه حتّى تطلع الشمس، ثمّ يساند ظهره فلا يبقى في مسجد رسول الله رجل له شرف إلّا أتاه، فيتحدّثون حتّى إذا ارتفع النهار صلّى ركعتين، ثمّ ينهض فيأتي أمهات المؤمنين فيسلّم عليهن فربّما أتحفنه، ثمّ ينصرف إلى منزله، ثمّ يروح فيصنع مثل ذلك، فقال: ما نحن معه في شيء»(١).
ثالثاً: رويت الحادثة نفسها عن الإمام الصادق عليه السلام , في ثلاث صور:
أ ــ رواية إبراهيم بن محمّد الثقفي ت ٢٨٣هـ ، عن محمّد قال: حدّثنا الحسن قال: حدّثنا إبراهيم قال: وأخبرني يوسف بن كليب المسعودي قال: حدّثنا الحسن بن حماد الطائي عن عبد الصمد البارقي عن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين عليهم السلام قال: قدم عقيل على عليّ عليه السلام وهو جالس في صحن مسجد الكوفة فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين... قال: وعليك السلام يا أبا يزيد, ثمّ التفت إلى الحسن بن عليّ عليه السلام فقال: قم وأنزل عمّك، فذهب به فأنزله وعاد إليه، فقال له: اشتر له قميصاً جديداً ورداءً جديداً وإزاراً جديداً ونعلاً جديداً، فغدا على عليّ عليه السلام في الثياب، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين, قال: وعليك السلام يا أبا يزيد، قال: يا أمير المؤمنين ما أراك أصبت من الدنيا شيئاً إلّا هذه الحصباء؟ قال: يا أبا يزيد يخرج عطائي فأعطيكاه, فارتحل عن عليّ عليه السلام إلى معاوية، فلمّا سمع به معاوية نصب كراسيه وأجلس جلساءه، فورد عليه، فأمر له
١- تاريخ مدينة دمشق ١٣/ ٢٤١.
٢٩٥
بمائة ألف درهم، فقبضها, فقال له معاوية: أخبرني عن العسكرين؟ قال: مررت بعسكر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام فإذا ليل كليل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ونهار كنهار النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلّا أنّ رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ليس في القوم, ومررت بعسكرك فاستقبلني قوم من المنافقين ممّن نفّر برسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ليلة العقبة, ثمّ قال: من هذا الذي عن يمينك يا معاوية؟ قال: هذا عمرو بن العاص, قال: هذا الذي اختصم فيه ستة نفر فغلب عليه جزارها, فمن الآخر؟ قال: الضحاك بن قيس الفهري, قال: أما والله لقد كان أبوه جيّد الأخذ لعسب التيس، فمن هذا الآخر؟ قال: أبو موسى الأشعري، قال: هذا ابن المراقة(١), فلمّا رأى معاوية أنّه قد أغضب جلساءه قال: يا أبا يزيد ما تقول فيّ؟ قال: دع عنك، قال: لتقولن, قال: أتعرف حمامة؟ قال: ومن حمامة؟ قال: أخبرتك, ومضى عقيل، فأرسل معاوية إلى النسّابة، قال: فدعاه, فقال: أخبرني من حمامة؟ قال: أعطني الأمان على نفسي وأهلي، فأعطاه, قال: حمامة جدّتك وكانت بغية في الجاهلية، لها راية تؤتى(٢).
الملاحظ على سلسلة سند الرواية الآتي:
يوسف بن كليب المسعودي، غير معروف، ولم نعثر على أيّة ترجمة له، إذن هو في عداد المجاهيل.
الحسن بن حماد الطائي، ذكر في رجال الطوسي(٣), وقيل من أصحاب الإمام الصادق عليه السلام (٤), ولم نعرف له ترجمة، فهو مجهول أسوة بالسابق له واللاحق له, وهو عبد الصمد البارقي فهو مجهول أيضاً.
١- المراد منها كثرة النتن فإنّ المرق كما في القاموس الإهاب المنتن، ولعلّها لدفع النتن كانت تستعمل الطيب. (الثقفي: الغارات ٢/ ٩٣٨، القمي: الكنى ١/ ١٦٣)، وقد حاول ابن عساكر جرجرة القضية إلى غير ذلك، مشيرا أنّها طيبة المرق. (ابن عساكر: تاريخ مدينة دمشق ٤١/ ٣٢).
٢- الغارات/ ٦٤.
٣- الرجال/ ١٨١.
٤- التفرشي: نقد الرجال ٢/ ١٦.
