هل إن الإنحراف طبيعة فطرية في الإنسان أم أنها مكتسبة أم أنها وراثية؟, فعلي سبيل المثال إذا تركنا طفلا أمام شاشة التلفاز وأعطيناه جهاز التحكم وتركناه لوحده من غير تدخل وكان التلفاز به برامج متنوعة مثل برامج دينية وأغاني ومسسلسلات خلاعية ولكن لم تكن هناك أفلام كارتونية في رايكم ماذا سيختار هذا الطفل لمشاهدته؟
اليس من المفترض أن يكون الناس في خلقتهم سواء فإذا دخل عامل الوراثة أو الفطرة في النشأة فإن الخلق بذلك غير متساوين ويجب أن يكون الحساب غير متساو أيضا فما ذنب الشخص الذي يولد منحرفا هل عليه معاناة الرجوع الي الطريق الصحيح علي عكس غيره الذين ولدوا علماء أو مؤمنين؟.
وكذلك إن كان الإنحراف مكتسبا فلماذا ينحرف الشخص بمجرد رؤيته للشر مع كون نشأته في مجتمع مؤمن بالله وبالقيم والمبادئ والسلوك الحسن؟, قد سمعنا عن كثير من العلماء العظام قد إنحرفوا في آخر لحظة وخسروا كل ما عملوا من أجله فأين ذلك العمل وهل جزاء كل تلك السنين يذهب هباء؟.
برأيكم لو وضعنا شخصا في مجتمع سليم وربيناه علي المبادئ الحسنه وبعدها وضعناه في مجتمع منحرف فماذا برأيكم سيكون هذا الرجل وعلي العكس لو جئنا برجل منحرف الي مجتمع صالح ماذا سيكون أيضا؟.
الفطرة هذه نقطة حساسة بعض الشيء فنري أن بعض الأطفال لو تركناهم أمام التلفاز فإنهم يختارون السيئ لمشاهدته ويتركون الحسن وهناك دليل آخر وهو أبناء النبي آدم عندما قتل أحد أبناء هذا النبي أخاه مع عدم وجود إنحراف أو مجتمع ليكتسبا منه هذا الإجرام فلم يكن هناك سوي منبع الرسالة وهو النبي فمن أين جاءت فكرة القتل, ولدينا أيضا أمثلة في زماننا المعاصر فنري أن الرجل طوال حياته عمله صالح وبأقل إغراء أو وسوسة من الشيطان نراه يترك ماشب عليه ويتجه الي الخطأ فمقارنة بين الفترة الطويلة من العبادة والطاعة الي وسوسة لحظية فإن الإتجاه يكون الي الخطأ, حتي وإن قاوم هذا الرجل فما زالت هناك قوة تحاول جره الي الخطأ, وكل ما طرحته الآن من أمثلة علي الفطرة يتعارض مع مانعرفة وما تعلمناه من القرآن بأن الفطرة تقود الي الخالق وبذلك الي الطريق الصحيح فهل أجد لديكم جوابا عن هذه الإشكالية ؟
اذا القينا نظرة عابرة علي المخلوقات الكونية نجد ان الانسان هو العنصر الاعقد فيها و العنصر المحير في تركيبه و لذا اصبح الانسان ـتبعا لطبيعته ـكائنا مجهولا و قد عبر عنه ـ بحق ـ ب[الانسان ذلك العنصر المجهول] و من بين مجهولات الانسان صفاته التي علي رأسها مسألة الفطرة الانسانية التي وقعت موضوعاً للسؤال المطروح. و في خصوص معني الفطرة و هل ان الانسان يحتوي علي امور فطرية اولا؟ ذكرت عدة آراء و كتبت مجموعة كبير من البحوث العلمية من قبل مفكري جميع الاديان، يعثر عليها الانسان في الكتب الفلسفية و الكلامية. و في هذا المجال نقول و بصورة اجمالية: ان الرأي الذي ذهب اليه الفلاسفة و المتكلمون المسلمون -اعتمادا علي النصوص الشرعية و العقل السليم- هو: الفطرة الانسانية بمعني الصفة التكوينية التي اودعت في اصل خلقة الانسان، و هذه الصفة صفة تكوينية بمعني انها غير اكتسابية بل هي موجودة و مودعة مع طبيعية الانسان كموجود خاص.
