السلام عليكم ورحمة الله و بركاته ، مرحبًا بك أيها السائل الكريم ، نشكر تواصلك معنا
جاء في الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج ١٥ - الصفحة ١١٧-١٢١:
التدقيق في عبارات هذه الآية يبيّن أنّها من أكثر آيات القرآن الكريم التي تعطي الأمل للمذنبين ، فشموليتها وسعتها وصلت إلى درجة قال بشأنّها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) : «ما في القرآن آية أوسع من يا عبادي الذين أسرفوا . . .» (2) .
والدليل على ذلك واضح من وجوه :
1 ـ التعبير بـ (يا عبادي) هي بداية لطف الباريء عزّوجلّ .
2 ـ التعبير بـ (إسراف)بدلا من (الظلم والذنب والجريمة) هو لطف آخر .
3 ـ التعبير بـ (على أنفسهم) يبيّن أنّ ذنوب الإنسان تعود كلّها عليه ، وهذا التعبير هو علامة اُخرى من علامات محبّة الله لعباده ، وهو يشبه خطاب الأب الحريص لولده ، عندما يقول : لا تظلم نفسك أكثر من هذا!
4 ـ التعبير بـ (لا تقنطوا)مع الأخذ بنظر الاعتبار أن «القنوط» يعني ـ في الأصل ـ اليأس من الخير ، فإنّها لوحدها دليل على أن المذنبين يجب أن لا يقنطوا من اللطف الإلهي .
5 ـ عبارة (من رحمة الله) التي وردت بعد عبارة (لا تقنطوا) تأكيد آخر على هذا الخير والمحبّة .
6 ـ عندما نصل إلى عبارة (إنّ الله يغفر الذنوب) التي بدأت بتأكيد ، وكلمة «الذنوب» التي جمعت بالألف واللام تشمل كلّ الذنوب من دون أيّ استثناء ، فإنّ الكلام يصل إلى أوجه ، وعندها تتلاطم أمواج بحر الرحمة الالهية .
7 ـ إنّ ورود كلمة (جميعاً) كتأكيد آخر للتأكيد السابق يوصل الإنسان إلى أقصى درجات الأمل .
8 و9 ـ وصف الباريء عزّوجلّ بالغفور والرحيم في آخر الآية ، وهما وصفان من أوصاف الله الباعثة على الأمل ، فلا يبقى عند الإنسان أدنى شعور باليأس أو فقدان الأمل .
نعم ، لهذا السبب فإنّ الآية المذكورة أعلاه من أوسع وأشمل آيات القرآن المجيد ، حيث تعطي الأمل بغفران كلّ أنواع الذنوب ، ولهذا السبب فإنّها تبعث الأمل في النفوس أكثر من بقية الآيات القرآنية . وحقّاً ، فإنّ الذي لانهاية لبحر لطفه ، وشعاع فيضه غير محدود ، لا يتوقع منه أقل من ذلك .
وقد شغلت أذهان المفسّرين مسألتان ، رغم أن حلهما كامنة في هذه الآية والآية التي تليها :
الأولى : هل أنّ عمومية الآية تشمل كّل الذنوب حتّى الشرك والذنوب الكبيرة الأُخرى ، فإذا كان كذلك فلم تقول الآية (48) من سورة النساء : إنّ الشرك من الذنوب التي لا تغتفر {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء : 48] .
والثّانية : هل أنّ الوعد الذي أعطاه الله بغفران الذنوب مطلق أم مشروط بالتوبة ونظير ذلك؟
وبالطبع فإنّ السؤال الأوّل مرتبط بالسؤال الثّاني ، والجواب عليهما سيتّضح خلال الآيات التالية بصورة جيدة ، لأنّ هناك ثلاثة أوامر وردت في الآيات التالية وضحت كلّ شيء {انيبوا إلى ربّكم} والثّانية {وأسلموا له} والثّالثة {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربّكم} .
