السلام عليكم.
ما تفسير الآيتين في (سورة النساء) :
إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهلة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما (17) وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما (18)
السلام عليكم ورحمة الله و بركاته ، مرحبًا بك أيها السائل الكريم ، نشكر تواصلك معنا
جاء في الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - ج ٣ - ص ١٥٤-١٥٩:
وفي هذه الآية يشير سبحانه إلى شرائط قبول التوبة إذ يقول: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة.
وهنا يجب أن نرى ماذا تعني " الجهالة " هل هي الجهل وعدم المعرفة بالمعصية، أم هي عدم المعرفة بالآثار السيئة والعواقب المؤلمة للذنوب والمعاصي
إن كلمة الجهل وما يشتق منها وإن كانت لها معان مختلفة، ولكن يستفاد من القرائن أن المراد منها في الآية المبحوثة هنا هو طغيان الغرائز، وسيطرة الأهواء الجامحة وغلبتها على صوت العقل والإيمان، وفي هذه الصورة وإن لم يفقد المرء العلم بالمعصية، إلا أنه حينما يقع تحت تأثير الغرائز الجامحة، ينتفي دور العلم ويفقد مفعوله وأثره، وفقدان العلم لأثره مساو للجهل عملا.
وأما إذا لم يكن الذنب عن جهل وغفلة، بل كان عن إنكار لحكم الله سبحانه وعناد وعداء، فإن ارتكاب مثل هذا الذنب ينبئ عن الكفر، ولهذا لا تقبل التوبة منه، إلا أن يتخلى عن عناده وعدائه وإنكاره وتمرده.
وفي الحقيقة إن هذه الآية تبين نفس الحقيقة التي يذكرها الإمام السجاد (عليه السلام) في دعاء أبي حمزة ببيان أوضح إذ يقول: " إلهي لم أعصك حين عصيتك وأنا بربوبيتك جاحد ولا بأمرك مستخف، ولا لعقوبتك متعرض، ولا لوعيدك متهاون، لكن خطيئة عرضت وسولت لي نفسي وغلبني هواي ".
ثم إن الله سبحانه يشير إلى شرط آخر من شروط قبول التوبة إذ يقول: ثم يتوبون من قريب.
هذا وقد وقع كلام بين المفسرين في المراد من " قريب " فقد ذهب كثيرون إلى أن معناه التوبة قبل أن تظهر آثار الموت وطلائعه، ويستشهدون لهذا الرأي بقوله تعالى: وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت الذي جاء في مطلع الآية اللاحقة، ويشير إلى أن التوبة لا تقبل إذ ظهرت علامات الموت.
ولعل استعمال لفظة " قريب " إنما هو لأجل أن نهاية الحياة الدنيوية مهما بعدت فهي قريبة.
ولكن بعض المفسرين ذهب إلى تفسير لفظة " من قريب " بالزمان القريب من وقت حصول المعصية، فيكون المعنى أن يتوبوا فورا، ويندموا على ما فعلوه بسرعة، ويتوبوا إلى الله، لأن التوبة الكاملة هي التي تغسل آثار الجريمة وتزيل رواسبها من الجسم والروح بشكل مطلق حتى لا يبقى أي أثر منه في القلب، ولا يمكن هذا إلا إذا تاب الإنسان وندم قبل أن تتجذر المعصية في كيانها، وتتعمق آثارها في وجوده فتكون له طبيعة ثانية، إذ في غير هذه الصورة ستبقى آثار المعصية في زوايا الروح الإنسانية، وتعشعش في خلايا قلبه، فالتوبة الكاملة - إذن - هي التي تتحقق عقيب وقوع الذنب في أقرب وقت، ولفظة " قريب " أنسب مع هذا المعنى من حيث اللغة والفهم العرفي.
صحيح أن التوبة التي تقع بعد زمن طويل من ارتكاب المعصية تقبل أيضا، إلا أنها ليست التوبة الكاملة، ولعل التعبير بجملة " على الله " (أي على الله قبولها) كذلك إشارة إلى هذا المعنى، لأن مثل هذا التعبير لم يرد في غير هذا المورد من القرآن الكريم، ومفهومه هو أن قبول التوبة القريبة من زمن المعصية حق من حقوق العباد، في حين ان قبول التوبة البعيدة عن زمن المعصية تفضل من الله وليس حقا.
ثم أنه سبحانه - بعد ذكر شرائط التوبة - يقول: فأولئك يتوب عليهم وكان الله عليما حكيما مشيرا بذلك إلى نتيجة التوبة التي توفرت فيها الشروط المذكورة.
ثم يقول تعالى: وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كافر ... المزید وهو إشارة إلى من لا تقبل توبته.
