منذ سنتين

مجيئي للدنيا من دون اختيار

لدي سؤال يحيرني لماذا جئت للدنيا من دون اختيار؟ فلو خيروني لاخترت عدم المجيء لهذه الدنيا , فالدنيا كما نسمع دار امتحان وفي ظني أن الامتحان لمن أراد الامتحان وليس غصبا عليه دخوله, لكن دخولي هذه الدنيا كان غصبا علي, فلماذا بعد ذلك أخوف بالنار و أشوق للجنة ،اعذرني يا سيدي علي جرأتي؟


قبل الاجابة عن التساؤل المطروح نقول: انه لاحاجة الي الاعتذار عن السؤال لأن الحقيقة لا تدرك الا بالسؤال و البحث عنها، فلو بقيت هذه التساؤلات حبيسة صدر الانسان لما تمكن الانسان ان يصل إلي هذا المستوي من الأدراك المعرفي و لذلك ندعوكم الي طرح أي شبهة او اشكال يخطر ببالكم. اما بخصوص السؤال المطروح، فنحن ندعوكم لمطالعة كتاب العدل الالهي للشهيد المطهري (قدس) حيث بحث القضية بصورة مفصلة و عميقة و نحن نذكر لكم بعض ما ورد في هذا الكتاب حيث قال رحمه الله بعد ان بين معاني العدل: المعني الرابع للعدل: هو رعاية الاستحقاق في افاضة الوجود و عدم الامتناع عن الافاضة و الرحمة حيث يتوفر امكان الوجود أو امكان الكمال، و سوف نذكر فيما بعد ان الموجودات تتفاوت مع بعضها في النظام الكوني من حيث قابليتها لاكتساب الفيض من مبدأ الوجود فكل موجود و في أية رتبة من الوجود يملك استحقاقا خاصاً به من حيث قابليته لاكتساب الفيض ، و لما كانت الذات الالهية المقدسة كمالا مطلقا و خيراً مطلقا و فياضة علي الاطلاق فهي‏ تعطي و لا تمسك، و لكنها تعطي لكل موجود ما هو ممكن له من وجود أو كمال وجود. فالعدل الالهي حسب هذه النظرية يعني ان أي موجود يأخذ من الوجود و من كماله المقدار الذي يستحقه و بامكانه ان يستوفيه. و الحكماء الالهيون عندما يضفون صفة العدل علي الله سبحانه فهم يقصدون بها هذا المعني الذي ذكرناه الان لكي تكون لائقة لذات الله بعنوان انها صفة كمال له. و عندما ينفون عنه صفة الظلم بعنوان انها نقص فهم يعنون بها هذا المعني المشار اليه أيضا. ثم انه (قدس) قال تحت عنوان (العدل و الحكمة) ذكرنا فيما مضي أنه توجد صفتان من صفات الله تعالي متقاربتان من حيث الشبهات و الاشكالات الواردة عليهما و هما: العدالة و الحكمة. و المقصود من كون الله عادلا هو أنه لا يهمل استحقاق و لياقة أي موجود، فيعطي أي شي‏ء ما يستحق. اما المقصود من كونه حكيما فهو كون النظام الذي أبدعه هو أحسن و أصلح نظام، أي انه يُوجد أفضل نظام ممكن. يقول الخواجه نصير الدين الطوسي في بعض شعره الحكمي: «لا يوجد حكم لائق غير حكم الحق و لن يأتي حكم يفضل الحكم الحق كل شي‏ء موجود قد أوجد كما كان ينبغي و لم يوجد شي‏ء لا ينبغي وجوده» و لازم الحكمة و العناية الالهية هو أن يكون للكون و الوجود معني و غاية. فأي شي‏ء يوجد اما أن يكون خيرا بنفسه و اما أن يكون وسيلة للوصول الي الخير. «فالحكمة» من لوازم كونه عليماً و مريداً، و توضيح أصل العلة الغائية للكون. أما العدالة فليس لها علاقة بصفتي العلم و الارادة، و لكنها بالمعني الذي مر تكون من شؤون فاعلية الله، أي أنها من صفات الفعل و ليست من صفات الذات.  