منذ سنتين

سبب تقديم اصل التوحيد علي بقية الاصول

ما هو سبب تقديم اصل التوحيد علي بقية الاصول؟


يمكن الاجابة عن التساؤل المذكور بطريقتين: الطريقة الاولي :ويمكن ان نعبّر عنها بالطريقة المنهجية بمعني ان منهجة الدراسة العقائدية تقتضي ذلك. و ذلك لان الانسان يواجه عدة تساؤلات هي (من اين اتيت و لماذا و الي اين سينتهي بي المسار؟) هذه التساؤلات تقتضي في مقام الاجابة ان يتم الجواب عنها بصورة مرتبة اي الاجابة عن السؤال الاوّل من اين اتيت؟ و يكون جوابه ان لهذا الكون خالقاً مدبرا واحدا ثم ان هذا الخالق يتصف بصفة مهمة لها علاقة بالجانب الاجتماعي و هي (العدالة) فيكون الاصل الاوّل هو (التوحيد) ثم [العدالة] . بعد ذلك يأتي دور الاجابة عن السؤال الثاني: ماذا يراد مني انا الانسان في هذه الحياة؟ و جواب هذا السؤال تقوم به الرسالات اي الانبياء و الرسل حيث يشكلون الواسطة بين الانسان و بين اللّه لنقل المنهج الالهي الذي ينبغي ان يسير عليه الانسان، و هنا يأتي اصل [النبوة، و الامامة]. ثم بعد ذلك يبقي السؤال الثالث:‏ثم ماذ يراد بي بعد هذه الحياة؟ و هنا يأتي دور الاصل الاخير و هو (المعاد). هذه هي الاجابة الاولي التي يمكن ذكرها الاّ ان هناك اجابة اكثر عمقاً وادق نظراً و هذه الاجابة تعمتد المدلول الاجتماعي لاصول الدين. و ممن بحثوا هذه القضية بصورة جيدة هو السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس) حيث انه (قدس سره) بعد ان بيّن دور التوحيد في الاستخلاف، و التوحيد و الثورة، و التوحيد و الدولة، و التوحيد و الحرية و التوحيد و التنمية و التوحيد و العدل الاجتماعي بيّن (قدس سره) أن ترتيب أصول الدين بهذه الكيفية «توحيد، عدل، نبوة إمامة، معاد) يبتني بوجه من الوجوه علي أساس ما لهذه الأصول من مضمون اجتماعي و اتصال بالحياة الانسانية (فالتوحيد يعني اجتماعياً أن المالك هو الله دون غيره من الآلهة المزيفة، و العدل يعني أن هذا المالك الوحيد بحكم عدله لا يؤثر فردا علي فرد و لا يمنح حقا لفئة علي حساب فئة، بل يستخلف الجماعة الصالحة ككل علي ما وفر من نعم و ثروات‏.[1] أما لماذا احتل العدل هذا الموقع فصار أصلا ثانيا، و لم يوضع في موقع أصل آخر؟ فيوضح الشهيد الصدر بأنه (لم يكن من الصدفة أن يوضع العدل أصلاً ثانياً من أصول الدين... و أنما كان تأكيداً علي أهم صفات الله تعالي في مدلوله العملي و دوره في توجيه المسيرة الانسانية. و ذلك لأن العدل في المسيرة و قيامها علي أساس القسط هو الشرط الأساسي لنمو كل القيم الخيرة الأخري، و بدون العدل و القسط يفقد المجتمع المناخ الضروري لتحرك تلك القيم و بروز الامكانات الخيرة)[2] و العدل الاجتماعي الذي وضعه الإسلام كهدف من الأهداف المركزية التي يسعي لا قامتها في الأرض جنّد لأجله كلّ الطاقات، و أرخص في سبيله سفك الدماء و تقديم القرابين، و لم يدخر من دون اقامته أي شي‏ء. يضاف إلي ذلك أن هذا العدل لم يطلقه الاسلام كشعار مفرغ من المحتوي. مثلما تنادي بذلك الكثير من الحركات الايديولوجية و السياسية. و انما حدده الإسلام في صيغة متقنة رسم فيها صورة تفصيلية واحدة للحياة الاجتماعية التي تجسد العدالة و قد لخص الشهيد الصدر الصورة الاسلامية للعدالة الاجتماعية لمبدئين عامين (لكلّ منهما خطوطة و تفصيلاته، أحدهما: مبدأ التكافل العام، و الآخر: مبدأ التوازن الاجتماعي و في التكافل و التوازن بمفهومهما الإسلامي، تحقق القيم الاجتماعية العادلة، و يوجد المثل