وعلة عدم قبول هذا النوع من التوبة واضحة، لأن الإنسان عند الاحتضار في رحاب الموت تنكشف له الأستار، فيرى ما لم يكن يراه من قبل، فهو يرى بعد انكشاف الغطاء عن عينيه بعض الحقائق المتعلقة بالعالم الآخر، ويشاهد بعينيه نتائج أعماله التي ارتكبها في هذه الدنيا، وتتخذ القضايا التي كان يسمع بها صفة محسوسة، وفي هذه الحالة من الطبيعي أن يندم كل مجرم على جرمه وأفعاله السيئة، ويفر منها فرار الذي يرى اقتراب ألسنة اللهب من جسمه.
ومن المسلم أن التكليف الإلهي والاختيار الرباني للبشر لا يقوم على أساس هذا النوع من المشاهدات والمكاشفات، بل يقوم على أساس الإيمان بالغيب، والمشاهدة بعيني العقل والقلب.
ولهذا نقرأ في الكتاب العزيز أن أبواب التوبة كانت تغلق في وجه بعض الأقوام العاصية عند ظهور طلائع العذاب الدنيوي والنقمة العاجلة، وللمثال نقرأ قول الله سبحانه عن فرعون إذ يقول: حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين (1).
كما يستفاد من بعض الآيات القرآنية (مثل الآية 12 من سورة السجدة) إن العصاة يندمون عندما يشاهدون العذاب الإلهي في الآخرة، ولكن لات حين مندم، فلا فائدة لندمهم في ذلك الوقت، إن هؤلاء أشبه ما يكونون بالمجرمين الذين إذا شاهدوا أعواد المشنقة وأحسوا بالحبل على رقابهم ندموا على جرائمهم وأفعالهم القبيحة، فمن الواضح أن مثل هذه التوبة وهذا الندم لا يعد فضيلة، ولا مفخرة ولا تكاملا، ولهذا لا يكون أي تأثير.
على أن هذه الآية لا تنافي الروايات التي نصت على إمكان قبول التوبة حتى عند اللحظة الأخيرة من الحياة، لأن المراد في هذه الروايات هي اللحظات التي لم تظهر فيها بعد ملامح الموت وآثاره وطلائعه، وبعبارة أخرى لم تحصل لدى الشخص العين البرزخية التي يقف بها على حقائق العالم الآخر.
هذا عن الطائفة الأولى الذين لا تقبل توبتهم، وهم من يتوبون عندما تظهر أمام عيونهم ملامح الموت وتبدو عليهم آثاره. وأما الطائفة الثانية الذين لا تقبل توبتهم فهم الذين يموتون كفارا، إذ يقول سبحانه: ولا الذين يموتون وهم كفار.
ولقد ذكر الله سبحانه بهذه الحقيقة في آيات أخرى في القرآن الكريم (1).
وهنا يطرح سؤال وهو: متى لا تقبل توبة الذين يموتون كفارا؟
احتمل البعض أن لا تقبل توبتهم في العالم الآخر، واحتمل آخرون أن يكون المراد من التوبة - في هذا المقام - ليس هو توبة العباد، بل توبة الله، يعني عود الله على العبد وعفوه ورحمته له.
ولكن الظاهر هو أن الآية تهدف أمرا آخر وتقول: إن الذين يتوبون من ذنوبهم حال العافية والإيمان ولكنهم يموتون وهم كفار لا تقبل توبتهم ولا يكون لها أي أثر.
وتوضيح ذلك: إننا نعلم إن من شرائط قبول الأعمال " الموافاة على الإيمان " بمعنى أن يموت الإنسان مؤمنا، فالذين يموتون وهم كفار تحبط أعمالهم السابقة حتى الصالحة منها حسب صريح الآيات القرآنية (2). وتنتفي فائدة توبتهم من ذنوبهم حتى إذا تابوا حال الإيمان في هذه الصورة أيضا.
وخلاصة القول إن قبول التوبة مشروط بأمرين.
الأول: أن تتحقق التوبة قبل أن يرى الشخص علائم الموت.
والثاني: أن يموت وهو مؤمن.
ثم أنه يستفاد من هذه الآية أيضا إن على الإنسان أن لا يؤخر توبته، إذ يمكن أن يأتيه أجله على حين غفلة، فتغلق في وجهه أبواب التوبة ولا يتمكن منها حينئذ.
والملفت للنظر أن تأخير التوبة الذي يعبر عنه بالتسويف قد أردف في الآية الحاضرة بالموت حال الكفر، وهذا يكشف عن أهمية التسويف وخطورته البالغة في نظر القرآن.
ثم يقول سبحانه في ختام الآية: أولئك اعتدنا لهم عذابا أليما، ولا حاجة إلى التذكير بأن للتوبة مضافا إلى ما قيل شرائط أخرى مذكورة في آيات مشابهة من الكتاب العزيز.
دمتم في رعاية الله