الدجيلي ( 30 سنة ) - العراق
منذ 3 سنوات

الجبر والتفويض والأمر بين الأمرين

ما معنى الجبر والتفويض والأمر بين الأمرين؟ أرجو التفصيل


عقيدة الأمر بين الأمرين من المباحث المرتبطة بعقيدة العدل الإلهي. والبحث حول هذه العقيدة يتمّ من خلال عرض المدارس الثلاث التي تناولتها: المدرسة الأولى: مدرسة الجبر. وقد اشتهرت نسبة هذه المدرسة إلى الأشاعرة من المسلمين، ومؤدّی ما تقول به هو: أنّ الإنسان مُسَيَّر لا مخير، وكلّ الأفعال الصادرة عنه هي أفعال الله تعالى في الحقيقة، وأنّ العبد يصدر منه الكسب. وتبناها الجهمية أيضا، وقد قرر الشهرستاني عقيدتهم فقال: «إنّ الإنسان لا يقدر على شيء، ولا يوصف بالاستطاعة، وإنّما هو مجبور في أفعاله، لا قدرة له ولا إرادة ولا اختیار، وإنّما يخلق الله تعالى الأفعال فيه على حسب ما يخلق في سائر الجمادات، وتنسب إليه الأفعال مجازا کما تنسب إلى الجمادات، كما يقال أثمرت الشجرة، وجرى الماء، وتحرك الحجر، وطلعت الشمس وغربت، وتغيمت السماء، وأمطرت واهتزّت الأرض وأنبتت، إلى غير ذلك). والذي حداهم إلى الاعتقاد بهذا المعتقد هو إصرارهم على منافاته مع الاعتقاد بالتوحيد الأفعالي (ومعنى التوحيد الأفعالي: أنه لا مؤثر في الكون إلا الله تعالى) لأنّ الفعل إذا نُسب إلى الإنسان لزم من ذلك أن يكون مؤثراً في عَرض تأثير الله سبحانه وتعالى. مناقشة هذه المدرسة: ويمكن أن تسجل على هذه المدرسة ثلاث ملاحظات: الأولى: أنّ الذي يتنافى مع الاعتقاد بالتوحيد الأفعالي إنما هو الاعتقاد بتأثير العبد في عرض تأثير الله تعالى، وأما الاعتقاد بكون تأثيره في طول تأثير الله، فلا محذور فيه. الثانية: مصادمة عقيدة الجبر للبداهة والوجدان الذي يشعر به كل من التفت إلى نفسه، فإنّ كلّ أحد يشعر من نفسه أنّ أفعاله تصدر عنه باختياره وتمام الرغبة منه. الثالثة: أنّ لازم الاعتقاد بعقيدة الجبر أن يكون بعث الأنبياء وإنزال الكتب السماوية لغواً، وأن يكون التكليف، والوعد والوعيد والثواب والعقاب باطلاً؛ لأنّ الإنسان مجبر على فعله فما معنى بعث الأنبياء لإصلاحه، وما معنى تكليفه ووعده ووعيده وثوابه وعقابه ما دامت أفعاله ليست باختياره؟! المدرسة الثانية: مدرسة التفويض. وقد تبناها المعتزلة كما نُسب إليهم، ومؤدّاها: أنّ أفعال العباد مفوّضة إليهم، وهم الفاعلون لها، وليس لله سبحانه شأن بها. قال القاضي عبد الجبار المعتزلي: «ذكر شيخنا أبو عليّ: اتفق أهل العدل على أن أفعال العباد من تصرفهم وقيامهم وقعودهم، حادثة من جهتهم، وأنّ الله أقدرهم على ذلك، ولا فاعل لها ولا مُحْدِث سواهم». وكما ترى فإنّ هذا النص -وهو من أهم ما استند إليه خصوم المعتزلة - وإن كان يشعر باعتقادهم بالتفويض إلا أنه ليس صريحاً فيه مئة بالمئة، ويبقى ذلك محكيّا عنهم في العديد من المصادر. ومنها ما ذكره البغدادي في الفَرق بين الفِرق) بقوله: «ومنها: قولهم جميعاً بأنّ الله تعالى غير خالق لأكساب الناس، ولا لشيء من أعمال الحيوانات، وقد زعموا أنّ الناس