منذ سنتين

لمحة من تاريخ الفكر الاسلامي

تاريخ الفكر الاسلامي


من يلق نظرة استقرائية علي تاريخ الفكر الاسلامي، نشأته و نموّه وتطوره، ثم يحلل بنية هذا الفكر و يردّه إلي عناصر الأولية و مصادره الأساسية في كل جانب من جوانبه، كالفلسفة و علم الكلام، و الاقتصاد و السياسة و الاجتماع و تفسير التاريخ و علم الأخلاق و النفس و علم أصول الفقه، و التفسير و الدراسات الفقهيه و غير ذلك من العلوم و المعارف التي تناولها المفكرون و العلماء و الباحثون الاسلاميون، منذ نشأة الفكر الاسلامي و حتي يومنا الحاضر، يستطع أن يشخص من خلال ذلك حركة الخط البياني التصاعدي في مسيرة نمو الفكر الاسلامي و تطوره و نضجه. ففي بداية الحياة الاسلامية التي بدأت بهبوط الوحي علي الرسول الكريم محمد(ص‏) و انطلاق الدعوة الاسلامية في محيط من الجهل و التخلف و الأمية، لم يكن لدي المسلمين من معارف و علوم و فكر غير ما حوي كتاب اللّه تعالي و سنة نبيه الكريم و هما كما هو واضح يشكلان المعين الفكري الذي لا ينضب و الأساس و القاعدة اللذين منهما تم استنباط الفكر و المعرفة الاسلاميين نتيجة حركة التفكير و الاجتهاد و الابتكار و شيّد عليهما صرح البناء الفكري و الحضاري للمسلمين و للبشرية أجمع و التي أصبحت مدينة في تطورها العلمي و المدني للاسلام و رسالته و نستطيع القول أن أول فاتحة للفكر الاسلامي تمثلت بعلم التفسير فقد كان المسلمون علي عهد رسول اللّه(ص‏)‏ يلجأون إليه(ص‏)‏ لفهم القرآن الكريم و معرفة دلالات الآيات و هذا العطاء النبوي هو جزء من السنة و أساس من أسس الفكر. و بما أن حركة الفكر و المجتمع بدأت تنمو بوحي من حركة الرسالة نفسها، و كانت بداية هذه الحركة في إطار القرآن التي تمثلت في محاولة فهمه و استخراج معانيه و تفسير دلالاته، لذا فقد نشأت بدايات علم التفسير و التأويل و الاختلاف في الفهم و استنباط المعاني و مقصود القرآن و أسباب نزوله. فكان المسلمون بعد رسول اللّه(ص‏)‏ يلجأون في فهما القرآن إلي أبرز صحابة رسول اللّه(ص‏)‏ علما و معرفة بالقرآن، و كان في طليعتهم الامام علي بن أبي طالب(ع‏)‏ الذي وعي القرآن واستوعب معانيه، إماما للمفسرين و دليلا للعارفين الذي وصفه رسول اللّه(ص‏)‏ بقوله:  ( أنا مدينة العلم و علي بابها، فمن أراد المدينة فليأت من الباب‏)‏ [1] ثم كان في تلك الفترة أيضا عبداللّه بن عباس، و عبد اللّه بن مسعود، و أبي بن كعب و عبداللّه بن عمر و آخرون أمثالهم من جيل الصحابة،  كل قد ساهم في التفسير بما تيسّر له من فهم و استيعاب للقرآن و مضامينه، و إلي جانب هذه الباكورة و الانطلاقة الفكرية كانت حياة المجتمع تتطور، و حاجته السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و المالية التي تتعلق بشؤون الحكم والمال و التجارة وا لصرف و القضاء و المواريث و الزواج و الطلاق....الخ كما كانت تحدث قضايا تتعلق بشؤون العبادة، كالطهارة و النجاسات و الحضر والسفر و الشك في الصلاة و غيرها، و كان المسلمون في هذه الحالات يحتاجون الي الأحكام و الفتاوي فبدأ التوسع في الفقه و بدأت بواكير الاستنباط عند بعض الصحابة. و في هذه الفترة بدأت بدايات أولية لتدوين الفقه فقد روي أن أبا رافع مولي رسول اللّه (ص‏)‏ كان قد كتب كتابا في‏المواريث. و هكذا بدأت بدايات الاجتهاد و الانتاج الفكري في هذين الحقلين بعد وفاة الرسول الكريم (ص‏)‏ ثم اخذ الاجتهاد في فهم القرآن و السنة عند بعض من تصدّي لهذه المهمة يفرز أخطاء و يقود إلي تصورات متباينة في شؤون العقيدة و التوحيد و ما يرتبط بهذا الجانب من مسائل تتعلق بالهدي و الضلال و الجبر و الاختيار و القضاء و القدر و العقاب و الثواب ...