وعليكم السلام ورحمة الله و بركاته
أكّدتْ تعاليمُ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) على ضرورةِ العفوِ والصفحِ وقبولِ العذرِ، ولأهميّةِ ذلك كان الحثُّ على قبولِ العذرِ حتّى لو لم تعلمْ أنّه صدرَ منه عن صدقِ نيّةٍ، فقد وردَ عن أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام ): "لا تُصرمْ أخاك على ارتيابٍ، ولا تقطعْه دون استعتابٍ لعلَّ له عذراً وأنت تلومُ اقبل من متنصِّلٍ عذراً - صادقاً كان أو كاذباً - فتنالَك الشفاعةُ".(الحر العاملي،وسائل الشيعة:ج١٢،ص٢١٧).
ولأنَّ هذا الأمرَ قد لا ترغبُ به النفسُ، بل يُخالفُ ميولَها ورغباتَها، كان الحثُّ على فرضِ ذلك على النفسِ ومخالفةِ الهوى، يقولُ أميرُ المؤمنينَ (عليه السلام ): "احْمِلْ نَفْسَكَ مِنْ أَخِيكَ عِنْدَ صَرْمِه عَلَى الصِّلَةِ، وعِنْدَ صُدُودِه عَلَى اللُّطْفِ والْمُقَارَبَةِ، وعِنْدَ جُمُودِه عَلَى الْبَذْلِ، وعِنْدَ تَبَاعُدِه عَلَى الدُّنُوِّ، وعِنْدَ شِدَّتِه عَلَى اللِّينِ، وعِنْدَ جُرْمِه عَلَى الْعُذْرِ".(المجلسي،بحار الأنوار:ج٧١،ص١٦٨)، بل ترقى صفةُ الإنسانِ المؤمنِ أنْ لا يتوجَّه باللومِ على مَن صدرَ منه خطأٌ، بل يسعى للبحثِ عن العذرِ له وينتظرُه حتّى يسمعَ عذرَه، وقد وردَ عن أميرِ المؤمنين في وصفِ أحدِ خلّصِ أصحابِه قال: "كَانَ لِي فِيمَا مَضَى أَخٌ فِي اللَّه ... المزید وكَانَ لَا يَلُومُ أَحَداً، عَلَى مَا يَجِدُ الْعُذْرَ فِي مِثْلِه حَتَّى يَسْمَعَ اعْتِذَارَه".(محمد عبده، شرح نهج البلاغة:ج٤،ص٧٠).
وقبولُ العذرِ يفترضُ على الإنسانِ أنْ يتجاوزَ فلا يُرتِّبْ على الخطأ أثراً من عداوةٍ أو قطيعةٍ، وهو ما وردَ في الرواياتِ التعبيرُ عنه بإقالةِ الخطأ والذنبِ، أي: ترفعُ عنه تبعاتِ ذلك حتى على المستوى النفسي والقلبي، وأمّا مَنْ لا يقبلُ العذرَ ولا يتجاوزُ فإنّ وصفَه وردَ في بعضِ الرواياتِ بأنّه شرُّ الناسِ، فقد روي عن أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام): "شرُّ الناسِ مَن لا يقبلُ العذرَ ولا يُقيلُ الذنبَ".(الريشهري،ميزان الحكمة:ج٢،ص١٤٢١).
ووردَ في دعاءِ الإمامِ زينِ العابدينَ (عليه السلام) الدعاءُ إلى اللهِ (عزَّ وجلَّ) بأنْ يتجاوزَ ويصفحَ عن حالاتِ عدمِ قبولِ عذرِ المعتذرِ : "اللهمَّ إنّي أعتذُر إليكَ من مظلومٍ ظُلِمَ بحضرتي فلم أنصرْه ... ومن مُسيءٍ اعتذرَ إليَّ فلم أعذرْه". (الصحيفةِ السجاديةِ: الدعاء٣٨).
فإنّ عدم قبول العذر علامة نقص العقل بمعنى أنّ الذي يمنع الإنسان من قبول العذر، هو فقدانه للعقل والحكمة نتيجة خضوعه لمشاعر الغضب أو الرغبة في الانتقام، نقرأ في كتاب ميزان الحكمة قول مولانا الإمام الصادق (عليه السلام):
"أنقص الناس عقلاً مَن ظلم دونه، ولم يصفح عمَّن اعتذر إليه". (الريشهري، ميزان الحكمة:ج٣،ص١٨٥٩).
أعاذنا الله وإياكم أيها الأحبة من سيّئات الأخلاق التي لايحبها الله ورسوله وأولياؤه الصادقون (صلوات الله عليهم أجمعين).
وليس مَن يعتدّ بنفسه حقيقة مَن يأبى الاعتذار إن أخطأ، ولكن المعتدّ بنفسه المُكرم لها هو مَن يصون نفسه ولا يوردها مورد الخطأ كي لا يُضطر إلى الاعتذار .
وما كانت التوبة إلى الله سبحانه إلّا المظهر الأسمى للاعتذار ، حين يرفع العبد كف ضراعته إلى ربه نادماً باكياً متعذراً يقول كما قال أبواه بعد أول ذنب ارتُكب بين البشر {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.(الأعراف:آية٢٣)، وما كان مَن الله وكرمه ومغفرته إلّا أنموذجاً علوياً لقبول المعذرة من المخطئين التائبين المعتذرين.
وهناك منزلة عظيمة لا يدركها إلّا كل مَن صفا قلبه وسمت روحه، وهي التماس الأعذار للمخطئين حتى قبل أن يعتذروا، فالمدرك لحقائق النفس البشرية ويعرف دروبها ومسالكها جيداً، قد يجد الأعذار للمخطئ بمجرد وقوع الخطأ، وينبغي على المخطئ أن يسارع في الاعتذار؛ لأنّ التأخير فيه يزيد الهوة بينهما ويكسو القلوب بحجاب يزداد سمكه بمرور الوقت، ويفتح الباب لكل شيطان من الإنس أو الجن للعبث بالقلوب وتغييرها .
وينبغي على المعتذر أن يجعل اعتذاره - ما أمكنه - بمثل إساءته، فالسرّ بالسرّ والعلانية بالعلانية، فلا يصلح أن يكون الخطأ معلناً والاعتذار مستوراً، فهذا ليس من الإنصاف، ومن زيادة حسن الخلق وسعة الكرم أن يكون الخطأ سرّاً والاعتذار علناً، فهذا دليل على صدر رحب ونفس عالية .
وينبغي على المُعتذر إليه أن يقبل الاعتذار العملي ولا يشترط اللفظي، فكثير من الناس مَن لا يمتلك القدرة على التلفظ بالاعتذار ، ولكنّه يأتي بأفعال ليس لها إلّا معنى الاعتذار الضمني، فيبغي قبول ذلك منه ومعاونته على نفسه؛ كي لا يغلبه شيطانه ويفسده بعد أن سار في طريق الإصلاح .
نسألُ الله (عزَّ وجلَّ) أنْ يجعلَ المودةَ والرحمةَ في قلوبِنا حتّى نلقاه بوجوهٍ مستبشرةٍ بالفوزِ برضاه.
دمتم في رعاية الله.