هم الذين يقدرون أكسابهم، وأنّه ليس لله عزّ وجل في أكسابهم ولا في أعمار سائر الحيوانات صنع ولا تقدير، ولأجل هذا القول سماهم المسلمون قدرية». وكيف كان، فقد حداهم إلى هذا الاعتقاد - في قبال الجبرية - إصرارهم على تأكيد عقيدة العدل، إذ أنّ الاعتقاد بالجبر يعني الخدش في عدل الله تعالى، لأنّه يجبر عباده على بعض الأعمال ثم يعاقبهم عليها! مناقشة هذه المدرسة: الاعتقاد بالتفويض - مضافا لاستحالته عقلاً- على خلاف صریح القرآن الكريم في العديد من آیاته، ومنها: - قوله تعالى: { وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ}. - وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ}. - وقوله تعالى: { وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}. وقد ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام): «مساكين القدرية أرادوا أن يصفوا الله جل جلاله بعدله. فأخرجوه من قدرته وسلطانه». المدرسة الثالثة: مدرسة الأمر بين الأمرين. وهي مدرسة أهل البيت عليهم السلام والتي حافظت بها على عقيدة التوحيد الأفعالي من ناحية، حيث لم تسلب الله تعالى قدرته وسلطانه، وعلى عقيدة العدل الإلهي من ناحية، حيث لم تسلب الإنسان اختياره. وقد أوضحها المحقق الخوئي (قدس الله سره) في محاضراته الأصولية بمثال رائع أفاد فيه: أنّه لو فرضنا شخصًا مشلول اليد ولم يكن يستطيع تحريكها إلا بإيصال الطبيب التيار الكهربائي لها، حيث لو قطعه عنه تنقطع القوة؛ فإنّ هذا الشخص ذا اليد المشلولة لو ذهب باختياره وقتل شخصاً آخر والطبيب يعلم بذلك؛ فالفعل يُسند لكليهما: أمّا المشلول فلأنّه المباشر، وأمّا الطبيب فلأنّه أقدره حتى في حال الفعل، وكان متمكنًا من قطع القوة عنه لو أراد. وهكذا هي عقيدة الأمر بين الأمرين، فإنّها تقرر أنّ الإنسان من جهة قادر على أفعاله وفاعل لها باختياره، ومن جهة أخرى فإنّه واقع تحت سلطان الله تعالى وسيطرة قدرته النافذة؛ إذ كلّ ما يفعله فإنّما هو بإذنه تعالى ومشيئته وقدره وقضائه. وبعبارة أخرى: إنّ الإنسان من جهة غير مجبور؛ لامتلاكه القدرة والإرادة والاختيار، ومن جهة أخرى غير مفوّض تماما؛ لإمكان أن يَحول الله تعالى بينه وبين ما أراد، فإذا لم يكن مجبوراً ولا مفوّضاً، فهو لا محالة أمر بين أمرين. وقد دلّ عليها من الآيات الكريمة: - قوله تعالى: { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}. - وقوله جل من قائل: { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ }. وقال الإمام الصادق (عليه السلام) : «لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين». ولنختم البحث حول هذه العقيدة بما نقله آية الله العظمى السيد محمد سعید الحكيم في كتابه (أصول العقيدة)، حيث ذكر: أنّه التقى بأستاذ أوربي قد أسلم وتشیع، فسأله عن السبب؟ فذكر له أمرين: كان أحدهما عقيدة الأمر بين الأمرين، إذ أنّ تَنَبُهَ الأئمة عليهم السلام لها في الوقت الذي تخبط فيها غيرهم دليل على الإعجاز والأولويّة.

3