لما ظهرت الفلسفة و أثيرت مسائل صفات اللّه تعالي بين المتكلمين، كانت اهم مسألة طرحت علي بساط البحث مسألة كلام الله تعالي و خلق القرآن. و قد تبنّي المعتزلة القول بخلق القرآن و انبروا يدافعون عنه بشتّي الوسائل.
و اما اهل الحديث و علي رأسهم (احمد بن حنبل] فقد ذهبوا الي فكرة عدم خلق القرآن.
و اما نحن الشيعة تبعاً لائمة اهل البيت عليهم السلام فنري ان الخالق واحد و هو اللّه و ما سواه مخلوق و القرآن مخلوق، و الادلة علي ذلك كثيرة بعد ردّ ادلة الاشاعرة الذين ذهبوا الي عدم خلق القرآن منها:
إن الظاهر من أهل الحديث هو قدم القرآن «المقروء» و هو أمر تنكره البداهة و العقل و نفس القرآن، و قد صارت تلك العقيدة بمنزلة من البطلان حتي تحامل عليها الشيخ محمد عبده إذ قال: «و القائل بقدم القرآن المقروء أشنع حالاً و أضل اعتقاداً من كل ملة جاء القرآن نفسه بتضليلها و الدعوة الي مخالفتها»[1] و لما رأي ابن تيميّة، الذي نصب نفسه مروجاً لعقيدة أهل الحديث،فقد صرح بحدوث القرآن المقروء و حدوث قوله ( يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّل )[2] و ( يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّر )[3] و قوله ( قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتي تُجادِلُكَ في زَوْجِها وَ تَشْتَكي إِلَي اللَّهِ ) [4] ... المزید إلي غير ذلك من الآيات الدالة علي حدوث النداء و السمع من حينه لا من الأزل[5]
و العجب أنه يستدل بدليل المعتزلة علي حدوث القرآن المقروء و يقول: إنّ ترتيب حروف الكلمات و الجمل يستلزم الحدوث، لأنّ تحقق كلمة (بسم اللّه) يتوقف علي حدوث الباء و انعدامها ثم حدوث السين كذلك الي آخر الكلمة. فالحدوث و الانعدام ذاتي لمفردات الحروف لا ينفك عنها، و إلا لما أمكن أن توجد كلمة، فإذن كيف يمكن أن يكون مثل هذا قديماً أزلياً مع اللّه تعالي؟
قال سبحانه: ( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَ هُمْ في غَفْلَةٍ مُعْرِضُون* ما يَأْتيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُون) [6]
و المراد من الذكر هو القرآن الكريم لقوله سبحانه: ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُون ) [7]. و قال سبحانه ( وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِك )[8]
و المراد من (مُحدث) هو الجديد، و هو وصف للذكر، و معني كونه جديداً أنه أتاهم بعد الإنجيل . كما أنّ الانجيل جديد لأنه أتاهم بعد التوراة. و كذلك بعض سور القرآن و آياته ذكر جديد أتاهم بعد بعض. و ليس المراد كونه محدثاً من حيث نزوله، بل المراد كونه محدثاً بذاته بشهادة أنه وصف ل«ذكر» فالذكر بذاته محدث لا بنزوله فلا معني لتوصيف المحدث بالذات بكونه من حيث النزول.[9]
و كيف يمكن القول بقدم القرآن مع أنه سبحانه يقول في حقه: ( وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكيلا) [10] فهل يصح توصيف القديم بالإذهاب و الإعدام؟!
هذا ، ثم ان الائمة عليهم السلام لما احسوا ان الفتنة قد انقشعت وان البحث خرج عن كونه بحثا يراد منه التشهير والقتل والتسقيط بعيدا عن الاجواء العلمية، و شعروا بسلامة الموقف وان البحث تحول الي بحث علمي يمكن خلاله البوح بالحقيقة، أدلوا برأيهم في الموضوع، و صرّحوا بأن الخالق هو اللّه و غيره مخلوق و القرآن ليس نفسه سبحانه، و إلاّ يلزم اتحاد المُنزَل و المُنزِل، فهو غيره، فيكون لا محالة مخلوقاً.
فقد روي محمد بن عيسي بن عبيد اليقطيني أنّه كتب علي بن محمد بن علي بن موسي الرضا(ع) إلي بعض شيعته ببغداد: « بسم اللّه الرحمن الرحيم، عصمنا اللّه و إياك من الفتنة، فإن يَفعل فقد أعظَمَ بها نعمة، و إن لا يفعل فهي الهلكة، نحن نري أنّ الجدال في القرآن بدعة، اشترك فيها السائل والمجيب، فيتعاطي السائل ما ليس له، و يتكلّف المجيب ما ليس عليه ، وليس الخالق إلاّ اللّه عز و جل، و ما سواه مخلوق والقرآن كلام اللّه، لا تجعل له إسماً من عندك فتكون من الضّالين، جعلنا اللّه، و إيّاك من الذين يخشون ربهم بالغيب و هم من الساعة مشفقون »[11][12]