توجد بعض المذاهب تعتقد بأن النبي قد سحر في فترة من فترات حياته فما رأيكم في هذا الاعتقاد؟ وما ردكم عليهم، مع الإثبات بالبراهين والمصادر من الفريقين سنة و شيعة؟
ان مسألة تعرّض النبي(ص) للسحر، و انّه سحر من قبل اليهودي [لبيد بن أعصم] لا أصل لها و انما هي قضية مختلقة، و نحن اذا اردنا استعراض جميع الادلة في هذا المجال لطال بنا البحث، و لكن سوف نذكر لكم بعض الملاحظات او النقاط التي تدل علي عدم صحة هذه الواقعة.
1 ـ ان جميع الروايات التي تعرضت لذكر هذه الواقعة هي روايات ضعيفة السند، قال شيخ الاسلام المجلسي رحمه اللّه في بحار الانوار عقب ايراده احاديث سحره صلي اللّه عليه و آله و سلم: و الاخبار الواردة في ذلك اكثرها عاميّة أو ضعيفة و معارضة بمثلها، فيشكل التعويل عليها في اثبات مثل ذلك.[1]
و لقد أجاد فيما أفاد، رحمه اللّه تعالي و ر ضي عنه و أرضاه.
و قال أيضاً ـ من جملة كلام له: و اما تأثير السحر في النبي و الامام صلوات اللّه عليهما فالظاهر عدم وقوعه، انتهي.
و كلامه هذا ظاهر في عدم اعتباره ـ رحمه اللّه ـ تلك الاخبار الدالة بظاهرها علي التأثير، و ناهيك به طعناً فيها من هذا الامام الخرّيت في الحديث و علومه.
2 ـ ان الروايات مختلفة في الذي حلّ السحر و اخرجه من البئر فبعضها تقول انه الرسول(ص) و بعضها الامام علي(ع) و بعضها شخص آخر و بعضها جبير بن اياس و في بعضها الآخر قيس الزرقي و بعضها تقول انه لم يخرجه و تركه، وبعضها تقول ان الذي سحره لبيد و بعضها الآخر غلام يهودي، كذلك الاختلاف في مدة تأثير السحر.[2]
و انت خبير بأن هذا الاختلاف في المستخرج ينبيء عن عدم تحقق أصل الاخراج، اذ لولاه لما كان وجه للاختلاف فيه. كما ان هذا الاختلاف يولد الشك في أصل وقوع حادثة السحر.
3 ـ ثم إنه لو جاز ذلك في حق الانبياء عليهم السلام، لكان ذريعة لعبث أهل الكفر بالانبياء و المرسلين، و لكانوا عرضة لمساءتهم، إذ لم تنفكّ عصورهم من وجود ساحر عليهم، مع انّه لم يحكي وقوع ذلك الاّ في شأن نبيّنا محمد(ص).
4 ـ و يقدح فيما تضمّنته تلك الاحاديث من أن قصة السحر كانت بالمدينة، و ان المعوذتين انزلتا لتعويذه(ص) بهما، ما ذهب اليه بعض أهل العلم من كون المعوذتين مكّيتين أو خصوص سورة الفلق ـ علي الخلاف.[3]
5 ـ و من اقوي الاسباب الموجبة للإعراض عن هاتيك الاخبار و ردها، انّها توجب صدق قول الكفرة بأنّه صلي اللّه عليه و آله وسلم مسحور و قد قال اللّه تعالي:
« وَ قالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُورا* انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطيعُونَ سَبيلا. »[4]
6 ـ ثم ان هناك الكثير من العلماء الذين انكروا هذه القضية منهم:
1 ـ الشيخ الطوسي في تفسير التبيان. 10/.434
2 ـ الشيخ الطبرسي في مجمع البيان. 1/177 و 10/.568
3 - الشيخ ابوالفتوح الرازي في تفسيره، و كذا الجرجاني في «المحاسن» و الكاشفي في [المنهج و خلاصته] حاكياً اتفاق العلماء الامامية علي عدم تأثير السحر فيه(ص).[5]
4 ـ العلامة الحلي في منتهي المطلب.
5 ـ بهاء الدين العاملي في مفتاح الفلاح/ ص 93.
6 ـ فخر الدين الطريحي، مجمع البحرين مادة (نفث).
7 ـ المجلسي في بحار الانوار: 18/70.
8 ـ محمد جواد العاملي في مفتاح الكرامة: 4/73.
و اما علماء العامة فهناك من انكره منهم :
1 ـ الجصاص في احكام القرآن 1/60، و له كلام لطيف لم نذكره روماً للاختصار.
2 ـ حكي الفخر الرازي في مفاتيح الغيب [32/187 ـ 188] عن القاضي قال: هذه الرواية باطلة ... المزید
3 ـ محمد عبده في تفسير جزء عم: 180.
4 ـ الشيخ محمد رشيد رضا في «تفسير المنار»: 12/104 ـ 105 .
هذه هي طائفة من العلماء الذين انكروا صحة تأثير السحر في سيد البشر.
