إنّ بعض أهل السنّة ينقلون روايةً يقولون فيها إنّ عمر وعبد الله بن عمر يروون عن رسول الله ص روايةً تدلّ على حرمة البكاء والعزاء، وأنّ البكاء على الإمام الحسين ع يعدّونه بدعةً باعتباره بكاءً على الميت، وأنّ هذه الرواية وردت بصيغٍ مختلفةٍ في صحيح البخاريّ وصحيح مسلم، وإنّ هذا الاختلاف في النقل هو كالتالي:
۱- إنّ الميّت يعذّب في قبره بما نيح عليه.
٢- إنّ الميّت ليعذّب ببكاء أهله عليه.
۳- إنّ الميّت يعذّب ببعض بكاء أهله (۱).
إنّ الخليفة عمر منع البكاء على الميّت بسبب هذه الرواية في عصر الرسول ص وبعد عصره، ونذكر هنا نماذج على ذلك:
أوّلًا. نقل ابن عبّاسٍ أنّه يوم ماتت رقيّة بنت الرسول ص حيث بكت عليها النساء، فجعل عمر يضربهنّ بسوطه ليمنعهنّ من البكاء، فقال له النبيّ ص: دعهنّ يبكين، فإنّ العين دامعةٌ والقلب مصابٌ والعهد قريبٌ، وقعد ص على شفير القبر وفاطمة إلى جانبه تبكي فجعل ص يمسح دمعها (٢).
الحادثة التاريخيّة المذكورة والوارد في المصادر المعتبرة عند أهل السنّة تبيّن أنّ المنع من البكاء والنوح من تصرّفات عمر الخاصّة به، حتّى أنّه لم يراع توجيهات الرسول ص.
ثانيًا. لـمّا توفّي أبو بكرٍ أقامت عائشة وأخته أمّ فروة مجلس النوح، فهجم عمر على ذلك المجلس وأدخل الرجال على مجلس النساء، فضرب أمّ فروة بالدرّة ضرباتٍ ففرّق المجلس (۳).
إنّ هذه الروايات الّتي تبيّن موقف عمر حول البكاء على الميت أوّلًا تتعارض مع الروايات الّتي تبيّن أنّ النبيّ كان يبكي على الميّت، بل وكان يحثّ الناس على البكاء على حمزة وجعفر، أو ردّ فعل النبيّ في الحديث الأوّل؛ وثانيًا تتنافى مع فعل عمر نفسه وبكائه على النعمان بن مقرن، وكذلك بكاء عمر حينما قتل أخوه (۴).
وكذلك إذا كان يستدلّ من الرواية على حرمة البكاء، فلماذا بكى عبد الله بن عمر الراوي الثاني للحديث على عائشة، حيث طعن معاوية في ذلك فقال في جوابه لمعاوية: إنّ كلّ أبناء أمّ المؤمنين يبكون عليها، إلّا من لم يكن مؤمنًا وابنًا لها (۵).
ثالثًا. إنّ عبد الله بن عبّاسٍ وعائشة أنكرا على عمر وابن عمر أصل صحّة الرواية فقالت عائشة: أما أنّ عبد الله بن عمر أخطأ أو نسي، وأقسم بالله أنّ ما نقله عن النبيّ ص لم يقله، بل إنّه قال: (إنّ الله ليزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه) (۶).
إنّ ما قيل وكذلك ما أشير إلى المعاني الّتي بيّنت معنى (البدعة) تدلّل على أنّ البكاء على الميّت أو الشهيد لا ربط لها بالبدعة؛ لأنّ البدعة في اللغة بمعنى الاختراع والإيجاد من دون تقليدٍ لشكلٍ سابقٍ، ويطلق على كلّ أمرٍ حادثٍ، وأمّا في الاصطلاح فإنّ البدعة تطلق على إحداث أمرٍ جديدٍ في الدين بعد اكتمال التشريع، وكلّ أمرٍ حادثٍ في الدين لم يدلّ عليه دليلٌ يعتبر بدعةً ومخالفًا لأصول الشريعة (۷).
ولكنّ البكاء على الميّت ليس أمرًا حادثًا، بل كان منذ بدء الخليقة، فكلّ أمّةٍ وكلّ قومٍ يبكون على فقدان أقاربهم، فإنّ البكاء ليس أمرًا قد أحدثه وأوجده الشيعة، بل إنّه مرتبطٌ بطبيعة الإنسان ومن مميّزات الإنسان، ومظهرًا لأشدّ حالات الإحساس والعاطفة عند الإنسان، وللبكاء أنواعٌ منها بكاء الشوق والحزن، فعندما يواجه الإنسان ما يؤلمه من المصائب، تتحرّك لديه الأحاسيس والعواطف فيتحرّق القلب حزنًا فتهمل الدموع من العين.