الإسلامي للعدالة الاجتماعية)[3] و يعود لهذا المخطط الفرق الجوهري بين مجتمع العدالة الذي يريد أن يشيده الإسلام و بين المجتمعات التي تسعي لبنائها الدعوات الأخري، فان القسط و العدل هو العلامة الفارقة بين المجتمع التوحيدي و غيره. التوحيد و مسار التاريخ‏ يشكل المحتوي الداخلي للانسان الأساس لحركة التاريخ، حسب التحليل الذي انتهي اليه الشهيد الصدر لدور الإنسان في الحركة التاريخية من منظور القرآن الكريم أما البناء الاجتماعي العلوي، و ما يسود في المجتمع من علاقات و مؤسسات و فعاليات متنوعة، فيرتبط بالمحتوي الداخلي الذي يكون بمثابة القاعدة التي تشاد عليها تمام البُني الفوقية في الحياة الاجتماعية . و ان تغيير و تطور المجتمع يتوقف علي إعادة بناء المحتوي الداخلي، فاذا تغير الاساس تغيرت البُني الفوقية، و اذا بقي الاساس ساكنا لم تتغير تلك البُني.. و هذا يعبر عن سنة تاريخية يحكيها القرآن بصراحة ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّي يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِم‏ )[4] فان هذه الآية تفصح عن نوعين من التغيير، أحدهما: هو تغيير ما بالقوم بمعني أحوال القوم، شؤون القوم، الظواهر الاجتماعية في حياة القوم، و ثانيهما: تغيير ما بالأنفس، بمعني تغيير المحتوي النفسي الداخلي للأمة كأمة، من حيث هي جماعة، لا لهذا الفرد أو ذلك. و التغيير الثاني هو العلة للتغير الأول، أي ان تغيير المحتوي الداخلي للانسان هو الأساس لعملية التغيير و التطور الاجتماعي، و لذلك أسمي الإسلام عملية بناء المحتوي الداخلي إذا اتجهت اتجاها صالحا ب «الجهاد الاكبر» بينما أسمي علمية البناء الخارجي إذا اتجهت اتجاها صالحا ب «الجهاد الأصغر»[5] و هنا يتسائل الشهيد الصدر عن الأساس في بناء المحتوي الداخلي للانسان، و المحور الذي يستقطب عملية البناء الداخلي للانسانية، فيجيب ان المحور هو المثل الاعلي، فان (المحتوي الداخلي للانسان يجسد الغايات التي تحرك التاريخ يجسدها من خلال وجودات ذهنية تمتزج فيها الارادة بالتفكير، و هذه الغايات التي تحرك التاريخ يحددها المثل الاعلي ... فبقدر ما يكون المثل الأعلي للجماعة البشرية صالحاً و عالياً و ممتدا تكون الغايات صالحة و ممتدة و بقدر ما يكون هذا المثل الأعلي محدوداً أو منخفضاً تكون الغايات المنبثقة عنه محدودة و منخفضة أيضا[6] فالمثل الأعلي هو نقطة البدء في صنع المحتوي الداخلي للانسان، و هذا المثل الأعلي يتحدد في إطار رؤية كونية عامة للحياة و الإنسان و الكون، و علي أساس هذا المثل تختلف الحركات التاريخية بعضها عن بعض فان اختيار أية جماعة بشرية لمثلها الأعلي يعني اختيارها لمسارها التاريخي و تجربتها التاريخية بكلّ ما يكتنفها من إرهاصات و ما تتعرض له من منعطفات فتاريخ أيّ أمة يصنعه مثلها الأعلي، و التمايز في النسق التاريخي لأمة معينة عن بقية الأمم يعود إلي طبيعة المثل الأعلي الذي اختارته و جعلته هدفاً لمسارها[7] و قد صنف الشهيد الصدر المثل العليا التي تتبناها الجماعات البشرية إلي ثلاثة أقسام هي: 1ـ المثل الأعلي التكراري: و هو الذي يستمد تصوره من الواقع نفسه أي ينتزع عن واقع الجماعة الفعلي الذي تعيشه و هذا المثل يعمل علي تجميد الواقع و حمله الي المستقبل، و تحويل هذا الواقع من أمر محدود إلي أمر مطلق. فتكون حركة التاريخ حركة تكرارية، يكون المستقبل هو الحاضر، و الحاضر هو الماضي فيتحنط الواقع و تتجمد حركة التاريخ، و لا يتاح للانسان تحقيق مكاسب جديدة. و لا تنجز الأمة أية خطوة تمثل تقدماً حقيقياً في مسارها. عندئذ تتحول الأمة إلي الأمة الشبح، فتنهار أمام غزو عسكري من الخارج أو تذوب و تنصهر و تتفتت هو يتها في مثل مستورد من الخارج، أو ينشأ في أعماق هذه الأُمة من يعيد فاعلية و حيوية مثلها الأعلي من جديد.