٢٩٦
والرواية لم ترد في بقية المصادر، وإسنادها غير تام، فقد انقطع سندها في الإمام الصادق عليه السلام , فيا ترى هل نقلها عن آبائه وأجداده أم أخبره شخص آخر؟ وبما أنّ أصل الرواية عبد الصمد البارقي, فقد اختلفت روايته عنها في الطوسي(١)، فلماذا الأصل واحد والرواية مختلفة؟!
ب ــ رواية الشيخ الطوسي ت٤٦٠هـ ، عن أحمد بن محمّد بن الصلت، حدّثنا أحمد بن القاسم أبو جعفر الأكفاني من أصل كتابه، حدّثنا عباد بن يعقوب، عن أبو معاذ زياد بن رستم بياع الآدم، عن عبد الصمد، عن جعفر بن محمّد عليه السلام قال: «قلت: يا أبا عبد الله، حدثنا حديث عقيل؟ قال: نعم, جاء عقيل إليكم بالكوفة، وكان عليّ عليه السلام جالساً في صحن المسجد وعليه قميص سنبلاني، قال: فسأله, فقال: أكتب إلى مالي بينبع(٢) قال: ليس غير هذا, قال: لا.
فبينما هو كذلك إذ أقبل الحسين عليه السلام فقال: اشتر لعمّك ثوبين، فاشترى له, قال: يا ابن أخي ما هذا؟ قال: هذه كسوة أمير المؤمنين، ثمّ أقبل حتّى انتهى إلى عليّ عليه السلام فجلس، فجعل يضرب يده على الثوبين وجعل يقول: ما ألين هذا الثوب يا أبا يزيد! قال: يا حسن خذ عمّك, قال: والله ما أملك صفراء ولا بيضاء, قال: فمر له ببعض ثيابك, قال: فكساه بعض ثيابه, قال: ثمّ قال: يا محمّد خذ عمّك, قال: والله لا أملك درهماً ولا ديناراً, قال: فاكسه بعض ثيابك, قال: عقيل يا أمير المؤمنين ائذن لي إلى معاوية, قال: في حلّ محلل، فانطلق نحوه, وبلغ ذلك معاوية. فقال: اركبوا أفره دوابكم، والبسوا من أحسن ثيابكم، فإنّ عقيلاً
١- الطوسي: الأمالي/ ٧٢٣.
٢- هي عين على يمين رضوى لمن كان منحدراً من المدينة إلى البحر، وهي لبني الإمام الحسن عليه السلام ، وقيل: فيها نخيل وماء وزرع، للإمام عليّ عليه السلام . (ياقوت الحموي: معجم ٥/ ٤٥٠).
٢٩٧
قد أقبل نحوكم، وأبرز معاوية سريره، فلمّا انتهى إليه عقيل, قال معاوية: مرحباً بك يا أبا يزيد ما نزع بك؟ قال: طلب الدنيا من مظانها، قال: وفقت وأصبت، قد أمرنا لك بمائة ألف، فأعطاه المائة.
ثمّ قال: أخبرني عن العسكرين اللذين مررت بهما عسكري وعسكر عليّ؟ قال: في الجماعة أخبرك أو في الوحدة؟ قال: لا، بل في الجماعة, قال: مررت على عسكر عليّ عليه السلام فإذا ليل كليل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ونهار كنهار النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم إلّا أنّ رسول الله ليس فيهم، ومررت على عسكرك فإذا أوّل من استقبلني أبو الأعور وطائفة من المنافقين والمنفّرين برسول الله صلى الله عليه و آله و سلم إلّا أنّ أبا سفيان ليس فيهم, فكّف عنه حتّى إذا ذهب الناس قال له: يا أبا يزيد: أيش صنعت بي؟ قال: ألم أقل لك في الجماعة أو في الوحدة فأبيت عليّ؟! قال: أمّا الآن فاشفني من عدوي, قال: ذلك عند الرحيل.
فلمّا كان من الغد شدّ غرائره ورواحله وأقبل نحو معاوية، وقد جمع معاوية حوله، فلمّا انتهى إليه قال: يا معاوية من ذا عن يمينك؟ قال: عمرو بن العاص، فتضاحك ثمّ قال: لقد علمت قريش أنّه لم يكن أخصى لتيوسها من أبيه، ثمّ قال: من هذا؟ قال: أبو موسى فتضاحك ثمّ قال: لقد علمت قريش بالمدينة أنّه لم يكن بها أمر له أطيب ريحاً من قب(١) أمّه، قال أخبرني عن نفسي يا أبا يزيد؟ قال: أتعرف حمامة، ثمّ سار، فألقي في خلد معاوية، قال: أم من أمهاتي لست أعرفها! فدعا بنسّابين من أهل الشام، فقال: أخبراني عن أم من أمهاتي يقال لها: حمامة لست أعرفها، فقالا: نسألك بالله لا تسألنا عنها اليوم،
١- ما بين الوركين، وقب الدبر: مفرج ما بين الأليتين، يقال: ألزق قبك على الأرض، وقيل: دقة الخصر وضمور البطن. (ابن منظور: لسان ١/ ٦٥٨).