و لذلك عرفها الراغب الاصفهاني بقوله: ... المزید و فطر الله الخلق و هو ايجاد الشيء و ابداعه علي هيئة مترشحة لفعل من الفعال فقوله: ( فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) [1] اشارة منه تعالي الي ما فطر أي ابدع و ركز في الناس من معرفته و فطرة الله هي ما ركز فيه من قوّته علي معرفة الايمان [2].هذا هو معني الفطرة و الي جانب الفطرة توجد عند الانسان صفتان اخرتان تكوينيتان أيضاً هما (الطبيعية و الغريزية) هذه المفاهيم الثلاثة (الفطرة ـ الطبيعة ـ الغريزة) و ان كانت تشترك في كون الجميع اموراً تكوينية، و لكن مع هذا الاشتراك يوجد بينها تفاوت و اختلاف دقيق جدا حيث ان عدم الانتباه اليه يؤدي الي إثارة مجموعة من التساؤلات و الشبهات نموذج منها ما طرح في متن السؤال و لذا لابد من بيان هذه المفاهيم الثلاثة :
1ـ الطبيعة: للاشياء باعتبار خصوصياتها المتعددة خصوصيات ذاتية يطلق علي هذه الخصوصيات الذاتية (الطبيعة) مثلا لو أردنا ان نبين خاصية من خواص الماء نقول: (طبيعة الماء كذا) اذا الطبيعة: هي الخصوصية التي تودع في الشيء ولها اثر خاص بها.
2ـ الغريزة: و ان كان لحد الآن لم تتضح لنا ماهية الغريزة و لكن القدر المتيقن عندنا اننا نعلم ان الحيوانات تتمتع بخصوصيات و صفات خاصة، لها دور في تيسير حركة تلك الحيوانات و انها تمنحها معرفة ناقصة لادارة حياتها بما هي حيوانات تحتاج الي استمرار الحياة، و هذه الخصوصية غير اكتسابية اي لم تحصل من خلال ممارسة دورة تعليمية و انما خلقت مع الحيوان، مثال ذلك: اننا نجد صغار الحيوانات و في الساعات الاولي بل اللحظات الاولي لتولدها تعثر علي ثدي امهاتها بصورة غريزية و من دون تعليم احد لها.
3ـ الفطرة: ذكرنا تعريف الفطرة سابقا، و لكن الذي نقوله هنا هو: ان مصطلح الفطرة يستعمل بخصوص الانسان فقط. و ان الفارق الاساسي بين الفطرة و الغريزة يمكن حصره في امرين هما:
الفـ الفطرة تختلف عن الغريزة بدرجة العلم فان درجة المعرفة في الفطرة اكبر بكثير من الغريزة، بمعني ان الانسان يشتمل علي سلسلة المعلومات الفطرية و يعلم انه حامل هذه الفطريات بخلاف الغريزة فانه و ان كان عالما بميوله و لكنه غير منتبه اليها.
بـ ان حدود مجال الغريزة ينحصر في الجانب المادي للانسان فقط، و اما الفطرة فان مجال عملها اوسع من ذلك لانها ترتبط بالعلوم التي ماوراء المادة اي المسائل و القضايا الانسانية .
اذاً البحث عن الفطرة في الحقيقة هو بحث عن التساول التالي: هل هذه المسائل الخاصة بالانسان (ماوراء الحيوان و ماوراء المادة) و التي يمتاز بها الانسان فقط دون الحيوان، هل هي امور مكتسبة و ليس لها علاقة بتركيبة الانسان او هي امور تمتد جذورها مع تركيبة الانسان و انها امور فطرية تكوينية؟
لا شك ان بعض التعاليم الاسلامية مبنية علي قبول سلسلة من الامور الفطرية بمعني ان هذه الاشياء التي يطلق عليها اليوم بالمسائل الانسانية او ماوراء الحيوان، او بتعبير اخر يطلق عليها (القيم الانسانية) كل ذلك ـ حسب التعاليم الدينية ـ له جذوره الضاربة في اعماق خلقة الانسان
و هذه الفطريات الانسانية تقسم الي قسمين. احدها في مجال الادراك و المعرفة، و القسم آلاخر في مجال الميول و الرغبات.