[8] 2ـ المثل الأعلي المحدود: و هو الذي ينتزع من تصور ذهني محدود للمستقبل، أي من خطوة واحدة في المستقبل، فهو ليس تعبيرا تكراريا عن الواقع بل تطلع نحو المستقبل لكنه تطلع محدود، بيد أنه يحوّل هذا التصور الذهني المحدود إلي مطلق مما يتيح للأمة حركة لكنها حركة محدودة، لأنها عندما تستنفذ المديات القصوي لهذا المثل تتوقف مسيرتها، عندما (يتحول هذا المثل نفسه إلي قيد للمسيرة، إلي عائق عن التطور إلي مجمّد لحركة الإنسان لأنه اصبح مثلا، أصبح إلها، أصبح دينا، أصبح واقعا قائما، و حينئذ سوف يكون بنفسه عقبة أمام استمرار زحف الإنسان نحو كماله الحقيقي‏[9] وقتئذ يتجمد الواقع، و تصير حركة التاريخ تكرارية، يعود فيها المستقبل إلي الحاضر، و الحاضر إلي الماضي، و حالما (يتحول هذا المثل الاعلي إي مثل تكراري يتمزق هذا المثل التكراري، و تتحول الأمة إلي شبح أمة»[10] و تؤول إلي نفس المصير الذي انتهت اليه الأمة السابقة، لانها تستنفذ امكانات الحركة فلا تستطيع ان تتقدم خطوة واحدة علي الطريق.. 3ـ المثل الأعلي المطلق: أي المثل الأعلي الحقيقي و هو اللّه سبحانه و تعالي. و السير نحو هذا المثل سير إرتقائي، تصاعد و تكامل و تقدم ( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلي‏ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقيه‏ )[11]، و بحكم ان اللّه سبحانه و تعالي هو المطلق إذن الطريق أيضا لا ينتهي، هذا الطريق طريق الإنسان نحو اللّه هو اقتراب مستمر بقدر التقدم الحقيقي نحو اللّه، و لكن هذا الاقتراب يبقي اقترابا نسبيا، يبقي مجرد خطوات علي الطريق من دون أن يحتاج هذا الطريق لأن المحدود لا يصل إلي المطلق، الكائن المتناهي لا يمكن أن يصل إلي اللامتناهي، فالفسحة الممتدة بين الانسان و بين المثل الاعلي هنا فسحة لا متناهية، أي انه ترك له مجال الابداع الي اللانهاية، مجال التطور التكاملي الي اللانهاية، باعتبار أن الطريق الممتد طريق لا نهائي)[12] و عندما تتبني البشرية المثل الأعلي الحق، تستطيع ان تتسامي و تتقدم باستمرار في مسارها، و لا تستنفذ حركتها عند أية خطوة في الطريق مهما أمتد مسارها و يتحول تاريخها إلي مكاسب و إنجازات مستمرة، باستمرار طريقها و تواصل حركتها. و بهذا نتعرف علي موقع التوحيد في تحديد وجهة التاريخ، و تموين الأمة بالوقود اللازم في حركتها التاريخية، و الذي لولاه لتعطلت حركة الامة و توقف عطاؤها التاريخي و استحالت إلي شبح فعقيدة التوحيد تعبّد الطريق و تزيل العوائق المتراكمة فيه، لانها تجفف منابع التناقض الداخلي في الإنسان بين حفنة التراب التي تجره إلي الارض، و بين روح اللّه التي تصعده إلي أعلي و (تتسامي بانسانيته إلي حيث صفات الله، إلي حيث اخلاق الله تخلقوا بأخلاق الله إلي حيث العلم الذي لا حد له، و القدرة التي لا حدّ لها، الي حيث العدل الذي لا حد له، إلي حيث الجود و الرحمة و الانتقام، إلي حيث هذه الأخلاق الإلهية)[13] كما أن عقيدة التوحيد تشن حرباً لا هوادة فيها علي كافة المثل المنخفضة و التكرارية التي يصطنعها الإنسان، و تؤدي إلي تعطل المسار التكاملي للتاريخ، حينما تتحول إلي تمثال لا حياة