عبدالمحسن الجياشي ( 30 سنة ) - العراق
منذ سنتين

الشفاعة

عندما تكلم للقرآن عن الشفاعة نجده تكلم على ثلاثة أنحاء تارة نفا الشفاعة مطلقا (فماتنفعهم شفاعة الشافعين) وتارة آخرة الآيات حصرت الشفاعة بالله (قل لله الشفاعة جميعا) واخرى الشفاعة متوقفة على إذن من الله (من ذا الذي يشفع عنده الا بإذن...) كيف نتعامل مع هذا التنوع في القرآن


السلام عليكم ورحمة الله و بركاته ، مرحبًا بك أيها السائل الكريم ، نشكر تواصلك معنا وردت مادة «شفع» في ثلاثين موضعا من القرآن الكريم، وإذا ما تمّ الرجوع لهذه الثلاثين موضعا، يمكن الخروج برؤية واضحة عن مفهوم الشفاعة في القرآن الكريم، وهي لا تبعد عن معنى الشفاعة المستعمل في عُرف النّاس، والذي هو «تَدخُلُ شخصٍ لدى شخص آخر بهدف تحصيل‏ مسامحة منه في حقٍ أو حكمٍ ثابت في عاتق شخص ثالث»، ولذلك رفض القرآن الكريم هذا المعنى تارة وأقرّه تارة اُخرى. وعليه فالشفاعة في القرآن الكريم على قسمين : الشفاعة الباطلة والشفاعة الشرعية الصحيحة. ١-الشفاعة الباطلة: لأنّها تتضمن معنى الشرك، من قبيل قول المشركين عن الأصنام: « هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه ‏»، وبطلان هذه الشفاعة أوضح من أن تحتاج إلى بيان، فهؤلاء هم الذين عيّنوا الشفعاء لأنفسهم من جهة، واعتقدوا فيهم تدبيرا وتأثيرا على اللّه‏ عز وجل. من جهة ثانية، وكلتا الجهتين باطلتين، ذلك أنّ الشفاعة تقتضي بطبعها أن يكون الشفيع مقبولاً لدى المُشَفّع، فكيف تكون الأصنام شفيعةً عند اللّه‏ عز وجل؟، ثم إنّ الشفيع ليس له قدرة مستقلة عن اللّه‏ سبحانه، وبالتالي لا يمكن افتراض أن يكون مؤثرا فيه، لذا فهذه ليست شفاعة أصلاً وإنما ركام من الخيالات والأوهام. وفي مقام ردّها، قال القرآن الكريم : « {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُون} ». وأوضح من ذلك قوله تعالی : « {لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ». وقوله تعالى : « {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ». فكلام المشركين عن الشفاعة والشفعاء بلا أساس ولا مستند، لأنّ الشفاعة رحمة يفيضها اللّه‏ عز وجل. على عباده عبر وسائط يختارها ويعيّنها بنفسه، والرحمة لا تدرك المشركين، والشفعاء وسائط يُعَيّنهم اللّه عز وجل.‏ ولا يختارهم المشركون، والشفيع واسطة في انتقال الرحمة وليس سبباً فيها، ولأجل هذه الخصائص بطلت الشفاعة الشركية. ٢-الشفاعة الشرعية الصحيحة: وهي ما كانت بإذن اللّه عز وجل‏، ومن قِبَل أفراد رضي اللّه‏ عنهم وعيّنهم للشفاعة، ولصالح أفراد رضي اللّه‏ عز وجل. في الشفاعة لهم، فهنا ثلاثة شروط : وَرَدَ الشرط الأول في عدة آيات، منها: قوله تعالى : « { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ } »، فهذه الآية بنفسها دالة على الشرط الثاني، لأن الإذن إذا صدر من اللّه‏ سبحانه يكون إذنًا في الشفاعة وفي الشفيع، بما يعني رضا اللّه‏ سبحانه وتعالى عن الشفيع . أما الشرط الثالث فقد ورد في قوله تعالى : « { وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } » .، وحيث أنّ القسم الأوّل من الشفاعة يفتقد إلى هذه الشروط لذا سيجد المشركون أنفسهم في يوم القيامة بلا شفعاء، وسيدركون بطلان الشفاعة التي اعتقدوها، وسيقولون بألسنتهم « { فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ }». فالقرآن الكريم يرسم اتجاهاً عاماً واُسلوباً شائعاً في التعبير عن مظاهر القدرة والكمال؛ يتمثّل بالنفي ثم الإثبات ثم الإفاضة، فيطرح آيات تنفي هذه المظاهر عن غير اللّه عز وجل. ‏، واُخرى تثبتها للّه عز وجل.