العدل الالهي وعقاب من لم يصله بلاغ أو خبر عن الاسلام
كيف يمكن أن نفسر مسألة: أن يخلق الله شخصا من أبوين مسلمين وفي بيئة متدينة وآخر من أبوين كافرين وفي بيئة فاسقة ثم يكون حسابهما يوم القيامة واحدا؟
لا شك ان الله تعالي عادل و حكيم.
و المقصود من كون الله عادلاً هو انه لا يهمل استحقاق و لياقة ايّ موجود، فيعطي كل شيء ما يستحقه.
و اما المقصود من كونه حكيماً هو كون النظام الذي ابتدعه هو احسن و اصلح نظام، اي انه يوجد افضل نظام ممكن.[1]
اذا عرفنا هذه المقدمة نقول: ان الله رؤوف بعباده رأفة لا تقاس بها أي رأفة و قد جعل لهذا الانسان عقلا و جعل هذا العقل نبياً باطنياً لمن لم تبلغه الرسالة. و قد قال امامنا موسي بن جعفر عليه السلام:
" ان لله علي الناس حجتين: حجة ظاهرة و حجة باطنة، فأما الظاهرة فالأنبياء و الرسل و الائمة، و اما الباطنة فالعقول " [2] فمن كان مثلاً في الآسكا و لم تبلغه رسالة الاسلام، فهو مسؤول تجاه الحجة الباطنة أي تجاه عقله و قد ألهم اللّه تعالي البشر أصول الخير و الشر قبل بعث الرسل. بقوله جل من قائل ( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها )[3] ، و بقوله: ( وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ) [4]، أي عرفنا الانسان طريق الخير و طريق الشر.
فكل من يولد يعترف بحكم الفطرة، بعد سنين، بوحدانية اللّه تعالي. و هو، بالفطرة، - ان لم تبلغه رسالة الأنبياء أو رسالة الاسلام منذ 14 قرناً- يجتنب المحرمات الرئيسية و يقوم بالفطرة بالأعمال الخيرية: ( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئات )[5] ، فيتقرب الي الله المتعال و يكون مصيره الجنة.و هو القائل: ( فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَة ) [6]،وقوله تعالي :( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَ لكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) [7] وقوله سبحانه: ( وَ ما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبيد )[8] ،و( وسعت رحمته كل شيء )[9]
و لا يخلد في النار الا من بلغ الدرجة القصوي من الظلم و لم يتب و من خالف الفطرة و أشرك بالله و لا يكون هذا الا من قال الله في شأنه: ( وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْما ... المزید)[10] و لا يكون الفرد- لا سامح اللّه- مشركاً الا اذا أمسي جرثومة فساد و افساد، لا يصدر منه الا الشر، و لا يفكر الا في الشر لكثرة ذنوبه و آثامه السابقة التي ارتكبها مخالفا للفطرة، و ضاربا بايعازات الفطرة و أجراسها و تنبيهاتها عرض الجدار، و هو القائل : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاء )[11]
و قد فتح اللّه باب التوبة لعباده و ما أوسعه! و للمذنب أن يتوب قبل موته بساعات و في الحديث: " التائب عن الذنب كمن لا ذنب له "[12] ، و قال تعالي: ( يا عِبادِيَ الَّذينَ أَسْرَفُوا عَلي أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَميعاً )[13].[14]
نعرف من خلال ذلك ان الانسان الذي ولد من ابوين مسلمين اكثر مسؤولية و اشدّ عذاباً اذا خالف اوامر اللّه تعالي. بل نجد ذلك بين المسلمين انفسهم، فهذا القرآن يهدد زوجات النبي بقوله: ( يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْن ) [15]
و ليس ذلك الاّ لألقاء و اقامة الحجة عليهن بقربهن من الرسول (ص) فالانسان يعذب بدرجة علمه و بدرجة قوّة الحجة التي اقيمت عليه فاذا كانت الحجة تتمثل في (الرسول +العقل +القرب من الرسول) اشتدّ العذاب و ازدادت المسؤولية. و اذا كانت الحجة تتمثل في (الرسول +العقل) كانت المسؤولية بدرجة اقلّ. و هكذا اذا كانت الحجة تنحصر في العقل فقط، فلا شك ان المسؤولية و العذاب ضعفت درجة المسؤولية الي مستوي العقل فقط.
و ما اذا فقدت الحجة مطلقاً و ذلك في حق الانسان المجنون مثلا فهنا يرتفع قلم التكليف و لا يكون الانسان مسؤولا عن ايّ شيء، و يكون في رحمة الله الواسعة.