و نحن هنا نذكر لكم ما ذكره الامام محمد عبده لانّه يشتمل علي فوائد جمّة و مطالب مهمة قال: قد رووا ها هنا أحاديث في أنّ النّبي(ص) سحره لبيد بن الأعصم و أثّر سحره فيه حتّي كان يخيّل له أنّه يفعل الشيء و هو لا يفعله او يأتي شيئاً و هو لا يأتيه و أنّ اللّه أنبأه بذلك و أخرجت موادّ السحر من بئر و عوفي(ص) ممّا كان نزل به من ذلك و نزلت هذه السورة.
و لا يخفي أنّ تأثير السحر في نفسه عليه السلام حتّي يصل به الأمر إلي أن يظنّ أنّه يفعل شيئاً و هو لا يفعله، ليس من قبيل تأثير الأمراض في الأبدان و لا من قبيل عروض السهو و النسيان في بعض الأمور العادية[6] بل هو ماسّ بالعقل آخذ بالروح و هو ممّا يصدّق قول المشركين فيه: (إن تتّبعون إلاّ رجلاً مسحوراً) و ليس المسحور عندهم إلاّ من خولط عقله و خيّل له أنّ شيئاً يقع و هو لا يقع فيخيّل إليه أنه يوحي إليه و لا يوحي إليه و قد قال كثير من المقلّدين الذين لا يعقلون ما هي النبوة و لا ما يجب لها: إنّ الخبر بتأثير السحر في النفس الشريفة قد صحّ فلزم الاعتقاد به و عدم التصديق به من بدع المبتدعين لأنّه ضرب من إنكار السحر و قد جاء القرآن بصحّة السحر. فانظر كيف ينقلب الدين الصحيح و الحق الصريح في نظر المقلّد بدعة ـ نعوذ باللّه ـ يحتجّ بالقرآن علي ثبوت السحر، و يعرض عن القرآن في نفيه السّحر عنه(ص) و عَدّه من افتراء المشركين عليه، و يؤوّل في هذه و لا يؤوّل في تلك!
مع أنّ الذي قصده المشركون ظاهر، لأنّهم كانوا يقولون: انّ الشيطان يلابسه عليه السلام و ملابسة الشيطان تعرف بالسحر عندهم و ضرب من ضروبه، و هو بعينه أثر السحر الذي نسب إلي لبيد، فإنّه خالط عقله و إدراكه في زعمهم.
قال: و الذي يجب اعتقاده أن القرآن مقطوع به، و أنّه كتاب اللّه بالتواتر عن المعصوم (ص) فهو الذي يجب الاعتقاد بما يثبته و عدم الاعتقاد بما ينفيه، و قد جاء بنفي السحر عنه عليه السلام حيث نسب القول بإثبات حصول السحر له إلي المشركين أعدائه و وبّخهم علي زعمهم هذا، فإذن هو ليس بمسحور قطعاً.
قال:[7] و أمّا الحديث ـ علي فرض صحّته ـ فهو آحاد و الآحاد لا يؤخذ بها في باب العقائد، و عصمة النبيّ من تأثير السحر في عقله عقيدة من العقائد لا يؤخذ في نفيها عنه إلاّ باليقين، و لا يجوز أن يؤخذ فيها بالظنّ و المظنون، علي أنّ الحديث الذي يصل الينا من طريق الآحاد إنّما يحصل الظنّ عند من صحّ عنده، أما من قامت له الأدلة علي أنّه غير صحيح فلا تقوم به عليه حجة.
و علي أيّ حال فلنا، بل علينا أن نفوّض الأمر في الحديث و لا نحكّمه في عقيدتنا و نأخذ بنصّ الكتاب و بدليل العقل، فإنه إذا خولط النبي في عقله ـ كما زعموا ـ جاز عليه أن يظنّ أنّه بلّغ شيئاً و هو لم يبلّغه، أو أنّ شيئاً نزل عليه و هو لم ينزل عليه و الأمر ظاهر لا يحتاج إلي بيان.
ثم إنّ نفي السحر عنه لا يستلزم نفي السحر مطلقاً، فربّما جاز أن يصيب السحر غيره بالجنون نفسه، و لكن من المحال أن يصيبه لأنّ اللّه عصمه منه.
ما أضرّ المحبّ الجاهل و ما أشدّ خطره علي من يظنّ أنه يحبّه، نعوذ باللّه من الخذلان قال[8]: لو كان هؤلاء يقدّرون الكتاب قدره و يعرفون من اللغة ما يكفي لعاقل أن يتكلّم، ما هذروا هذا الهذر، و لا وصموا الاسلام بهذه الوصمة، و كيف يصحّ أن تكون هذه السورة نزلت في سحرالنبي(ص) مع أنّها مكيّة في قول عطاء و الحسن و جابر في رواية كريب عن ابن عباس، و ما يزعمون من السحر إنّما وقع بالمدينة؟! لكن من تعوّد القول بالمحال، لا يمكن الكلام معه بحال، نعوذ باللّه من الخبال. انتهي كلامه.[9]