logo-img
السیاسات و الشروط
منذ 3 سنوات

رأي القرآن في عصمة النبي يوسف (ع)

قوله تعالي:{ وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأي‏ بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصينَ } . يثير في النفوس أسئلةً كثيرة، و لطول ما سمعناه و ما قرأناه في تفسير هذه الآية حثّنا علي طرح بعض الأسئلة التي تراودنا: أولاً:- هل يمكن اعتبار (قد) بعد الفعل الماضي مفيدةً لتحقيق الفعل (همّت، همّ) و إدراجها بتحقق الفعل و الإنجذاب إلي المعصية من الطرفين؟ ثانيًا:- كيف يمكن أن نقرأ هذه الآية حتّي نرفع أسلوب الإشتباه و الغموض الذي يصوّر نبي الله يوسف عليه السلام بالذي تتحرك فيه الغرائز و الأهواء نحو المعصية. هل نقرأها: 1- و لقد همت به و هم بها فرأي برهان ربه فتوقف؟ أو 2- و لقد همت به و لولا أن رأي برهان ربه لكاد يهمّ بها؟ ثالثًا:- هل يمكن اعتبار (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصينَ ) دليلاً علي عدم ورود حتّي خاطرة الإنجذاب في نفس يوسف عليه السلام إذ أن المخلص (بفتح اللام) ممن لا سبيل للشيطان علي قلبه و أفعاله؟ رابعًا:- و علي أساس أنّ كل الأنبياء مخلَصين (بفتح اللام)، كيف نتعامل مع قوله تعالي:{ وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّي أَلْقَي الشَّيْطانُ في‏ أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَ اللَّهُ عَليمٌ حَكيم‏} .و المخلص(بفتح اللام) لا يؤثر الشيطان من قريب و لا بعيد في أفكاره و تحركاته؟؟


اما ما يتعلق بالآية [52 من سورة الحج‏] نقول: لقد جاء في تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي تفسير الآية بوجهين الاوّل: ان معني الآية هو كون التمني هو تمني القلب: " وما ارسلنا من قبلك من رسول الا إذا تمني" و قدّر بعض ما يتمناه من توافق الاسباب علي تقدم دينه }أي تمني ان تسير الامور بصورة طبيعية  لصالح دينه - و هذه امنية طبيعية- و اقبال الناس عليه و ايمانهم به{ القي الشيطان في امنيّته  و داخل فيها  بوسوسة  الناس و تهييج الظالمين و اغراء المفسدين، فأفسد الأمر علي ذلك الرسول او النبي و ابطل سعيه، فينسخ اللّه سبحانه و يزيل ما يلقي الشيطان [بمعني ان اللّه يبطل  كيد الشيطان‏] ثم  يحكّم اللّه  آياته بانجاح سعي الرسول او النبي و اظهار الحق و اللّه عليم حكيم. اما المعني الثاني: هو كون التمني بمعني القراءة و التلاوة: و ما ارسلنا من قبلك ... المزید الاّ اذا تلا و قرأ آيات اللّه القي الشيطان شبهاً مضلة علي الناس بالوسوسة  ليجادلوه بها و يفسدوا علي المؤمنين ايمانهم فيبطل الله ما يلقيه الشيطان من الشبه و يذهب به بتوفيق النبي لردّه او بانزال ما يردّه   من الآيات القرآنية المباركة.  