وأساسًا فإنّ البكاء لفراق الأحباب أمرٌ فطريٌّ وهو إظهار للمحبّة، ويستقي ذلك من العاطفة الإنسانيّة؛ لأنّه من خلال البكاء يقوم الإنسان بتفريغ العقد الداخليّة والبغض الّذي يحصل للإنسان؛ بسبب فقدان الأعزّاء أو فراق الأحبّاء، ممّا يحصل معه الهدوء والسكينة عند الإنسان، فإنّ الإنسان يظهر تأثّره وتأسّفه من خلال البكاء، ويبرز به علاقته وارتباطه بمحبوبه.
وإنّنا نشاهد من خلال الرجوع للنصوص التاريخيّة والروايات أنّ إقامة مجالس النياحة والعزاء، وقراءة المرثيّات والبكاء، والجزع لفراق الأعزّاء، واللطم على الرأس والصدر وأعمالٍ أخرى تمارس عند العزاء كلّ ذلك يعتبر من مظاهر الحزن والعزاء، وهو أمرٌ كان ولا زال شائعًا ومتداولًا بين جميع الأمم والمسلمين، وإنّ القرآن الكريم وسيرة النبيّ والأئمّة ع وسيرة المتشرّعة تدلّ على جوازها جميعها؛ لأنّ القرآن الكريم لم ينه عن بكاء يعقوب على فراق يوسف، ولتوضيح هذه الأمر أكثر نذكر نماذج من البكاء على الميّت والشهيد، والّتي نقلت في النصوص التاريخيّة والروائيّة عند الشيعة وأهل السنّة وهي:
بعد وفاة الإمام الجوينيّ كسر بعض الناس منبره للتبرّك به، وقاموا بإغلاق الدكاكين، وقاموا برثائه بالقصائد، وبقي طلّابه في عزائهم على أستاذهم مدّة عامٍ، حيث بقوا حاسري الرؤوس، وكان طلّابه يجوبون المدينة وينوحون عليه ويصرخون ويبكون (۸).
كما أورد الذهبيّ بأنّ الأسواق عطّلت بعد وفاة ابن الجوزيّ، واجتمع خلقٌ كثيرٌ، وكان ذلك اليوم يومًا عظيمًا، حيث كان يلقي الناس بأنفسهم في الماء من شدّة الحزن، وظلّوا في حزنٍ عميقٍ بسبب وفاته، وقد أقمنا العزاء عند قبره، وألقيت الكلمات والخطب، وكان الحضور كبيرًا للعزاء (۹).
لقد أضرم عمر النار في باب دار فاطمة الزهراء ع وإن الزهراء ع كانت كثيرة البكاء لـمّا أصابها من المصائب ولفراق والدها، حتّى أنّ عليًّا ع بنى لها بيتًا خارج المدينة في البقيع سمّي فيما بعد بيت الأحزان، حيث كانت تذهب الزهراء هناك لتبكي فيه وأحيانًا كانت تذهب إلى بيت حمزة (۱۰).
وأمّا البكاء على الحسين الشهيد ع فهو كذلك ليس من الأمور الّتي أوجدها أو أحدثها الشيعة، بل إنّه كان اتّباعًا للقرآن الكريم والنبيّ الأكرم ص (۱۱).
وطبقا للنصوص والوثائق التاريخيّة والروائيّة عند الشيعة والسنّة، فإنّ نبيّ الإسلام ص كان يقيم مجالس العزاء والنياحة على الشهداء والأموات، وكان يشجّع الآخرين على ذلك؛ لذا فإنّ القرآن الكريم وكلام المعصومين والسيرة العمليّة لهم ع حجّةٌ علينا؛ ولهذا فإنّنا ننقل هنا بعض الموارد من سيرة النبيّ الأكرم ص:
۱. إنّ الرسول الأكرم ص الّذي هو مركزٌ للعاطفة والرحمة كان يبكي لوفاة ولده إبراهيم، وعندما سئل عن ذلك قال: (إنّ العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول ما يغضب الربّ) (۱٢).
فالرسول ص قد بكى لوفاة عمّه أبي طالبٍ وشهادة عمّه الحمزة في معركة أحدٍ، وعندما رجع للمدينة بعد معركة أحدٍ ورأى نساء الأنصار يبكين قتلاهنّ، قال ص: (لكنّ حمزة لا بواكي له).
