منذ سنتين

الظروف التي جعلت المسلمين يتناسون بيعة الغدير وخطبة الرسول (ص) فيها, رغم قرب عهدهم بها

هناك شبهة تثار كثيراً عند البعض وهي: من المعلوم أنه لم تكن هناك فترة زمنية طويلة بين حادثة غدير خم ووفاة النبي (ص)، وكما يروي التاريخ بان تنصيب الأمام علي خليفة للرسول ص في غدير خم كان واضحاً وضوح الشمس، وما يؤكد ذلك أيضاً ما يتقله التاريخ من استقبال الامام علي (ع) للمهنئين له بتلك المناسبة ، والشبهة هي: كيف نسيء المسلمون خلال هذه الفترة القصيرة خلافة الرسول للإمام علي يوم غدير خم، ألم تكن في رقبتهم بيعة الإمام عندما رضخوا لبيعة الخليفة الأول، لماذا رضوا بتلك البيعة للخليفة الأول وكأن قضية غدير خم لم تحدث بتاتا، ( لا نقصد الفئة القليلة فقط التي رفضت مبايعة الخليفة الأول بل نقصد السواد الأعظم من المسلمين وخاصة ممن شهدوا بيعة غدير خم ) هذه شبهة قوية يثيرها المسلمون، فيكف نرد عليها رداً شافياً أدام الله بقائكم؟


بعد ان ثبت و بالادلة القطعية التي لا شك فيها حديث الغدير، و حسب ما عبرتم انه كان واضحا وضوح الشمس فلا مجال للاستبعاد العقلي حينئذ، فالاستبعاد العقلي لا يقاوم النصوص الثابتة التي نقلها المؤرخون و المحدثون فحينئذ ينبغي لنا ان نفتش عن العوامل التي ادّت الي هذه النتيجة لا ان نطرح الادلة جانبا او نشكك في الدليل. و من الذين بحثوا هذه القضية هو الدكتور محمد التيجاني و الذي عاش القضية معايشة نفسيّة لانه كما تعلم كان علي مذهب الامام مالك ثم تحوّل الي المذهب الشيعي الجعفري بعد المطالعة و المناقشة و الحوار و الاخذ و الرد، فقد قال حفظه الله في كتابه [لأكون مع الصادقين‏]: بقي عنصر واحد مهمّ في كل هذا البحث يستحقّ العناية و الدرس و ربما هو الإعتراض الوحيد الذي كثيراً ما يثار عند ما يفحم المعاندون بالحجج الدّامغة فتراهم يلجأون إلي الإستغراب و استبعاد أن يكون قد حضر تنصيب الإمام علي مائة ألف صحابي ثم يتواطئون كلهم علي مخالفته و الإعراض عنه و فيهم خيرة الصحابة و أفضل الأمّة! و هذا ما وقع لي بالذات عند اقتحام البحث، فلم أصدّق و لا يمكن لأحد أن يصدّق إذا ما طرحت القضية بهذا الطرح، و لكن عندما ندرس القضية من جميع الجوانب يزول الإستغراب لأنّ المسألة ليست كما نتصورها أو كما يعرضها أهل السنة، فحاشي أن يكون مائة ألف صحابي خالفوا أمر الرسول، فكيف وقعت الواقعة إذن؟ أولا لم يكن يسكن المدينة المنورة كل من حضر بيعة الغدير و انّما كان كما هو المفروض و علي أكبر تقدير ثلاثة أو أربعة آلاف منهم يسكنون المدينة، و إذا عرفنا أنّ هؤلاء فيهم الكثير من الموالي و العبيد و المستضعفين الذين قدموا علي رسول اللّه (ص) من مناطق عديدة و ليس لهم في المدينة قبيلة و لا عشيرة أمثال أهل الصّفة، فلا يبقي معنا إلاّ نصفهم يعني ألفين فقط، و حتي هؤلاء فهم خاضعون لرؤساء القبيلة و نظام العشيرة التي ينتمون إليها، و قد أقرهم رسول اللّه (ص) علي ذلك فكان إذا قدم عليه وفدٌ وليّ عليهم زعيمهم و سيدهم، و لذلك وجدنا اصطلاحا علي تسميتهم في الإسلام بأهل الحل والعقد. و إذا ما نظرنا إلي مؤتمر السقيفة الذي انعقد عند وفاة الرسول مباشرة وجدنا أن الحاضرين الذين اتخذوا قرار اختيار أبي بكر خليفة لا يزيد علي مائة شخص علي أكثر تقدير لأنّه لم يحضر من الأنصار و هم أهل المدينة إلاّ أسيادهم و زعماؤهم، كما لم يحضر من المهاجرين و هم أهل مكة الذين هاجروا مع الرسول (ص) إلاّ ثلاثة أو أربعة أشخاص يمثلون قريش و يكفي دليلا أن نتصوّر ما هو حجم السقيفة فكلنا