٢٩٨
قال: أخبراني أو لأضربن أعناقكما، لكما الأمان. قالا: فإنّ حمامة جدّة أبي سفيان السابعة وكانت بغياً، وكان لها بيت تؤتى فيه...»(١).
الذي يتدبّر الرواية يجد الآتي:
١- صيغة الطلب، أي: طلب عقيل للأموال من أمير المؤمنين عليه السلام أنّه جاء متسوّلاً يطلب من أخيه عليه السلام ، وعندما لم يُعطه ما أراد، وكأنّه وقد وضع برنامجاً مسبقاً للذهاب إلى معاوية.
٢- صوّرت الرواية عقيلاً وكأنّه غير عارف بعدل أمير المؤمنين عليه السلام ومدى شدّته في الحفاظ على أموال المسلمين التيّ كانت أمانة في عنقه فكيف يعطيه أموالهم؟!
٣- المعروف أنّ عقيلاً في هذه الأثناء قد دخل الإسلام، وكثير من الروايات صوّرت آل عقيل من آل بيت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم والصدقة حرام عليهم(٢)، فلا يجوز له أن يطلب الصدقة، وإذا لم تكن صدقة فما معناها؟
٤- يظهر من الرواية أنّه جاء في ملابس رثّة، وعندما رآه أمير المؤمنين عليه السلام رقّ لحاله وأمر أولاده بكسوته، والغريب أنّ الروايات ذكرت عقيلاً بالفطنة والنباهة التي يتطلبها علمه بالنسب وأيام الناس، فكيف لم ينتبه لأقوال أولاد الإمام عليه السلام عندما طلب منهم مساعدة عمّهم وأخبروه أنّهم لا يملكون حمراء ولا صفراء، أي: لا ذهب ولا فضة، وهم أولاد أمير المؤمنين عليه السلام ، فكيف يطلب الأموال من أبيهم؟
١- الأمالي/ ٧٢٣، وينظر الثقفي: الغارات ٢/ ٩٣٥، الصالحي: سبل الهدى ١١/ ١١٥.
٢- ينظر مبحث وضعه المعاشي (الفصل الأوّل).
٢٩٩
٥- لم تشر الرواية إلى عقيل بأنّه قد فقد بصره، في حين أكّدت ذلك رواية البلاذري(١)! علماً أنّ بعض الروايات صوّرته سليم البصر, وهذا ما أشار إليه القاضي نعمان عن عقيل قوله: «إنّي كنت عند عليّ عليه السلام والتفت إلى جلسائه فلم أر غير المهاجرين... وتصفّحت من في مجلسك هذا فلم أر إلّا الطلقاء»(٢).
٦- يظهر من الرواية أنّ عقيلاً ذهب بمفرده وترك عائلته، فكيف وصل إلى الكوفة والشام وهو أعمى؟! وكلامه في مجلس معاوية لا ينسجم مع هذا الجبّار، حيث كانت ألفاظه ثقيلة وكلّها سبّ وشتم لمعاوية وجلسائه، ولا يعتقد أن يبيح معاوية لمتسوّل ــ إن صحّ القول ــ أن يتكلّم بكلام كهذا، إذ سبّ معاوية وأنصاره وأظهر فضائحهم، كما سنقف عندها إن شاء الله.
٧- يبدو من الرواية أنّ فترة إقامته يوم واحد فقط، وهذا واضح من قول معاوية لعقيل: «أمّا الآن فأشفني من عدوي، قال: ــ يعني عقيل ــ ذلك عند الرحيل, فلمّا كان من الغد شدّ غرائره ورواحله» ــ يعني استعدّ للرحيل ــ وهذا يتعارض مع ما ذكر سابقاً من أنّه تزوّج من جارية في الشام! فلا يعقل أنّه حصل ذلك في يوم واحد.
٨- والأكثر من كلّ ذلك أنّ الرواية لم ترد في المصادر المتقدّمة، وأقدم من نقلها هو الشيخ الطوسي قدس سره والثقفي بسلسلة سند غير تامّة، فهي مقطوعة عند الإمام جعفر بن محمّد عليه السلام , هذا ولا نعرف هل أنّ الإمام عليه السلام رواها عن آبائه وأجداده عليهم السلام أم عن غيرهم؟ وإذا كان كذلك فلماذا لم تسند عنهم؟
(مركز الابحاث العقائدية)