، وقسم ثالث يشير الى إفاضة اللّه‏ عز وجل. بعض هذه القابليات على بعض مخلوقاته، وهذا الاُسلوب بمراحله الثلاثة استعمله القرآن الكريم في مجالات الرزق والخلق والحكم والمُلك والموت، وهو جارٍ في موضوع الشفاعة أيضاً، فإن الآيات النافية للشفاعة عن غير اللّه‏ عز وجل. غرضها حصر الكمال والقدرة به تعالى،‏ ونفيها عمن سواه، والآيات المثبتة للشفاعة غرضها بيان أنّ الذات الإلهية تتصف بهذا المظهر من مظاهر القدرة والرحمة اتصافاً ذاتياً، والآيات التي تثبت الشفاعة لغير اللّه‏ عز وجل. غرضها التأكيد على قدرته ببيان أن هذه القدرة في أعلى مراحلها، بحيث إنّ اللّه‏ سبحانه وتعالى قد يتولى الشفاعة بنفسه وقد يحولها إلى من يرتضيه من عباده وأوليائه، أي يتصرف فيها وينقلها من نفسه إلى أحد أفراد خلقه. ولعلّ من جملة أغراض هذا الاُسلوب القرآني تربية العبد على التعلق بالقدرة الإلهية والرحمة الربّانية المطلقة، وعدم الاعتداد بالعمل الصالح وحده، لأنّ العمل إنّما ينجّي في محكمة العدل إذا كان بالنحو المقتضي للنجاة، وهل هناك من يستطيع الادعاء بأنّه مستغنٍ بعمله عن رحمة اللّه‏ عز وجل ؟ بل يوغل القرآن الكريم في هذا الاتجاه أكثر حينما يشير بأن الاُمور لا تخرج عن يده وسلطانه وقدرته سبحانه وتعالى حتى عندما يقضي بقضاء حتمي لا تغيير له، كقوله تعالى : « { فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) } ». فمع كونه تعالى قد حكم بالخلود في النار على الأشقياء، وبالخلود في الجنّة على السُعداء، وجعل هذا الخلود بمنزلة خلود السموات والأرض، لكنّه مع ذلك علّقه على مشيئته، إشعاراً منه بأنّ الاُمور لا تخرج من يديه وقبضته حتى تلك التي يُصدر فيها أحكاماً حتمية، فإذا كانت أحكامه تعالى الحتمية لا تسلب عنه القدرة على شيء، ولا تضطرّه إلى شيء، ولا توجب عليه شيئاً، فهل تكون أعمالنا أسباباً تسلب عنه القدرة وتوجب لنا عليه النجاة وتضطرّه الى شيء ؟! ولعلّ الغاية منه‏ عز وجل. في تأكيده على قدرته المطلقة حتى في مثل تلك الموارد، هو ليجعل أنظار العباد تتعلّق إلى تلك القدرة التي لا يحدّها شيء ولا يقيدها شيء حتى قضاء اللّه عز وجل.‏ وأحكامه ، فمن المناسب جداً أن يشير إلى أنّ عمل الإنسان مهما كان صالحاً لا يغنيه عن رحمة الباري تعالى، ولا يحدّ من قدرته، وإذا كانت مشيئة اللّه‏ عز وجل. شرطاً في خلود من حكم اللّه‏ عز وجل. له بالخلود في الجنّة أو في النّار، فمن الأولى أن تكون شرطاً فيمن لم يصدر بحقه بعد الحكم الإلهي . وعليه فالشفاعة ليست إلاّ مظهراً لإرادة اللّه‏ عز وجل. ومشيئته ورحمته المطلقة، وهي لا تكون جزافاً بل على أساس ضابطة معينة، فالذي يريد بلوغ مقام علمي رفيع لابد وأن يكون قد أحرز بعض مقدماته، وبلغ درجة قريبة منه، فتكون الشفاعة هنا ذات معنى معقول، وهو المساعدة على بلوغ الهدف، ولا يكون لها معنى إذا طلبها الاُمِّيُ الذي لم يَسْعَ لأي من المقدمات، ورغب في بلوغ ذلك المقام عن طريق الشفاعة، وكذلك لا تتم الشفاعة لمن لا رابطة له تربطه بالمشفوع عنده أصلاً، كالجاحد الطاغي على سيده، فإنّه لا ينال رضا سيده بالشفاعة، فالشفاعة مُتَمِّمَةٌ للسبب وليست موجدةٌ له . وكما أن تأثير الشفيع عند المولى لا يكون جزافاً، فلا يحق له أن يطلب من المولى إبطال قوانين الجزاء والعقاب، ولا إبطال مولويته بحق عبيده، ولا يطلب منه رفع اليد عن أحكامه وتكاليفه، بل لابد للشفيع من أن يسلّم للمولى بمولويته على عبيده، وبقوانينه وأحكامه بحقهم، وبما يجريه من الجزاء عقاباً أو ثواباً لهم، وإنّما يتمسك الشفيع بصفات في المولى توجب العفو والصفح، وبصفات في العبد تستدعي الرأفة والرحمة، كحسن سابقته، وسوء حاله، واعتذاره، أي أنّ دور الشفيع ليس إخراج العبد من مولوية المولى ودائرة أحكامه وجزاءاته، وإنما يتمثل دوره في السعي لنقل العبد من حكم مولوي إلى حكم مولوي آخر. دمتم في رعاية الله

2