هذه الأوامر الثّلاثة تقول : إنّ أبواب المغفرة والرحمة مفتوحة للجميع من دون أي استثناء ، ولكن شريطة أن يعودوا إلى أنفسهم بعد ارتكاب الذنب ، ويتوجهوا في مسيرهم نحو الباريء عزّوجلّ ، ويستسلموا لأوامره ، ويظهروا صدق توبتهم وأنابتهم بالعمل ، وبهذا الشكل فلا الشرك مستثنى من المغفرة ولا غيره ، وكما قلنا فإنّ هذا العفو العام والرحمة الواسعة مشروطان بشروط لا يمكن تجاهلها .
وإذا كانت الآية (48) من سورة النساء تستثني المشركين من هذا العفو والرحمة ، فإنّها تقصد المشركين الذين ماتوا على شركهم ، وليس أُولئك الذين صحوا من غفلتهم واتبعوا سبيل الله ، لأنّ أكثر مسلمي صدر الإسلام كانوا كذلك ، أي أنّهم تركوا عبادة الأصنام والشرك بالله ، وآمنوا بالله الواحد القهار بعد دخولهم الدين الإسلامي .
اذا طالعنا الحالة النفسية عند الكثير من المجرمين بعد ارتكابهم للذنب الكبير ، نرى أن حالة من الألم والندم تصيبهم بحيث لا يتصورون بقاء طريق العودة مفتوحاً أمامهم ، ويعتبرون أنفسهم ملوثين بشكل لا يمكن تطهيره ، ويتسألون : هل من الممكن أن تغفر ذنوبنا؟ وهل أن الطريق إلى الله مفتوح أمامنا؟ وهل بقي خلفنا جسر غير مدمّر؟
إنّهم يدركون معنى الآية جيداً ، ومستعدون للتوبة ، ولكنّهم يتصورون استحالة غفران ذنوبهم ، خاصّة إذا كانوا قد تابوا مرات عديدة من قبل ثمّ عادوا إلى إرتكاب الذنب مرّة اُخرى .
هذه الآية تعطي الأمل للجميع في أنّ طريق العودة والتوبة مفتوح أمامهم . لذا فإنّ (وحشي) المجرم المعروف في التأريخ الإسلامي والذي قتل حمزة سيد الشهداء (عليه السلام) ، كان خائفاً من عدم قبول توبته ، لأنّ ذنبه كان عظيماً ، مجموعة من المفسّرين قالوا : إن هذه الآية عندما نزلت على الرّسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) فتحت أبواب الرحمة الإلهية أمام وحشي التائب وأمثاله!
ولكن لا يمكن أن تكون هذه الحادثة سبب نزول هذه الآية ، لأن هذه السورة من السور المكّية ، ولم تكن معركة أحد قد وقعت يوم نزول هذه الآيات ، ولم تكن أيضاً قصة شهادة حمزة ولا توبة وحشي ، وإنّما هي من قبيل تطبيق قانون عام على أحد المصاديق ، وعلى أية حال فإنّ شمول معنى الآية يمكن أن يشخص هذا المعنى .
يتضح ممّا تقدم أنّ إصرار بعض المفسّرين كالآلوسي في تفسيره (روح المعاني) على أنّ الوعد بالمغفرة الذي ورد في الآية المذكورة أعلاه ليس مشروطاً بشيء غير صحيح ، حتّى أنّ الأدلّة السبعة عشر التي ذكرها بشأن هذا الموضوع غير مقبولة ، لأنّ فيها تعارضاً واضحاً مع الآيات التالية ، والكثير من هذه الأدلة السبعة عشر يمكن ادغامها في بعضها البعض ، ولا يفهم منها سوى أنّ رحمة الله واسعة تشمل حتّى المذنبين ، وهذا لا يتعارض مع كون الوعد الإلهي مشروطاً ، بقرائن الآيات التالية …. ترشد المجرمين والمذنبين على أبواب الدخول إلى بحر الرحمة الإلهية الواسع إذ تقول : (وانيبوا إلى ربّكم) واصلحوا أُموركم ومسير حياتكم (واسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثمّ لا تنصرون) .
دمتم في رعاية الله