و بعد ان بين الشهيد المطهري (قدس) ان الخلق هو فيض الهي و رحمة الهية تنبع من الذات الالهية اشار الي مطلب آخر يتعلق ببحث التشاؤم الفلسفي و قال: و هناك أثر آخر من آثار مسألة الشرور» و هو التشاؤم الفلسفي، فالفلاسفة المتشائمون يظهرون من اوساط الماديين، فهناك اذن تلازم و علاقة بين المادية و التشاؤم الفلسفي لا يمكن انكارها، و من الواضح ان المادية لم تستطع حل مشكلة الشرور. اما في الرؤية الالهية فالوجود مساوٍ للخير، و الشر امر اضافي و نسبي، و يوجد في اعمال كل شر خير مختبئ.و هذا مما لا تقره الرؤية المادية.و من الجلي كون الرؤية المتشائمة للكون جالبة للعذاب و المعاناة.فما اعظمه من عذاب ان يعتقد الانسان بان الكون فاقد للاحساس و الادراك و الهدف! و انه ليرتعش الانسان عندما يفكر و يتصور كونه ابنا صغيراً لهذا الكون الكبير و هو ينسب لنفسه انه صاحب هدف، و لكنه عندما ينتقل الي الكون الذي أوجده و اوجد فكره و علمه كيف يتخذ لنفسه هدفا، فانه ينكر عليه ان يكون هادفا! و الشخص الذي يعتقد ان العدالة معدومة في الكون، و ان الترجيح الظالم منبث في الطبيعة، لو أُعطي كل نعم الدنيا فسوف يبقي متشائما و معذبا، و تكون مساعيه لاسعاد ذاته و خدمة نوعه غير مصحوبة بالحرارة القلبية و لا بالامال المتوثبة. فاذا كان الوجود مبنيا علي اساس الظلم فحب العدالة عند الانسان حينئذ لا معني له.و عندما يكون الكون فاقدا للهدف فسعينا حينئذ لنكون اصحاب هدف كالكتابة علي الماء امر لا يقدم عليه الا أحمق. و الهدوء و الاستقرار النفسي الذي يتمتع به المؤمنون آت من كونهم معتقدين ان الكون هادف و ملي‏ء بالحكمة و العلم و ليس حائرا و لا مقامراً و لا ابله و لا فاقد الهدف و انما هو عادل يناصر الحق و يعضد أهله، و ليس ظالما و لا نصيرا لاهل الظلم. و ينكر الموحدون وجود أي شي‏ء لم يحسب له حساب و الامور السيئة إما أن تكون مكافأة عادلة و إما ان تكون امتحانا هادفا يعقبه جزاؤه المناسب. أما الافراد الذين حرموا نعمة الايمان فانهم لاي شي‏ء يلجأون لكي يفرحوا قلوبهم؟ ليس امامهم سوي الانتحار و كما يقول واحد منهم: «اننا نحتضن الموت بشهامة»! اذاً قيمة الحياة و قيمة الخلق لا تظهر الا عندما يذوق الانسان طعم الايمان و حلاوة الارتباط بالله تعالي و يكتوي بنار العشق الالهي، حينئذ يري كما رأي اصحاب الامام الحسين (ع) ان المجي‏ء للحياة هو الطريق الطبيعي لنيل السعادة الابدية حتي لو تكررت عملية الخلق و الموت مرات متعددة يقول أحد انصار الامام الحسين (ع) مخاطبا الامام: و الله لو أُقتل ثم احرق ثم يفعل بي ذلك سبعين مرة ما تركتك!!![1] تري من اين نشأت هذه الروحية العالية انها نشأت من عنصر الايمان و العشق الالهي الذي ظهر بحب الحسين الذي اجن عابسا و قال: [حب الحسين اجنني‏] ثم اشار الشهيد المطهري (قدس) إلي مسألة البلاء لاولياء، و الاثر التربوي للبلايا و الشدائد و دورها في صقل شخصية الانسان فقال: البلاء للاولياء: و من هذا الباب ان الله اذا خص عبدا من عباده بلطف منه فهو يجعله عرضة للشدائد.