محمد جاسم ( 94 سنة ) - العراق
منذ سنة

الزهد

هل حقا لا يجتمع الترف مع الحياة المعنوية والكمال والقرب الالهي فنبي الله سليمان وداود نبيان عظيمان وكانت لديهما قصور نرجو الاجابة بالامثلة ايضا


السلام عليكم ورحمة الله و بركاته ، مرحبًا بك أيها السائل الكريم إنّ لنظرة الدين إلى الإنسان زاويتين تُكمل إحداهُما الأخرى، إحدى هاتين الزاويتين هي تلك التي ينظر الدين إلى الإنسان بصفته فردًا، أي أنّ الدين يخاطبه بوصفه مخلوقًا يتمتّع بالعقل والإرادة، فيحمّله المسؤوليّة ويجعل له شأنًا. أما الزاوية الأخرى فتتمثّل في النظرة للإنسان على أنه كلّ وأنه جماعة إنسانية. وهما نظرتان منسجمتان وتكمل إحداهما الأخرى. إنّ الإسلام مثلا يوصي الإنسان بالزهد من خلال نظرته إليه بصفته فردًا. ومعنى الزهد هو عدم الاستغراق في متاع الدنيا وزخارفها، ولكنّه في الوقت ذاته يحذّر من الابتعاد عن الدنيا وقطع الصلة بها. فما هي الدنيا؟ إنّها الطبيعة، وهذا الجسد الذي نعيش به، وهذه الحياة التي نحياها، وهذا المجتمع الذي ننتمي إليه، إنّها سياستنا، واقتصادنا، وعلاقاتنا الاجتماعيّة، وأولادنا، وثروتنا، ودارنا. إنّ الانغماس في هذه الدنيا والتعلّق بهذه النماذج يُعدّ صفةً مذمومة في هذا الخطاب الفردي. فلا ينبغي الانسياق وراءها. عدم التعلّق بالدنيا هذا وعدم الافتنان بها يسمّى زُهدًا، ومع ذلك لا ينبغي تجاهلها. فليس من الجائز أن ندير ظهرنا لمتاع الدنيا وزينتها وللنِعَم الإلهية في الدنيا. ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ﴾أي إنه لا يجوز الإعراض عن الدنيا. وهذه من بديهيّات الدين ومعارفه الواضحة التي لا تحتاج إلى تفسير. إنّ هذه هي النظرة نحو الفردية. في هذه النظرة يبيح الإسلام للإنسان الفرد الاستفادة من ملذّات الحياة الدنيا ومباهجها، ولكنه يذكّره في الوقت ذاته بلذّة أسمى وأرفع، هي لذّة الأنس بالله ومتعة ذكر الله عزّ وجل. ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام : الزهد كله بين كلمتين من القرآن : قال الله سبحانه : ( لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم ) ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي ، فقد أخذ الزهد بطرفيه . هذا هو معنى الزهد باختصار . ويستشف من هذا التفسير أن الذي يملك نفسه حيال مغريات الدنيا وزهوها هو الزاهد . وبهذا نفهم مضمون الكلمة المأثورة : « ليس معنى الزهد أن لا تملك شيئاً ، بل الزهد أن لا يملك شيء » . وهو صفة مميزة للأنبياء والمرسلين والأوصياء والأولياء ، صفة بارزة في سلوكهم لا تقبل التصنع ولا التكلف . وللإمام علي عليه السلام خطبة يصف فيها الدنيا وزهد الأنبياء فيها قال : « ولقد كان في رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كافٍ لك في الأسوة ، ودليل لك على ذم الدنيا وعيبها ، وكثرة مخازيها ومساويها ، إذ قبضت أطرافها ، ووطئت لغيره أكنافها ( أي جوانبها ) وفطم عن رضاعها ، وزوي عن زخارفه ثم يقول عليه السلام : وإن شئت ثنيت بموسى كليم الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث يقول : « ربي إني لما أنزلت إلي من خير فقير » والله ما سأله إلا خبزاً يأكله ، لأنه كان يأكل بقلة الأرض ، ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه لهزاله وتشذب لحمه . وإن شئت ثلثت بداوود ـ صلى الله عليه وسلم ـ صاحب المزامير ، وقارئ أهل الجنة ، فلقد كان يعمل سفائف الخوص بيده ، ويقول لجلسائه : أيكم يكفيني بيعها ، ويأكل قرص الشعير من ثمنها . ثم يستطرد واصفاً زهد عيسى عليه السلام قائلاً : وإن شئت قلت في عيسى بن مريم عليه السلام فلقد كان يتوسد الحجر ، ويلبس الخشن ، ويأكل الجشب ، وكان أدامه الجوع ، وسراجه بالليل القمر ، وضلاله في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها ، وفاكهته وريحانه ما تنبت الأرض للبهائم ، ولم تكن له زوجة تفتنه ، ولا ولد يحزنه ، ولا مال يلفته ، ولا طمع يذله ، دابته رجلاه، وخادمه يداه . ثم يعود عليه السلام ، فيصف زهد النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيقول : ولقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يأكل على الأرض ، ويجلس جلسة العبد ، ويخصف بيده نعله ويرقع بيده ثوبه ، ويركب الحمار العاري ، ويردف خلفه ، ويكون الستر على باب بيته ، فتكون في التصاوير ، فيقول : يا فلانة ـ لإحدى زوجاته ـ غيبيه عني فاني إذا نظرت إليه ذكرت الدنيا وزخارفها . . . وقد كان للنبي سليمان عليه السلام جلالة عظيمة، فقد دعا الله سبحانه قائلاً: (رب هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي) فاستجاب الله دعاءه وأعطاه الملك العظيم وكان من ذلك الملك العظيم (بساط سليمان). وكان سليمان مع ذلك في منتهى التواضع والزهد، فكان يلبس لباس الشعر تزهداً في زخارف الدنيا. وكان إذا أقبل الليل يشد يده في عنقه ـ تواضعاً لله تعالى ـ ويقف في محراب عبادته مصلّياً باكياً خاشعاً، حتى الصباح. وكان إذا دخل مجلساً فيه أغنياء وفقراء تصفّح الوجوه، فيجوز عن الأشراف والأغنياء، حتى يصل إلى الفقراء فيقعد معهم، ويقول: (مسكين مع المساكين). وكان يعمل بيده سفائف الخوص، ثم يبيعها ويأكل من ثمنها. وإنما طلب الملك ليقوى به على الكفار وينشر في الأرض التوحيد، ويأخذ للمظلوم من الظالم. وبعد ما أنعم الله تعالى، لسليمان بهذه النعم العظيمة، وكذلك أنعم على أقربائــه، بنعمة سليمان، ونعمة داود، قال لهم: (اعملوا آل داود شكراً). قال الإمام الصادق (عليه السلام): (كانوا ثمانين رجلاً، وسبعين امرأة، ما اغب المحراب رجلٌ واحدٌ منهم يصلّي فيه)فلم يكونوا يتركون المحراب والصلاة فيه، بل كانوا دائمي العبادة والطاعة. وعمل الشكر؛ أعمّ من الشكر باللّسان، وإظهار الطاعة بالجوارح، والعقيدة الراسخة في القلب، بالنسبة إلى الله تعالى ولطفه، جميل صنعه. وقد عرفت مما تقدم كيف كان سليمان (عليه السلام) نبيّا عظيماً، وملكاً، وزاهداً. ولعل من أسرار جمع الله لسليمان بين النبوة والملك، تعليم الملوك، وهداية المهتدين: أن لا منافاة بين الدنيا والدين، فرجل الدين يتمكّن أن يدير البلاد، ورجل الملك يتمكن أن يرشد الناس. وقد كان يوسف الصديق (عليه السلام)، أيضاً نبّياً وملكاً، وكان نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وآله وسلم نبيّاً ويدير أمن البلاد ويصلح شأن الدنيا. دمتم في رعاية الله