السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وتقبل الله منا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال
س/ ما هو تفسير الآيات من سورة الأعراف
(وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢)أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون (173) وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون
السلام عليكم ورحمة الله و بركاته ، مرحبًا بك أيها السائل الكريم ، نشكر تواصلك معنا
جاء في الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج ٥ -ص٢٨٦-٢٩٠:
الآيات المذكورة أعلاه، تشير إلى " التوحيد الفطري " ووجود الإيمان في أعماق روح الإنسان ... المزید ولذلك فإن هذه الآيات تكمل الأبحاث الواردة في الآيات المتقدمة من هذه السورة في شأن " التوحيد الإستدلالي "!
وبالرغم من كثرة الأقوال والكلام بين المفسرين في شأن عالم الذر، إلا أننا نحاول أن نبين التفسير الإجمالي لهذه الآيات الكريمة، ثم نختار الأهم من أبحاث المفسرين، ونبين وجهة نظرنا بصورة استدلالية موجزة!
يقول الله سبحانه مخاطبا نبيه في هذه الآية وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا!....
" الذرية " كما يقول أهل اللغة وعلماؤها، معناها في الأصل الأبناء الصغار اليافعون، إلا أنها تطلق في الغالب على عموم الأبناء، وقد تستعمل هذه الكلمة في معنى المفرد، كما قد تستعمل في معنى الجمع، إلا أنها في الأصل تحمل معنى الجمع!
والجذر اللغوي لهذه الكلمة مختلف فيه، إذ احتملوا له أوجها متعددة..
فقال بعضهم: إن جذر هذه الكلمة مأخوذ من " ذرأ " على زنة " زرع " ومعناه الخلق، فعلى هذا الوجه يكون معنى الذرية مساويا " للمخلوق ".
وقال بعضهم: بل الجذر مأخوذ من " ذر " على وزن " شر " ويعني الموجودات الصغيرة جدا كذرات الغبار مثلا والنمل الصغير، ومن هنا فإن أبناء الإنسان تبدأ حياتهم من نطفة صغيرة جدا.
والاحتمال الثالث أنه مأخوذ من مادة ذرو ومعناه النثر والتفريق والتنقية [ومنه ذرو الحنطة (1)] وإنما سمي أبناء الإنسان بالذرية لأنهم يتفرقون في أنحاء الأرض بعد التكاثر!
ثم يشير الله سبحانه إلى الهدف النهائي من هذا السؤال والجواب، وأخذ العهد من ذرية آدم في مسألة التوحيد، فيقول: أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين.
الآية التالية تشير إلى هدف آخر من أخذ هذا العهد، وهو أنه إنما أخذ ربك هذا العهد من ذرية بني آدم لئلا تعتذروا أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون.
أجل... وكذلك نفصل الآيات ولعلهم يرجعون.
إيضاح لما ورد عن عالم الذر.
رأينا أن الآيات محل البحث تتحدث عن أخذ العهد من ذرية آدم، لكن كيف أخذ هذا العهد؟!
لم يرد في النص إيضاح في جزئيات هذا الموضوع، إلا أن للمفسرين آراء متعددة تعويلا منهم على الروايات الإسلامية " الواردة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام) " ومن أهم هذه الآراء رأيان.
1 - حين خلق آدم ظهر أبناؤه على صورة الذر إلى آخر نسل له من البشر " وطبقا لبعض الروايات ظهر هذا الذر أو الذرات من طينة آدم نفسه " وكان لهذا الذر عقل وشعور كاف للاستماع والخطاب والجواب، فخاطب الله سبحانه الذر قائلا الست بربكم؟!...
فأجاب الذر جميعا: بلى شهدنا.
ثم عاد هذا الذر " أو هذه الذرات " جميعا إلى صلب آدم " أو إلى طينته " ومن هنا فقد سمي بهذا العالم بعالم الذر... وهذا العهد بعهد " ألست "؟
فبناء على ذلك، فإن هذا العهد المشار إليه آنفا هو عهد تشريعي، ويقوم على أساس " الوعي الذاتي " بين الله والناس.
2 - إن المراد من هذا العالم وهذا العهد هو عالم الاستعداد " والكفاءات "، و " عهد الفطرة " والتكوين والخلق. فعند خروج أبناء آدم من أصلاب آبائهم إلى أرحام الأمهات، وهم نطف لا تعدو الذرات الصغار، وهبهم الله الاستعداد لتقبل الحقيقة التوحيدية، وأودع ذلك السر الإلهي في ذاتهم وفطرتهم بصورة إحساس داخلي... كما أودعه في عقولهم وأفكارهم بشكل حقيقة واعية بنفسها.