و الجملة المشهورة «البلاء للولاء» تبين هذا الموضوع. و قد جاء في حديث عن الامام الباقر (ع) : «إن الله عز و جل ليتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الرجل أهله بالهدية من الغيبة» [2]و جاء في حديث آخر عن الامام الصادق (ع) : «ان الله اذا أحب عبدا غته بالبلاء غتا» [3] فكما ان مربي السباحة حين يأتيه من يحب تعلمها فهو يحمله علي المحاولة و بذل الجهة ليصبح مروضاً و متعلماً للسباحة، فالله سبحانه حين يحب عبدا و يريد ان يوصله إلي كماله فانه يغرقه في البلاء.و لو قرأ الانسان كتابا عن السباحة فبدون نزوله الي الماء لا يمسي سباحاً، و لكنه يتعلم السباحة عندما يجد طريقه الي الماء و يجرب الصراع ضد الغرق و احياناً يواجه خطر الغرق عندما يتحرك بعيدا عن الشاطئ. فلا بد ان يري الانسان في دنياه الشدائد حتي يتعلم طريقة التخلص منها، و لابد ان يواجه الصعوبات حتي ينضح و يتكامل. و كتب بعضهم عن لون من الطيور انه عندما يبزغ الريش علي اجناح فرخه الوليد و لكي يعلمه الطيران فهو يخرجه من الوكر الي الفضاء الطلق و يخلي سبيله هناك فيضطر الطير الصغير لحركاتٍ غير منظمة و يضرب بجناحيه حتي يصاب بالتعب و يوشك علي السقوط و عندئذ تقترب الام الحنون منه و تمسك به و تحمله علي ظهرها لترفع عنه النصب، و عندما تري الراحة قد عادت اليه تطلقه في الفضاء، و تجبره علي المحاولة حتي يصاب بالتعب مرة أخري فتمسكه.و تكرر هذا العمل مرات و مرات حتي يخرج الفرخ و قد تعلم الطيران. الاثر التربوي للبلايا و الشدائد: الصعوبات و الشدائد مربية للفرد و موقظة للامم، فهي تعيد الوعي للنائمين و تحرك العزائم و الارادات. فكما ان الصقل للحديد و الفولاذ يجعلهما حادين فكذك الشدائد عندما تتصل بالنفس الانسانية فهي تجعلها اكثر تصميما و فعالية وحدة.فخاصة الحياة هي المقاومة للشدائد لتصبح دوما علي استعداد لمقابلتها في الشعور و اللاشعور. و للشدائد خاصة تبديل الماهيات فتغير ارواح الناس و انفسهم و كيمياء الحياة لها عنصران : الحب و البلاء فهذان هما عاملا النبوغ اللذان يوجدان من المواد الميتة التي لا حرارة فيها اشياء مضيئة فخمة يقول الشاعر: «لقد قضي سعدي عمرا مرا، و لكنه تحدث عنه باعذب لسان» . فالامم المستغرقة في الشدائد و المصاعب تصبح قوية و ذات ارادة صلبة. اما الطالبون للراحة والذين لا يرون سوي حياة مترفة فهم دائما تعبون يائسون. فاذا عرفنا ان الخلق فيض الهي و ان اللذة الحقيقية تمكن في القرب الالهي و ان الانسان في سيرة التكاملي يحتاج الي الابتلاء و الامتحان لتكتمل شخصيته ليفوز بلقاء الله، و الأنس بجواره، الذي هو الأمل الاكبر و هو الغاية القصوي التي ليس دونها لذة ثم مرافقة الصالحين من عباده و الذين علي رأسهم محمد (ص) و علي آله الطاهرين و الفوز بالجنة و الرضوان.[4] اذا عرفنا كل ذلك هل يا تري يصح لنا ان نتمني ان نبقي ترابا نداس بالأقدام ،الأمر الذي يتمناه الكافر حيث يقول: [يا ليتني كنت ترابا]؟! نعم، الوجود خير من العدم و الفوز بالقرب الالهي نعمة لا تدانيها نعمة. و ليس طريق ذلك صعباً و قد فتح لنا سبحانه كل السبل للفوز بذلك.