إذاً الآية المباركة، لا تشير الي نوع سيطرة للشيطان علي الانبياء و انما تشير الي العراقيل التي يضعها الشيطان في طريق الانبياء من خلال اغواء الناس و هذا أمر لا ينافي عصمة الانبياء بوجه أبداً. و اما ما يتعلق بقصة النبي يوسف عليه السلام فهي بلا شك من القصص المهمة و الجديرة بالبحث و المطالعة و الدراسة و التأمل و نحن سنذكر لك جواب ما ذكرته بصورة مفصلة ان شاء اللّه تعالي عسي ان نصل الي بيان الحقيقة، بعونه سبحانه و تعالي، فنقول: يوسف الصديق هو الأسوة إنّ فيما ورد في سورة يوسف من الآيات، لأجلي دليل علي أنّه الإنسان المثالي الذي لا يعد له مثال، كيف؟ و قد دلّت الآيات علي أنّه سبحانه اجتباه من بداية حياته و صباه، و علّمه من تأويل الأحاديث، و أتمّ نعمته عليه، و قد قام القرآن بسرد قصته وأسماها بأحسن القصص، ففيها براهين واضحة علي طهارته و نزاهته و عصمته من الذنوب، و صيانته من المعاصي، و تفانيه في مرضاة اللّه كيف؟ و قد ابتلاه اللّه سبحانه بلاء حسناً، فوجده صابراً متمالكاً لنفسه عند الشهوات و المحرمات و ناجياً من الغمرات التي لا ينجو منها إلاّ من عصمه اللّه سبحانه، فقد ظهر بهذا البلاء باطنه، و تجلّت به حقيقته، و بان أنّه الإنسان الذي حاق به الخوف من اللّه سبحانه، فطفق لا يغفل عنه طرفة عين و لا يبدل رضاه بشي‏ء. كيف؟ و من طالع القصة يقف علي أنّ نجاة  يوسف من مخالب الشهوة و خدعة امرأة العزيز لم تكن إلاّ أمراً خارقاً للعادة، و لولا عصمته لما كانت النجاة ممكنة بل كانت أمراً أشبه بالرؤيا منه باليقظة. و في هذا الصدد يقول العلاّمة الطباطبائي: فقد كان يوسف رجلاً، و من غريزة الرجال الميل إلي النساء، و كان شاباً، بالغاً أشده، و ذاك أوان غليان الشهوة و فوران الشبق، و كان ذا جمال بديع يدهش العقول و يسلب الألباب، و الجمال و الملاحة يدعوان إلي الهوي؟ هذا من جانب، و من جانب آخر كان مستغرقاً في النعمة و هنئ العيش، محبوراً بمثوي كريم و ذلك من أقوي أسباب التهوّس، و كانت الملكة فتاة فائقة الجمال كما هو الحال في حرم الملوك و العظماء، و كانت لا محالة متزيّنة لما يأخذ بمجامع كل قلب، و هي عزيزة مصر ـ و مع ذلك عاشقة له والهة تتوق نفسها إليه، و كانت لها سوابق الإكرام و الإحسان و الإنعام ليوسف، و ذلك كلّه مما يقطع اللسان و يصمت الإنسان و قد تعرّضت له، و دعته إلي نفسها، و الصبر مع التعرّض أصعب، و قد راودته هذه الفتّانة و أتت بما في مقدرتها من الغنج و الدلال، و قد ألّحت عليه، فجذبته إلي نفسها حتي قدت قميصه، و الصبر معه أصعب و أشق، و كانت عزيزة لا يرد أمرها و لا يُثني رأيها، و هي رتبة خصّها بها العزيز، و كان في قصر زاه من قصور الملوك ذي المناظر الرائعة التي تبهر العيون و تدعو إلي كل عيش هنئ. و كانا في خلوة، و قد غلّقت الأبواب و أرخت الستور، و كان لا يأمن من الشر مع الامتناع، و كان في أمن من ظهور الأمر و انتهاك الستر، لأنها كانت عزيزة بيدها أسباب الستر و التعمية و لم تكن هذه المخالطة فائتة لمرة بل كانت مفتاحاً لعيش هنئ طويل، و كان يمكن ليوسف أن يجعل هذه المخالطة و المعاشقة وسيلة يتوسل بها إلي كثير من آمال الحياة و أمانيها كالملك و العزّة و المال