فبناء على هذا، فإن جميع أبناء البشر يحملون روح التوحيد، وما أخذه الله من عهد منهم أو سؤاله إياهم: ألست بربكم؟ كان بلسان التكوين والخلق، وما أجابوه كان باللسان ذاته!
ومثل هذه التعابير غير قليلة في أحاديثنا اليومية، إذ نقول مثلا: لون الوجه يخبر عن سره الباطني " سيماهم في وجوهم "، أو نقول: إن عيني فلان المجهدتين تنبئان أنه لم ينم الليلة الماضية.
وقد روي عن بعض أدباء العرب وخطبائهم أنه قال في بعض كلامه: سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك وأينع ثمارك؟ فإن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا!...
كما ورد في القرآن الكريم التعبير على لسان الحال، كالآية (11) من سورة فصلت، إذ جاء فيها فقال لها وللأرض إئتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين.
هذا باختصار هو خلاصة الرأيين أو النظرتين المعروفتين في تفسير الآيات آنفة الذكر...
إلا أن التفسير الأول فيه بعض الإشكالات، ونعرضها في ما يلي:
1 - ورد التعبير في نص الآيات المتقدمة عن خروج الذرية من بني آدم من ظهورهم، إذ قال تعالى... من بني آدم من ظهورهم ذريتهم مع أن التفسير الأول يتكلم عن آدم نفسه أو عن طينة آدم.
2 - إذا كان هذا العهد قد أخذ عن وعي ذاتي وعن عقل وشعور، فكيف نسيه الجميع؟! ولا يتذكر أحد مع أن الفاصلة الزمانية بين زماننا ليست بأبعد مدى من الفاصلة بين هذا العالم والعالم الآخر " أو القيامة "؟ ونحن نقرأ في آيات عديدة من القرآن الكريم أن الناس سواء كانوا من أهل الجنة أو من أهل النار لا ينسون أعمالهم الدنيوية في يوم القيامة، ويتذكرون ما اكتسبوه بصورة جيدة، فلا يمكن أن يوجه هذا النسيان العمومي في شأن عالم الذر أبدا " ولا مجال لتأويله! ".
3 - أي هدف كان من وراء مثل هذا العهد؟! فإذا كان الهدف أن يسير المعاهدون، في طريق الحق عند تذكرهم مثل هذا العهد، وألا يسلكوا إلا طريق معرفة الله، فينبغي القول بأن مثل هذا الهدف لا يتحقق أبدا وبأي وجه كان، لأن الجميع نسوه!!...
وبدون هذا الهدف يعد هذا العهد لغوا ولا فائدة فيه.
4 - إن الاعتقاد بمثل هذا العالم يستلزم - في الواقع - القبول بنوع من التناسخ، لأنه ينبغي - طبقا لهذا التفسير - أن تكون روح الإنسان قد خلقت في هذا العالم قبل ولادته الفعلية، وبعد فترة طويلة أو قصيرة جاء إلى هذا العالم ثانية، وعلى هذا فسوف تحوم حوله كثيرا من الإشكالات في شأن التناسخ!
غير أننا إذا أخذنا بالتفسير الثاني، فلا يرد عليه أي إشكال مما سبق، لأن السؤال والجواب، أو العهد المذكور - عهد فطري، وما يزال كل منا يحس بآثاره في أعماق روحه، وكما يعبر عنه علماء النفس ب " الشعور الديني " الذي هو من الإحساسات الأصيلة في العقل الباطني للإنسان. وهذا الإحساس يقود الإنسان على امتداد التأريخ البشري إلى " طريق " معرفة الله... ومع وجود هذا الإحساس أو الفطرة لا يمكن التذرع بأن آباءنا كانوا عبدة للأصنام ونحن على آثارهم مقتدون!!....
فطرة الله التي فطر الناس عليها (1).
والإشكال الوحيد الذي يرد على التفسير الثاني هو أن هذا السؤال والجواب يتخذ شكلا " كنائيا " ويتسم بلغة الحوار. إلا أنه مع الالتفات إلى ما بيناه آنفا بأن مثل هذه التعابير كثير في لغة العرب وجميع اللغات، فلا يبقي أي إشكال في هذا المجال.
ويبدو أن هذا التفسير أقرب من سواه!
دمتم في رعاية الله