فيه، لكنه يستقطب اليه مجموعة من الملأ المترفين، ممن ترتبط مصالحهم و ترفهم ببقاء المثل التمثال فان دعوات التوحيد التي قادها الأنبياء تصدت علي الدوام لهؤلاء المترفين، و خاضت معهم صراعا لم يقبل المهادنة أو المساومة، لأنهم أصروا علي حماية المثل المزورة و الدفاع عنها « وَ كَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ في‏ قَرْيَةٍ مِنْ نَذيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلي‏ أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلي‏ آثارِهِمْ مُقْتَدُون‏ »[14] « وَ ما أَرْسَلْنا في‏ قَرْيَةٍ مِنْ نَذيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُون‏ »[15] **موقع اصول الدين من مسار التاريخ عند الشهيد الصدر** بعد ان اتضح دور المثل الأعلي الحق في توجيه المسيرة البشرية اتجاها تكاملياً يتراكم فيه الابداع، و تنمو فيه الخبرة و تتسع مكاسب الانسان في استثمار الطبيعة و الافادة من أمثل السُبُل لتسخير نواميسها و تيسير الانتفاع بمنتجاتها، إذا اتضح ذلك نعود لنسأل في خاتمة المطاف عن موقع كل واحد من اصول الدين الخمسة في توجيه الحركة التاريخية للمجتمع التوحيدي و ما الذي تحدثه هذه الأصول في مسيرة هذا المجتمع؟ و هل ان إشاعة معايير العدل و القسط في الحياة الاجتماعية، و ترسيخ مبادئ الأمن الاجتماعي، و غياب مظاهر الظلم و الاستغلال، تتوقف علي تبني أصول الدين و تجسيدها في الحياة الاجتماعية؟. يلحض الشهيد الصدر الوظيفة الاجتماعية لكل واحد من أصول الدين الخمسة، و ما يناط بكل منها في المسيرة البشرية فيمايلي: 1ـ التوحيد: يمنح التوحيد المؤمن رؤية واضحة فكرياً و ايديولوجياً للمثل الأعلي أي أن الايمان بالله تعالي يوحدّ كل الغايات و الطموحات البشرية في مثل أعلي واحد هو الله تعالي. 2ـ العدل: العدل صفة من صفات اللّه، و هو جانب من التوحيد، و ليست هناك خصوصية عقائدية تقتضي جعله أصلا مستقلا من أصول الدين، من دون غيره من صفات اللّه، و انما الخصوصية هنا خصوصية اجتماعية، لأن العدل هو الصفة التي تثري المسيرة الاجتماعية، و التي تحتاجها المسيرة أكثر من أية صفة أخري. و لهذا لابد أن نتعامل مع العدل كغيره من صفات اللّه بوصفها منارات و مؤثرات و أدلة علي الطريق، لا بوصفها حقائق عينية منفصلة عنا. 3ـ النبوة: عندما تتبني المسيرة البشرية المثلي الأعلي الحق، و بما ان هذا المثل منفصل عنها، إذن لابد أن تتوفر صلة موضوعية بين الانسان و المثل و هذه الصلة يقوم بها النبي فالنبوة تجسد الصلة الموضوعية بين المثل الأعلي و البشرية. 4ـ الامامة: هي قيادة ربانية تندمج مع دور النبوة فالنبي قد يكون إماماً بيد ان الامامة لا تختفي بغياب النبوة إذا كانت الرسالة بحاجة إلي قيادة تواصل المعركة ضد الطواغيت و الآلهة المزورة، فالامام هو القائد الذي يتولي هذه المعركة. 5ـ الايمان بيوم القيامة: هو الذي تستقي منه إرادة الانسان الوقود و الطاقة الروحية، و يحفظ الانسان دائما قدرته علي التجديد و التطور، عبر ما يؤمنّه من شعور بالمسؤولية و ضمانات موضوعية، لأن إيمان الانسان بالقيامة يوصل بين ساحة الدنيا التي يعيش فيها و ساحات أخري برزخية و حشرية، فيرتبط مصير الانسان في تلك الساحات بدوره و انجازه في هذه الساحة.[16] هذا بإيجاز شديد ما يضطلع به كل واحد من اصول الدين في تموين المسيرة البشرية بالوقود اللازم في كدحها المتواصل الي اللّه تعالي، إذا استقامت علي الطريقة و لم تحد عن طريق التوحيد.[17]