فهذه أسباب و أمور هائلة لو توجهت إلي جبل لهدتّه، أو أقبلت علي صخرة صمّاء لأذابتها، و لم يكن هناك ممّا يتوهم مانعاً إلاّ الخوف من ظهور الأمر، أو مناعة نسب يوسف أو قبح الخيانة للعزيز، و لكن الكل غير صالح لمنع يوسف عن ارتكاب العمل. أمّا الخوف من ظهور الأمر فقد مرّ أنّه كان في أمن منه، و لو كان بدا من ذلك شي‏ء لكان في وسع العزيزة أن تأوّله تأويلاً كما فعلت فيما ظهر من أمر مراودتها ،فكادت حتي أرضت نفس العزيز إرضاء فلم يؤاخذها بشئ و قلبت العقوبة علي يوسف حتي سجن. و أمّا مناعة النسب فلو كانت مانعة لمنعت إخوة يوسف عمّا هو أعظم من الزنا و أشد أثماً، فانّهم كانوا أبناء إبراهيم و إسحاق و يعقوب أمثال يوسف فلم تمنعهم شرافة النسب من أن يهمّوا بقتله و يلقوه في غيابت الجب، و يبيعوه من السيارة بيع العبيد،و يثكلوا فيه أباهم يعقوب النبي، فبكي حتي ابيضّت عيناه. و أمّا قبح الخيانة و حرمتها فهو من القوانين الاجتماعية، و القوانين الاجتماعية إنّما تؤثر أثرها بما تستتبعه من التبعة علي تقدير المخالفة و ذلك إنّما يتم فيما إذا كان الإنسان تحت سلطة  القوّة  المجرية و الحكومة العادلة و أمّا لو أغفلت القوّة المجرية،أو فسقت فأهملت،أو خفي الجرم عن نظرها، أو خرج من سلطانها فلا تأثير حينئذ لشي‏ء من هذه القوانين. فلم يكن عند يوسف ما يدفع به عن نفسه و يظهر به علي هذه الأسباب القوية التي كانت لها عليه،إلاّأصل التوحيد و هو الإيمان باللّه. و إن شئت قلت:المحبة الإلهية التي ملأت وجوده و شغلت قلبه،فلم تترك لغيرها محلاً و لا موضع أصبع  هذا هو واقع الأمر غير أن بعض المخطّئة لم يرتض ليوسف هذه المكارم و الفضائل و استدل علي عدم عصمته بما ورد في سورة يوسف في حق العزيزة و من هو في بيتها، قال سبحانه: (وَ راوَدَتْهُ الَّتي‏ هُوَ في‏ بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَ قالَتْ هَيْتَ لَك‏.) ، و محل الاستدلال :قوله(و همّ بها)أي همّ بالمخالطة، و انّ همّه بها كان كهمّها به، و لولا أنّ رأي برهان ربّه لفعل، و قد صانته عن ارتكاب الجريمة بعد الهمّ بها ـرؤية البرهان. و بعبارة أخري: إنّ المخطّئة جعلت كلا من المعطوف و المعطوف عليه (وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها) كلاماً مستقلاً غير مقيد بشئ و كأنّه قال: و لقد همّت به:أي بلا شرط و قيد و همّ بها: أي جزماً و حتماً. ثم بعد ذلك أي بعد الإخبار عن تحقّق الهم من الطرفين استدرك بأنّ العزيزة بقيت علي همّها و عزمها إلي أن عجزت، و أمّا يوسف فقد انصرف عن الاقتراف لأجل رؤية برهان ربّه، و لأجل ذلك قال: (لَوْ لا أَنْ رَأي‏ بُرْهانَ رَبِّهِ ) أي و لولا الرؤية لاقترف و فعل و ارتكب،لكنّه رأي فلم يقترف و لم يرتكب،فجواب لولا محذوف و تقديره«لاقترف». ثم إنّ المخطّئة استعانوا في تفسير الآية بما ذكروه من الإسرائيليات التي لا يصح أن تنقل، و انّما ننقل خبراً واحداً ليكون القارئ علي اطلاع عليها: قالوا: جلس يوسف منها مجلس الخائن، و أدركه برهان ربّه و نجّاه من الهلكة، ثم إنّهم نسجوا هناك أفكاراً خيالية في تفسير هذا البرهان المرئي فقالوا: إنّ طائراً وقع علي كتفه، فقال في أذنه:لا تفعل، فإن فعلت سقطت من درجة الأنبياء و قيل: إنّه رأي يعقوب عاضاً علي إصبعه و قال: يا يوسف أما تراني؟ إلي غير  ذلك من الأوهام التي يخجل القلم من نقلها. غير انّ رفع الستر عن مرمي الآية يتوقف علي البحث عن أمور: 1ـما هو معني«الهم»في قوله:( وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها). 2ـما هو جواب(لَوْ لا أَنْ رَأي‏ بُرْهانَ رَبِّه‏‏‏) و هذا هو العمدة في تفسير الآية. 3ـما هو معني البرهان؟ 4ـدلالة الآية علي عصمة يوسف. و إليك تفسيرها واحدا تلو الآخر. 1ـما معني الهم؟ لقد فسّره ابن منظور في لسانه بقوله:همّ بالشئ يهم همّاً:نواه و أراده و عزم عليه قال سبحانه:( وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا ) روي أهل السير:أنّ طائفة من المنافقين عزموا علي أن يغتالوا رسول اللّه(ص) في العودة من تبوك،و لأجل ذلك وقفوا علي طريقه،فلما قربوا من رسول اللّه(ص) أمر بتنحيتهم،و سمّاهم رجلاً رجلاً. هذا هو معني الهم، و تؤيده سائر الآيات الوارد فيها لفظ الهمّ، ولو استعمل في مورد في خطور الشئ بالبال، و إن لم يقع العزم عليه، فهو استعمال نادرلايحمل عليه صريح الكتاب. أضف إلي ذلك أنّ الهمّين في الموردين بمعني واحد، و بما أنّ هم العزيزة كان بنحو العزم و الإرادة، وجب حمل الهم في جانب يوسف عليه أيضاً لا علي خطور الشئ بالبال، لأنّه تفكيك بين اللفظين من حيث المعني بلا قرينة، و لكن تحقّق أحد الهمين دون الآخر،لأنّ هم يوسف كان مشروطاً بعدم رؤية برهان ربّه، و بما أنّ العدم انقلب إلي الوجود، و رأي البرهان لم يتحقق هذا الهم من الأساس،كما سيوافيك، نعم لا ننكر أنّ ‏الهم قد يستعمل بقرينة في مقابل العزم،قال كعب بن زهير: فكم فهموا من سيد متوسع   *** ****** و من فاعل للخير ان همّ أو عزم‏ و لكن التقابل بين الهم و العزم أوجب حمل الهم علي الخطور بالبال، و لولاه لحمل علي نفس العزم. كما ربّما يستعمل في معني المقاربة فيقولون:همّ بكذا و كذا، أي كاد يفعله، و علي كل تقدير فالمعني اللائح من الهم في‏الآية هو العزم و الإرادة. 2ـما هو جواب لولا؟ لا شك أنّ«لولا»في قوله سبحان:( لَوْ لا أَنْ رَأي‏ بُرْهانَ رَبِّهِ ) ابتدائية.فلا تدخل إلاّ علي المبتدأ مثل«لوما»قال ابن مالك: لولا و لوما يلزمان الابتداء        إذ امتناعا بوجود عقدا و مما لا شك فيه أنّ«لولا»الابتدائية تحتاج إلي جواب، و يكون الجواب مذكوراً غالباً مثل قول القائل: كانوا ثمانين أو زادوا ثمانية         لولا رجاؤك قد قتلت أولادي‏ و قد تواترت الروايات عن عمر بن الخطاب أنّه قال في مواضع خطيرة:«لولا علي لهلك عمر» و ربّما يحذف جوابها لدلالة القرينة عليه أو انفهامه من السياق،كقوله سبحانه:( وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكيمٌ ) أي و لولا فضل اللّه و رحمته عليكم لهلكتم، و ربّما يحذف الجواب لدلالة الجملة المتقدمة عليه كقوله:«قد كنت هلكت لولا أن تداركتك»و قوله:«و قتلت لولا أنّي قد خلصتك»و المعني لولا تداركي لهلكت،و لولا تخليصي لقتلت،و مثل لولاسائر الحروف الشرطية قال الشاعر: فلا يدعني قومي صريعاً لحرة            لئن كنت مقتولاً و يسلم عامر و قال الآخر: فلا يدعني قومي ليوم كريهة        لئن لم أعجل طعنة أو أعجل‏ فحذف جواب الشرط في البيتين لأجل الجملة المتقدمة. و بالجملة:لا إشكال في أنّ جواب الحروف الشرطية عامة و جواب«لولا»خاصة، يكون محذوفاً إمّا لفهمه من السياق أو لدلالة كلام متقدم عليه، و المقام من قبيل الثاني،فقوله سبحانه:( وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأي‏ بُرْهانَ رَبِّه‏) يؤول إلي جملتين: إحداهما مطلقة،و الأخري مشروطة. أمّا المطلقة فهي قوله:( وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ)و هو يدل علي تحقّق«الهم»من عزيزة مصر بلا تردد . أمّا المقيدة فهي قوله:( وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأي‏ بُرْهانَ رَبِّه)و تقديره:«لولا أن رأي برهان ربّه لهمّ بها»فيدل علي عدم تحقق الهم منه لما رأي برهان ربّه،و أمّا الجملة المتقدمة علي«لولا»أعني قوله(و هم بها)فلا تدل علي تحقق الهم،لأنّها ليست جملة منفصلة عمّا بعدها،حتي تدل علي تحقق الهمّ،و انّما هي قائمة مكان الجواب،فتكون مشروطة و معلّقة مثله،و سيوافيك تفصيله عن قريب. 3ـ ما هو البرهان؟ البرهان هو الحجة و يراد به السبب المفيد لليقين،قال سبحانه:( ِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلي‏ فِرْعَوْنَ وَ مَلاَئِه) و قال تعالي:( يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُم‏)  ،و قال سبحانه:(ءإله ِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقين‏)  ،فالبرهان هو الحجة اليقينية التي تجلي الحق و لا تدع ريباً لمرتاب و علي ذلك فيجب أن يعلم ما هذا البرهان الذي رآه يوسف عليه السلام؟ و الذي يمكن أن يكون مصداق البرهان في المقام هو العلم المكشوف و اليقين المشهود الذي يجر النفس الإنسانية إلي طاعة لا تميل معها إلي معصية.و انقياد لا تصاحبه مخالفة، و قد أوضحنا عند البحث عن المعصية إنّ احدي أسس العصمة هو العلم اليقين بنتائج المآثم و عواقب المخالفة علماً لا يغلب و انكشافاً لا يقهر، و هذا العلم الذي كان يصاحب يوسف هو الذي صدّه عمّا اقترحت عليه امرأة العزيز. و يمكن أن يكون المراد منه سائر الأمور التي تفيض العصمة علي العباد التي أوضحنا حالها في‏الجزء الماضي‏  4ـدلالة الآية علي عصمة يوسف عليه السلام‏ إنّ الآية علي رغم ما ذهبت إليه المخطّئة تدل علي عصمة يوسف عليه السلام قبل أن تدلّ علي خلافها. توضيحه:انّه سبحانه بيّن همّ العزيزة علي وجه‏الإطلاق و قال:(و همّت به)و بيّن همّ يوسف بنحو الاشتراط و قال:(و همّ بها لولا أن رأي برهان