السلام عليكم ورحمة الله و بركاته ، مرحبًا بك أيها السائل الكريم ، نشكر تواصلك معنا
جاء في الميزان في تفسير القرآن ، للعلامة الطباطبائي ، ج ١،ص ١١١-١١٣:
قوله تعالى : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا. الآية قريبة السياق من قوله تعالى : ( قالوا ربنا أمتنا إثنتين وأحييتنا إثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل ) المؤمن ـ ١١ ، وهذه من الآيات التي يستدل بها على وجود البرزخ بين الدنيا والآخرة ، فإنها تشتمل على إماتتين ، فلو كان إحديهما الموت الناقل من الدنيا لم يكن بد في تصوير الاماتة الثانية من فرض حياة بين الموتين وهو البرزخ ، وهو إستدلال تام اعتني به في بعض الروايات ايضا ، وربما ذكر بعض المنكرين للبرزخ أن الآيتين أعني قوله : كيف تكفرون الآية ، وقوله : قالوا ربنا الآية ، متحدتا السياق ، وقد اشتملتا على موتين وحياتين ، فمدلولهما واحد ، والآية الاولى ظاهرة في أن الموت الاول هو حال الانسان قبل ولوج الروح في الحيوة الدنيا ، فالموت والحيوة الاوليان هما الموت قبل الحيوة الدنيا والحيوة الدنيا والموت والحيوة الثانيتان هما الموت عن الدنيا والحيوة يوم البعث ، والمراد بالمراتب في الآية الثانية هو ما في الآية الاولى ، فلا معنى لدلالتها على البرزخ ، وهو خطأ فان الآيتين مختلفتان سياقا إذا المأخوذ في الاية الاولى ، موت واحد وإماتة واحدة وإحيائان ، وفي الآية الثانية إماتتان وإحيائان ، ومن المعلوم أن الاماتة لا يتحقق لها مصداق من دون سابقة حيوة بخلاف الموت ، فالموت الاول في الآية الاولى غير الاماتة الاولى في الآية الثانية ، فلامح في قوله تعالى. أمتنا إثنتين وأحييتنا إثنتين ، الاماتة الاولى هي التي بعد الدنيا والاحياء الاول بعدها للبرزخ والاماتة والاحياء الثانيتان للاخرة يوم البعث ، وفي قوله تعالى : وكنتم أمواتا فأحياكم إنما يريد الموت قبل الحيوة وهو موت وليس بإماتة والحيوة هي الحيوة الدنيا ، وفي قوله تعالى : ثم إليه ترجعون حيث فصل بين الاحياء والرجوع بلفظ ثم تأييد لما ذكرنا هذا.
قوله تعالى : وكنتم أمواتا ، بيان حقيقة الانسان من حيث وجوده فهو وجود متحول متكامل يسير في مسير وجوده المتبدل المتغير تدريجا ويقطعه مرحلة مرحلة ، فقد كان الانسان قبل نشأته في الحيوة الدنيا ميتا ثم حيي بإحياء الله ثم يتحول بإماتة وإحياء وهكذا وقد قال سبحانه : ( وبدأ خلق الانسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه ) السجدة ـ ٩ ، وقال تعالى : ( ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ) المؤمنون ـ ١٤ ، وقال تعالى : ( وقالوا أإذا ضللنا في الارض أئنا لفي خلق جديد ، بل هم بلقاء ربهم كافرون. قل يتوفيكم ملك الموت الذي وكل بكم ) السجدة ـ ١١ ، وقال تعالى : ( منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ) طه ـ ٥٥. والآيات كما ترى ( وسنزيدها توضيحا في محالها ) تدل على أن الانسان جزء من الارض غير مفارقها ولا مباين معها ، إنفصل منها ثم شرع في التطور بأطواره حتى بلغ مرحلة أنشئ فيها خلقا آخر ، فهو المتحول خلقا آخر والمتكامل بهذا الكمال الجديد الحديث ، ثم يأخذ ملك الموت هذا الانسان من البدن نوع أخذ يستوفيه ثم يرجع إلى الله سبحانه ، فهذا صراط وجود الانسان.
ثم إن الانسان صاغه التقدير صوغا يرتبط به مع سائر الموجودات الارضية والسماوية من بسائط العناصر وقواها المنبجسة منها ومركباتها من حيوان ونبات ومعدن وغير ذلك من ماء أو هواء وما يشاكلها ، وكل موجود من الموجودات الطبيعية كذلك ، أي إنه مفطور على الارتباط مع غيره ليفعل وينفعل ويستبقي به موهبة وجوده غير أن نطاق عمل الانسان ومجال سعية أوسع ، كيف ؟ وهذا الموجود الاعزل على أنه يخالط الموجودات الاخر الطبيعية بالقرب والبعد والاجتماع والافتراق بالتصرفات البسيطة لغاية مقاصده البسيطة في حيوته ، فهو من جهة تجهيزة بالادراك والفكر يختص بتصرفات خارجة عن طوق سائر الموجودات بالتفصيل والتركيب والافساد والاصلاح ، فما من موجود إلا وهو في تصرف الانسان ، فزمانا يحاكي
الطبيعة بالصناعة فيما لا يناله من الطبيعة وزمانا يقاوم الطبيعة بالطبيعة ، وبالجملة فهو مستفيد لكل غرض من كل شئ ، ولا يزال مرور الدهور على هذا النوع العجيب يؤيده في تكثير تصرفاته وتعميق أنظاره ليحق الله الحق بكلماته ، وليصدق قوله : ( سخر لكم ما في السموات وما في الارض جميعا منه ) الجاثية ـ ١٣ ، وقوله : ( ثم استوى إلى السماء ) البقرة ـ ٢٩ ، وكون الكلام واقعا موقع بيان النعم لتمام الامتنان يعطي أن يكون الاستواء إلى السماء لاجل الانسان فيكون تسويتها سبعا أيضا لاجله ، وعليك بزيادة التدبر فيه.
فذاك الذي ذكرناه من صراط الانسان في مسير وجوده ، وهذا الذي ذكرناه من شعاع عمله في تصرفاته في عالم الكون هو الذي يذكره سبحانه من العالم الانساني ومن أين يبتدي وإلى أين ينتهي.
غير أن القرآن كما يعد مبدأ حيوته الدنيوية آخذة في الشروع من الطبيعة الكونية ومرتبطة بها ( أحيانا ) كذلك يربطها بالرب تعالى وتقدس ، فقال تعالى : ( وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا ) مريم ـ ٨ ، وقال تعالى : ( إنه هو يبدئ ويعيد ) البروج ـ ١٣ ، فالانسان وهو مخلوق مربى في مهد التكوين مرتضع من ثدي الصنع والايجاد متطور بأطوار الوجود يرتبط سلوكه بالطبيعة الميتة ، كما انه من جهة الفطر والابداع مرتبط متعلق بأمر الله وملكوته ، قال تعالى : ( انما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ) يس ـ ٨٢ ، وقال تعالى : ( انما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) النحل ـ ٤٠ ، فهذا من جهة البدء وأما من جهة العود والرجوع فيعد صراط الانسان متشعبا إلى طريقين طريق السعادة وطريق الشقاوة ، فاما طريق السعادة فهو أقرب الطرق يأخذ في الانتهاء إلى الرفيع الاعلى ولا يزال يصعد الانسان ويرفعه حتى ينتهي به إلى ربه ، وأما طريق الشقاوة فهو طريق بعيد يأخذ في الانتهاء إلى اسفل السافلين حتى ينتهي إلى رب العالمين ، والله من ورائهم محيط …
دمتم في رعاية الله