فعندما سمع الأنصار بمقالة الرسول هذه أمروا نساءهم بالبكاء على حمزة، وذهبت النساء إلى بيت النبيّ ص وبكين على حمزة، فدعا لهنّ وسأل الله - تعالى - أن يرضى عنهنّ وعن أبنائهنّ (۱۳).
ومن هنا فقد أصبح عرفًا في المدينة؛ حيث إنّه كلّما أرادت النساء أن يبكين على أحدٍ، بدأن بالبكاء على حمزة (۱۴).
وكذلك فإنّ النبيّ ص بكى لاستشهاد زيد بن حارثة، وجعفر ذا الجناحين، وعبد الله بن رواحة، وشجّع الآخرين على البكاء بقوله: (على مثل حمزة فلتبكي البواكي) (۱۵).
وإنّ أوّل شخصٍ بكى على الإمام الحسين ع كان النبي الأكرم ص ففي يوم ولادة الإمام الحسين ع بكى الرسول الأكرم ص وعندما أخبره جبرائيل بنبأ مقتل الإمام الحسين ع وقال مجيبًا على سؤال شخصٍ إيّاه عن سبب بكائه: (أبكي على ابني الحسين تقتله فئةٌ باغيةٌ كافرةٌ من بني أميّة) (۱۶).
وفي بعض الأحيان كان النبيّ ص يقيم عزاءً للحسين في زمان حياة الإمام الحسين وفي أماكن مختلفةٍ كان يبكي عليه، وحتّى أنّه كان يصطحب الحسين معه إلى المسجد، وكان يشمّ تربة كربلاء، ويذكر المصائب والظلم الّذي سيقع عليه حيث روى الإمام علي ع عن النبي ص قائلًا: (دخلت على رسول الله ص ذات يوم وعيناه تفيضان ، فقلت : هل أغضبك أحد يا رسول الله مالك أرى عينيك مفيضتين قال: قام من عندي جبريل ع فأخبرني إن أمتي تقتل الحسين) (۱۷).
عندما كان يذهب الإمام عليٌّ وفاطمة والحسين ع عند الرسول الأكرم ص كان ينظر إليهم وتنهمر دموعه على خدّيه ويقول: (يا بنيّ! يا حسين! كأنّك عن قريبٍ أراك مقتولًا مذبوحًا بأرض كربٍ وبلاءٍ) (۱۸).
لذلك فإنّ البكاء على الميّت والشهيد لا ارتباط له بالبدعة؛ لأنّ النبيّ ص نفسه كان يبكي على الميّت والشهيد؛ ولأنّه - سلام الله عليه - يعتبر قدوةً لنا، فنحن نتّبعه ونتّبع القرآن الكريم الّذي يرى وجوب مودّة أهل البيت ع (۱۹)؛ لذا نحن كذلك نظهر المحبّة والولاء للإمام الحسين ع من خلال البكاء عليه وإقامة العزاء.
إنّ المحبّة الواقعيّة لها آثارٌ ومنها إظهار التأسّف والتأثّر لما وقع من أنواع الظلم على محبوبهم، ومن جانبٍ آخر فإنّنا من خلال إحياء تلك الذكريات العاشورائيّة والبكاء على الحسين ع لما وقع عليه من المصائب نريد أن نظهر استنكارنا واستياءنا من الظلم والقمع الّذي وقع عليه؛ لذلك فإنّ البكاء على الحسين لا يعني فقط إظهار الأسى والأسف على ما وقع عليه، بل إظهار المحبّة والمودّة كذلك، وهو بكاءٌ واعٍ على الشهيد الّذي قدّم نفسه قربانًا على طريق التوحيد والدين والفضائل الإنسانيّة.
إنّ ذرف الدمع على الإمام الحسين ع يعدّ تكريمًا لمقام الشهادة، وإحياءً لروحيّة الثورة على الكفر وكلّ مظاهر المعصية؛ حيث إنّ ازدياد الظلم وتطبيق مخطّطات الظالمين لا بدّ من أن يترك أثره على الإنسان، فإنّ مثل هذا البكاء له قيمةٌ مهمّةٌ؛ لأنّه يقوّي محبّتنا لأهل البيت ع ويزيد في بغضنا لأعدائهم.