في مجال الادراك و المعرفة يطرح التساؤل التالي: هل الانسان يملك سلسلة من المعلومات الفطرية ام لا؟ الحكماء المسلمون يعتقدون: ان الاصول المشتركة للفكر البشري عند جميع الناس، هذه اصول فطرية، بمعني ان الانسان ينتبه اليها في هذه الدنيا من غير حاجة الي معلم و من دون حاجة الي تركيب قياس منطقي من صغري و كبري و نتيجة، و كذلك لايحتاج الي اجراء تجربة علمية للوصول الي النتائج ،وذلك من قبيل (الكل اكبر من الجزء)، و اما في مجال الميلول و الرغبات. فهل توجد سلسلة من الامور الفطرية ام لا؟
في مقام الجواب نقول: المطالب الفطرية او الغريزية عند الانسان نوعان: (الحاجات و المطالب الروحية و الحاجات و المطالب الجسمانية) و نقصد بالحاجات الجسمانيه، المطالب التي ترتبط بدرجة 100% بالجسد و لا علاقة لها بالروح مثل: غريزة الجوع و العطش، الميل الي الاكل و الشرب بعد الشعور بالجوع أو العطش هذا امر مادي و جسماني و لكنه غريزي يعني له علاقة ببدن الانسان و سائر الحيوانات الاخري ينتج ذلك بسبب نشوء بعض الترشحات في المعده و بعد ذلك تتحول هذه الترشحات الي صورة احساس في شعور الانسان و لذا نري الطفل الصغير و ان كان يجهل انه يمتلك شيئا يسمي المعدة و لكنه من اجل اطفاء سورة الجوع و العطش يسعي الي الاكل و الشرب لتلبية هذه الحاجة الغريزية، و هكذا الغريزة الجنسية فانها نتاج ترشح بعض الهرمونات من الغدد الجنسية فانها امر غريزي و فطري و ليست من الامور المكتسبة، لكن هناك سلسلة من الغرائز و الفطريات في مجال الميول و الرغبات تعتبر عند علماء النفس من الامور (الروحية) و اللذات التي تنشأ منها يطلق عليها (اللذات الروحية) مثل ميل الانسان للابوة، الميل لطلب الأفضل الميل لمعرفة الحقيقة و العشق و العبادة... و ان انكار هذه الفطريات ينجر لا محالة الي القول بالشك المطلق، و ان الميل الديني و معرفة الخالق و الدين من هذا القسم من العلوم، و نحن وفق المعارف الاسلامية نعتقد ان كل انسان و بصورة فطرية يميل الي معرفة الله و دين الحق، و ما يقع في بعض الاحيان من المخالفة لهذه الطاهرة الفطرية فانه وليد عوامل و اسباب غير طبيعية محيط بالانسان تجعله يتخلف عن هذا الامرالفطري، و لذا لو انحرف الانسان تحت ضغط الافلام المبتذلة عن طريق التوحيد و مال الي طريق آخر فلا منافاة و ذلك لان التوحيد امر فطري و الانحراف هذا امر غريزي.[3]
بعد هذا الاستعراض المفصل للتمييز بين الامور الفطرية و غير الفطرية يمكن الحصول علي النتائج التالية:
1ـ ان الفطرة منحة الهية لجميع البشر الكل فيها سواء ( ً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدا )[4] فالكل بامكانه ان يستفيد من هذه المنحة الالهية للوصول الي الحق و الحقيقة.
2ـ ان مجال الفطرة ـ ادراك الفطرة ـ هو الامور الكلية مثل اصل وجود الله ضرورة الدين ضرورة النبوة و غيرها، و اما الجزئيات فخارج نطاق الفطرة مثلا التعاليم الدينية (الصلاة و الصيام و...)
3ـ باعتبار ان الفطرة قد تتعرض و بسبب ظروف قاهرة للانحراف لذلك ارسل الله الرسل لاتمام الحجة و التذكير بالجانب الفطري و بيان الامور الجزئية كما عبر عن ذلك اميرالمؤمنين عليه السلام: "وواتر اليهم انبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته و يذكروهم منس ي نعمته و يحتجوا عليهم بالتبليغ و يثيروا لهم دفائن العقول" [5]. و كما يقول سبحانه ( كُلا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُورا ).[6] يقول السيد الطباطبائي: و هذه آلاية تفيد ان شأنه تعالي هوالامداد بالعطاء:يمد كل من يحتاج الي امداده في طريق حياته و وجوده و يعطيه ما يستحقه و ان عطاءه غير محظور و لا ممنوع من قبله تعالي الا ان يمتنع ممتنع بسوء حظ نفسه، من قبل نفسه لا من قبله تعالي[7]
4ـ يظهر من ذلك ان لله علي الناس حجتين " حجة باطنة و هي العقل و حجة ظاهرة وهي الرسل " و لكل من هاتين الحجتين خصوصياتها و مجالها الذي تعمل فيه.
5ـ ان الله سبحانه لايعذب اي انسان حتي يبعث اليه رسولا ( وَ ما كُنَّا مُعَذِّبينَ حَتَّي نَبْعَثَ رَسُولاً )[8] و هذا يشمل جميع البشر فالانسان الذي لم يصله الرسول او تعاليم الرسول يطلق عليه اسم الانسان القاصر، و هذا يحاسب وفق ادراكه الفطري فقط كما يظهر من النقطة الرابعة، كما تختلف درجة الادانة بين الانسان الذي ينشأ في بيئة علمية قد توفرت له جميع سبل الهداية و بين الانسان الذي حرم من جميع ذلك لظروف خاصة به.
6ـ ان الله اراد للانسان ان يكون حرا في اختيار الطريق الذي يختطه لنفسه و مع ذلك يكون مسؤولا عن عمله و عن النتائج التي تترتب علي ذلك.
هذه مجموعة من النقاط التي اذا نسقتم و ركبتم بينها يمكنكم الحصول علي الاجابة عن الاسئلة التي طرحتموها في السؤال.