ربّه)فالقضية الشرطية لا تدل علي وقوع الطرفين خصوصاً مع كلمة«لولا»الدالة علي عدم وقوعهما. فإن قلت:إن كلاّ من الهمين مطلق حتي الهم الوارد في حق يوسف و انّما يلزم التعليق لو قلنا بجواز تقدم جواب لولا الامتناعية عليها و هو غير جائز بالاتفاق ، و عليه فيكون قوله :(و همّ بها) طلقاً إذ ليس جواباً لكلمة«لولا» لت:إنّ جواب«لولا»محذوف و تقديره«لهمّ بها» و ليست الجملة المتقدمة جواباً لها حتي يقال:إنّ تقدم الجواب غير جائز بالاتفاق،و مع ذلك فليست تلك الجملة مطلقة بل هي أيضا مقيدة بما قيد به الجواب،لأنه إذا كان الجواب مقيدا فالجملة القائمة مكانه تكون مثله، و له نظير في‏الكتاب العزيز مثل قوله:( وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَليل)  و المعني انّه سبحانه ثبت نبيه فلم يتحقّق منه الركون و لا الاقتراب منه. و قال سبحانه:( وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَ ما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ‏ء) ،و المعني أنّ تفضلّه سبحانه علي نبيه صار سبباً لعدم هم الطائفة علي إضلاله و الآية مثل الآيتين غير انّ الجواب فيها محذوف‏ لدلالة الجملة المتقدمة عليه بخلافهما. و حاصل الكلام: أنّه في مورد الآية و نظائرها يكون الجزاء منتفياً بانتفاء شرطه،غير انّ هذه الجمل إنّما تستعمل في ما إذا كانت هناك أرضية الهم كانت موجودة في جانب يوسف لتجهزه بالقوي الشهوية،و غيرها من قوي النفس الأمارة،و كانت هذه العوامل مقتضية لحدوث الهم بالفحشاء و لكن صارت خائبة غير مؤثرة لأجل رؤية برهان ربّه، و الشهود اليقيني‏الذي يمنع النبي عن اقتراف المعصية و الهم بها. و إن شئت قلت:منعته المحبة الإلهية التي ملأت وجوده و شغلت قلبه،فلم تترك لغيرها موضع قدم، فطرد ما كان يضاد تلك المحبة. و هذا هو مفاد الآية و لا يشك فيه من لاحظ المقدمات الأربع التي قدّمناها. و علي ذلك فبما انّ«اللام»في قوله:(و لقد همّت به) للقسم يكون معني قوله(و همّ بها) بحكم عطفه عليه و المعني:و اللّه لقد همت امرأة العزيز به و واللّه لولا أن رأي يوسف برهان ربّه لهمّ بها،و لكنّه لأجل رؤية البرهان و اعتصامه صرف عنه سبحانه السوء و الفحشاء،فإذا به عليه السلام لم يهم بشئ و لم يفعل شيئاً لأجل تلك الرؤية  و هناك من المفسّرين ‏من ‏فسر الهم‏[همّ بها]بالحالة الانجذابية،و الانجذاب حالةلاشعورية و لكنه لا يتحوّل الي فعل و الي ممارسة و الي قصد،لكن ايمانه في اعماقه منعه من ذلك‏[لولا أن رأي برهان ربّه‏]يعني البرهان من ايمانه و حجته و عصمته الروحيةـفان يوسف ـ انطلق و برهان ربّه موجود في عقله و في قلبه،فكأنّ اللّه ثبته ليصرف عنه السوء و الفحشاء. و علي كل حال فالآيات تشير الي عظمة شخصية يوسف و عمق تقواه و انها وردت في القرآن الكريم كما يظهر من سياقها من باب مدح يوسف(ع) و الثناء عليه و الاشارة الي نجاحه في هذا الامتحان الصعب الذي ليس من السهل اجتيازه الا لمن اتقي اللّه و اخلص له.

2