في الإسلام الحبّ والبغض والتولّي والتبرّي والنفي والإثبات والطاعة والعصيان تجد معنى لها إذا كانت مترافقةً؛ ولذا فإنّ كلمة التوحيد مركّبةٌ من النفي والإثبات، وإنّ تحفيز المشاعر الإنسانيّة ضدّ الظلم والبكاء على المظلوم يعدّ عاملًا مهمًّا لتحطيم قصور الظلم على طول التاريخ؛ ولذا فإنّ الائمة ع قد حثّوا وأكّدوا على إحياء ذكرى عاشوراء، وإنّ الإمام محمّدًا الباقر ع ذكر في وصيّةٍ له أنّه علينا إقامة مجالس العزاء على الامام الحسين في (منى) بعد وفاته ع (٢۰)، فإنّ هذه الوصايا توجّه لنا رسالةً بضرورة مواجهة الظلم وتقبيح كلّ عملٍ ظالمٍ؛ إذن كيف لا نبكي على الحسين ع في حين أنّ الأرض والسماء بكت عليه، ويوم مقتله لم يرفع حجرٌ في بيت المقدس والشام إلّا وجدوا تحته دمًا عبيطًا، وأظلم الجوّ يوم شهادته وتغيّرت الآفاق واسودّت السماء، بحيث ظهرت معها النجوم وانكسفت الشمس، وكانت ترى الآفاق في السماء حمراء أثناء طلوع وغروب الشمس بشكلٍ غير معتادٍ مدّة ستّة أشهرٍ، فكيف يمكن منع الدموع من أن تسيل وتذرف، في حين أنّ السماء بكت عليه دمًا كما بكت على يحيى بن زكريا (٢۱).
المصادر:
۱- مسلم، صحيح مسلم، بيروت، دار الفكر، ۱۴۰۱ق، ج۳، ص۴۳ - ۴۱
٢- أحمد بن حنبل، المسند، بيروت، دار صادر، بلا تاريخٍ، ج۱، ص۳۳۵؛ السيّد شرف الدين، النصّ والاجتهاد، ص٢۹۸.
۳- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، بيروت، دار إحياء التراث العربيّ، الطبعة الثانية، ۱۳۸۷ق، ج۱٢، ص۶۸.
۴- ابن عبد ربّه الأندلسيّ، العقد الفريد، دار الفكر، بلا تاريخٍ، ج۳، ص۱۶۸.
۵- ابن خلّكان، الوفيّات، قمّ، دار نشر الشريف الرضيّ، ۱۳۶۴ش، ج۳، ص۱۶.
۶- محيي الدين بن النووي، المجموع، دار الفكر، بلا تاريخٍ، ج۵، ص۳۰۸ - ۳۰۷.
۷- محمّد مرتضي الزبيديّ، تاج العروس، بيروت، مكتبة الحياة، بلا تاريخٍ، ج۵، ص٢۷.
۸- الخطيب البغداديّ، تاريخ بغداد، بيروت، دار الكتب العلميّة، ۱۴۱۷ق، ص۹۳.
۹- الإمام شمس الدين الذهبيّ، سير أعلام النبلاء، بيروت، مؤسّسة الرسالة، ۱۴۱۳ق، ج۱۸، ص۳۷۹.
۱۰- السيّد شرف الدين، النصّ والاجتهاد، أبو مجتبى، الطبعة الأولى، ۱۴۰۴ق، ص۳۰۰.
۱۱- سورة الشورى، الآية: ٢۳.
۱٢- محمّد بن إسماعيل البخاريّ، صحيح البخاريّ، بيروت، دار الفكر، ۱۴۰۱ق، ج٢، ص۱۰۵.
۱۳- محمّد بن سورٍ، الطبقات الكبرى، بيروت، دار صادرٍ، بلا تاريخٍ، ج۱، ص۱٢۰.
۱۴- المصدر نفسه، ج٢، ص۴۱.
۱۵- أحمد بن يحيى، البلاذريّ، أنساب الأشراف، بيروت، مؤسّسة الأعلميّ، ۱۳۹۴ق، ج۱، ص۴۸۸.
۱۶- المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، بيروت، نشر الوفا، ۱۴۰۳، ج۴۳، ص۳۳۸.
۱۷- المعجم الكبير للطبراني، ج۳، ص۱۰۵.
۱۸- كتاب الفتوح، أحمد بن أعثم الكوفي، ج ٥، الصفحة ١٩.
۱۹- سورة الشورى، الآية: ٢۳.
٢۰- العلّامة الحلّي، منتهى المطلب، تبريز، الحاجّ أحمد، ۱۴۳۳، ج۱، ص۴۶۷.
٢۱- ابن عساكر، ترجمة الحسين، مجمع إحياء الثقافة الإسلاميّة، الطبعة الثانية، ۱۴۱۴ق، ص۳۵۴؛ الشيخ سليمان القندوزي الحنفيّ، ينابيع المودة، دار الأسوة، الطبعة الثانية، ۱۴۱۶ق، ج۳، ص۹۵ وما بعدها.