يعرف ماهي السقيفة التي ما كانت تخلّو منها أي دار فليست هي قاعة الحفلات و لا قصر المؤمرات، فإذا ما قلنا بحضور مائة شخص في سقيفة بني ساعدة فذلك مبالغة منّا حتي يفهم الباحث بأنّ المائة ألف لم يكونوا حاضرين و لا سمعوا حتي ما دار في السقيفة الاّ بعد زمن بعيد فلم تكن هناك مواصلات جوية و لا هواتف لاسلكية ولا أقمار صناعية. و بعد اتّفاق هؤلاء الزعماء علي تعيين أبي بكر و رغم معارضة سيد الأنصار سعد بن عبادة زعيم الخزرج و ابنه قيس، إلاّ أنّ الأغلبية الساحقة-ممن حضر السقيفة- (كما يقال اليوم) أبرمت العقد و تصافقت عليه في حين كان أغلب المسلمين غائبين عن السقيفة و كان بعضهم مشغولا بتجهيز الرسول (ص) أو مذهولا بخبر موته و قد أرعبهم عمر بن الخطاب و خوّفهم إن قالوا بموته [1] أضف إلي ذلك أنّ أغلب الصحابة عبّأهم رسول الله (ص) في جيش أسامة و أكثرهم كانوا معسكرين بالجرف و لم يحضروا وفاة النبي (ص) و لا حضروا مؤتمر السقيفة. فهل يعقل بعد هذا الذي وقع أنّ يعارض أفراد القبيلة أو العشيرة زعيمهم فيما أبرمه خصوصا و أن في ما أبرمه الفضل العميم و الشرف الكبير الذي تسعي إليه كل قبيلة منهم، و من يدري لعله يلحقهم في يوم من الأيام شرف الرئاسة علي كل المسلمين، مادام صاحبها الشرعي قد أبعد وأصبح الأمر شوري يتداولونه بينهم بالتناوب، فكيف لا يفرحون بذلك و كيف لا يؤيدونه؟ ثانيا: إذا كان أهل الحل و العقد من سكّان المدينة قد أبرموا أمرا فليس للقاصين البعيدين من أطراف الجزيرة أن يعارضوا، و هم لا يدرون ما يدور في غيابهم فوسائل النقل في ذلك العهد كانت بدائية، ثم أنه يتصوّرون بإنّ سكّان المدينة يعيشون مع رسول اللّه فهم أعلم بما يستجدّ من أحكام قد ينزل بها الوحي في أي ساعة و في أي يوم ثم بعد ذلك ما يهمّ رئيس القبيلة البعيد عن العاصمة من أمر الخلافة شيئا فبالنسبة إليه سواء أ كان أبو بكر خليفة أو علي أو أي شخص آخر، فأهل مكة أدري بشعابها و المهم عنده هو بقاؤه علي رئاسة عشيرته و لا ينازعه فيها أحد. و من يدري لعلّ البعض منهم تساءل عن الأمر و أراد أن يستطلع الخبر غير أنّ أجهزة الحكم أسكتته سواء بالترغيب أو بالترهيب، و لعلّ في قصة مالك بن نويرة الذي امتنع عن دفع الزكاة إلي أبي بكر ما يؤكد حصول ذلك و المتتبّع لتلك الأحداث التي وقعت في حرب مانعي الزكاة أيام أبي بكر يجد كثيرا من التناقضات و لا يقتنع بما أورده بعض المؤرخين للحفاظ علي كرامة الصحابة و خصوصا الحاكمين منهم. ثالثا: عنصر المفاجأة في القضية لعب دورا كبيرا في قبول ما يسمّي اليوم «بالأمر الواقع» فلقد عقد مؤتمر السقيفة علي حين غفلة من الصحابة الذين شغلوا بالرسول (ص) و من هؤلاء الإمام علي و العباس و سائر بني هاشم و المقداد و سلمان و أبي ذر و عمار و الزبير و غير هؤلاء كثير، و لمّا خرج أصحاب السقيفة يزّفون أبا بكر إلي المسجد داعين الي البيعة العامة و الناس يقبلون، علي البيعة أفواجا و زرافات طوعا و كرها، لم يكن علي و اتباعه قد فرغوا بعد من واجبهم المقدّس الذي فرضته عليهم أخلاقهم السامية فلا يمكن لهم أن يتركوا رسول اللّه (ص) بدون تغسيل و تكفين و تجهيز و دفن و يتسارعوا إلي السقيفة ليتنازعوا حول الخلافة. و ما إن فرغوا من واجبهم حتي استتبّ الأمر لأبي بكر و بات من يتخلّف عن بيعته معدودا من أصحاب الفتنة الذي يشقّ عصا المسلمين فيجب علي المسلمين مقاومته أو حتّي قتله إن لزم الأمر، و لذلك نري عمر قد هدّد سعد بن عبادة بالقتل لمّا أمتنع عن بيعة أبي بكر و قال: إقتلوه إنه صاحب فتنة[2] و هدّد بعد ذلك المتخلّفين في بيت علي بحرق الدار و من فيها، و إذا عرفنا رأي عمر بن الخطاب في خصوص البيعة فهمنا بعد ذلك كثيرا من الألغاز التي بقيت محيّرة. [3] رابعا: إن الامام عليا سلام الله عليه احتجّ عليهم بكل شي‏ء و لكن بدون جدوي، و هل يستجدي الإمام علي بيعة الناس الذي صرفوا وجوههم عنه و مالت قلوبهم لغيره و هشّم أبطالهم و أرغم أنوفهم، و أخضعهم و حطّم كبرياءهم بسيفه و شجاعته حتّي أسلموا و استسلموا و هو مع ذلك شامخ يذود عن ابن عمّه لا تأخذه في الله لومة لائم، و لا يثني عزمه من حطام الدنيا شي‏ء و كان رسول اللّه (ص) يعلم ذلك علم اليقين و كان في كل مناسبة يشيد بفضائل أخيه و ابن عمّه لكي يحبّبه إليهم فيقول: " حب علي إيمان و بغضه نفاق" [4] و يقول: " علي منّي و أنا من علي" ‏[5] و يقول: " علي ولي كل مؤمن بعدي" ‏[6] و يقول: " علي باب مدينة علمي و أبو ولدي" ‏[7] و يقول: " علي سيد المسلمين و إمام المتقين و قائد الغر المحجّلين" [8] و لكن مع الأسف مازادهم ذلك إلاّ حسدا و حقدا و لذلك إستدعاه رسول اللّه (ص) قبل موته فعانقه و بكي، و قال له:" يا علي: إني أعلم أن لك ضغائن في صدور قوم سوف يظهرونها لك بعدي فإن بايعوك فاقبل و إلاّ فاصبر حتّي تلقاني مظلوما" [9] فإذا كان ابو الحسن سلام اللّه عليه لزم الصبر بعد بيعة أبي بكر فذلك بوصية الرسول له و في ذلك من الحكمة ما لا يخفي. خامسا: أضف إلي كل ما سبق أن المسلم إذا ما قرأ القرآن الكريم و تدبّر آياته يعرف من خلال قصصه التي تناولت الأمم و الشعوب السابقة أنّه وقع فيهم أكثر ما وقعت فينا، فها هو قابيل يقتل أخاه هابيل ظلما وعدوانا و ها هو نوح جد الأنبياء بعد الف سنة من الجهاد لم يتبعه من قومه إلاّ القليل و كانت امرأته و ابنه من الكافرين، و ها هو لوط لم يوجد في قريته غير بيت من المؤمنين، و ها هم الفراعنة الذين استكبروا في الارض و استعبدوا الناس لم يكن فيهم غير مؤمن يكتم إيمانه و ها هم إخوة يوسف أبناء يعقوب و هم عصبة يتآمرون علي قتل أخيهم الصغير بغير ذنب اقترفه و لكن حسدا له لأنه أحب إلي أبيهم، و ها هم بنو إسرائيل الذين أنقذهم الله، بموسي و فلق لهم البحر و أغرق اعداءهم فرعون و جنوده بدون أن يكلّفهم عناء الحرب، ما إن خرجوا من البحر و لم تجفّ أقدامهم ( فَأَتَوْا عَلي‏ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلي‏ أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَي اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُون‏ )[10] و لمّا ذهب إلي ميقات ربّه و استخلف عليهم أخاه هارون تآمروا عليه و كادوا يقتلونه و كفروا باللّه و عبدوا العجل ثم بعد قتلوا أنبياء اللّه قال تعالي: ( أَ فَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوي‏ أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَريقاً كَذَّبْتُمْ وَ فَريقاً تَقْتُلُون‏ )[11]، و ها هو سيدنا يحيي بن زكريا و هو نبي و حصور من الصالحين يُقتلُ و يهدي رأسه إلي بغي من بغايا بني إسرائيل، و ها هم اليهود و النصاري يتآمرون علي قتل و صلب سيدنا عيسي، و ها هي أمة محمد تعد جيشا قوامه ثلاثين ألفا لقتل الحسين ريحانة رسول اللّه و سيد شباب أهل الجنة و لم يكن معه غير سبعين من أصحابه فقتلوهم جميعا بما في ذلك أطفاله الرضّع، فأي غرابة بعد هذا؟ أي غرابة بعد قول الرسول لأصحابه: " ستتبعون سنن من كان قبلكم شبرا بشبر و ذراعا بذراع حتي لو دخلوا حجر ضبّ لدخلتموه، قالوا : أتراهم اليهود و النصاري؟ قال: فمن إذن؟" .[12]، [13]