الخ. فنشأت بدايات و بذور الاختلاف في الفتوي و مسائل العقيدة و التفسير، لتكون أصولا و منطلقات لمدارس فكرية و فقهية و تفسيرية فيما بعد. و أخذت آفاق الفقه و التفسير و مسائل العقيدة تتسع و تأخذ مدارات أوسع فبدأت بواكير مذهب المرجئة و المعتزلة في النصف الثاني من القرن الأول الهجري إلي جانب الخط الفكري الذي كان يلتزمه أهل البيت(ع‏)‏ و من تابعهم علي ذلك. ثم أخذ الأنتاج الفقهي و التفسير و تدوين الحديث و السير و المغازي و أصول الفقه يأخذ شكلا أكثر نضجا و تطورا. و عندما أطلع المسلمون علي فكر أهل الكتاب من اليهود و النصاري، و مفاهيم اللاهوت، بدأ النقاش و الحوار و الرد و بدأت الحركة الفكرية العقائدية تأخذ طابع رد الشبهات و تصحيح الاعتقاد و تثبيت الأصول، فنشأ الكلام و الجدال العقائدي ليتطور فيصل إلي مرحلة علم الكلام، ثم بدأ التصنيف و التأليف الأكثر تطورا و نضجا من الناحية الفنية، و الأوسع شمولا في مادته و مسائله في علم الفقه و التفسير و أصول الفقه. و في القرن الثاني الهجري، و عندما بدأت الترجمة والنقل عن الأمم و الحضارات غير الأسلامية، كترجمة الفلسفة و المنطق عن اليونان و بدأت هذه الأفكار تأخذ طريقها إلي المجتمع الإسلامي، تاولها العلماء المسلمون بالنقد و المناقشه و التقويم، بالاضافة إلي أنها جعلت أئمة العلم و العلماء و المفكرين يلجأون إلي وضع الأسس الفكرية و تأليف الكتب و ملء حلقات الدرس بالمعرفة و الفكر الاسلاميين. و بدأت الانطلاقة الفكرية بشكلها الحيوي في أواخر القرن الأول و بدايات القرن الثاني الهجرتين. و هكذا بدأ صرح الفكر الاسلامي يتكوّن، مارّا بمرحلة الولادة و النمو و الاكتمال عبر عدّة أساليب هي: 1ـالتلقي عن رسول اللّه(ص‏)‏ ما بلّغه للبشرية من قرآن و سنة. 2ـالسؤال و الاستفسار عمّا كان مجهولا لديهم من شؤون التفسير و الأحكام و العقيدة و غيرها. 3ـالخطب التي كانت تلقي من قبل بعض الصحابة بعد حياة الرسول محمد(ص‏)‏ و قد بلغت ذروتها في خطب الصحابة و من أبرزها خطب الامام علي(ع‏)‏ التي جمعت بكتاب تحت اسم(نهج البلاغة‏)‏ و الذين يشكل مصدرا غنيا فريدا من مصادر الفكر و المعرفة الاسلامية 4ـحلقات الدرس و المناقشة التي كان يقيمها الصحابة و التابعون و الأئمة(ع‏)‏ و العلماء في المساجد. 5ـالكتابة و التأليف‏. 6ـالتبني الواعي الملتزم لما نقل عن الأمم الأخري‏. 7ـبناء الجامعات المدارس‏. 8ـتأسيس العلوم و المعارف.‏ و لقد كان رسول اللّه(ص‏)‏ أول من اعتني بتعليمهم العلم والقراءة و الكتابة فكان يرسل ممثلين عنه لتعليم المسلمين و الدعوة إلي الاسلام، فقد بعث مصعب بن عمير إلي المدينة قبل هجرته، و بعث معاذ بن جبل إلي اليمن ليدعوا إلي الاسلام و يعلّم الناس المعارف و العلوم. و قد روي عن رسول اللّه(ص‏)‏  أنه طلب ممن يعرف القراءة و الكتابة من أسري معركة بدر، من مشركي مكة أن يعلم كل واحد منهم عشرة من أبناء المسلمين لتكون فدية إطلاقه من الأسر، لأنه أراد بذلك تحرير العقول من الجهل مقابل تحرير الأيدي من قيد الأسر. لقد بذل العلماء المسلمون بعد ذلك جهودا علمية ضخمة فأسسوا منهاج البحث العلمي فضبطوا أصوله و قواعده العلمية، و وضعوا المعاجم و دوائر المعارف و الموسوعات و المراجع المفهرسة المنظمه، و أقاموا الدراسات العقلية و الانسانية علي أصول علمية منظمه، كما وضعوا منهاج البحث و نظرياته و أصوله في مجال الدراسات المادية و الطبيعة و الحياتية المختلفة. إن ما لدينا من صرح علمي شامخ، و من ثروة فكرية منظمة دقيقة لتشهد بجهود العلماء الاسلاميين و بقدرة الفكر الاسلامي علي العطاء و النمو و الانتاج و الأصالة و سلامته من العقم و التوقف و الجمود و التبعية و الالتقاط. و صحيح أن المسلمين استفادوا من تجارب الأمم في مجال الفكر و الثقافة كالفلسفة و الكلام و المنطق و علم الاجتماع و النفس و الأخلاق و التاريخ و غير إلاّ إنّهم لم يستلموا هذا الانتاج الانساني كمسلمات علمية، بل نقدوه و ناقشوه و صححوه و أضافوا إليه و توسعوا فيه بشكل يتناسب و ما لديهم من فكر و معتقد و فهم إسلامي و رأي أصيل، فحافظوا بذلك علي أصالة الفكر الأسلامي و نموه و إثراته في آن واحد، بالاضافة إلي ما ابتكروا و أسسوا و اكتشفوا في هذا المجال.فكانوا الرّواد في وضع الأسس العلمية للعلوم و المعارف الانسانية و تأسيس مناهج البحث و التفكير العلمي وفق منهج عقائدي و نظرة إسلامية، و هذا الضباط و التنظيم في بنية الفكر و منهاج البحث و التفكير و تنسيق البناء لهو من متطلبات و ضرورات التفكير الاسلامي. و يمكننا أن نجل الخدمات العظيمة التي قام بها العلماء و المفكرون الاسلاميون و المهام التي نهضوا بها كالآتي: 1ـالاستنباط و الابتكار و تأسيس العلوم و المعارف‏ 2ـالدفاع عن الفكر الاسلامي ورد الشبهات لتحقيق الأصالة و النقاء وا لاستقامة للفكر الاسلامي‏ 3ـالنقد و المحاكمة للأفكار غير الاسلامية و كشف أخطائها و عجزها. 4ـالاستفادة من الفكر الانساني الذي يتفق و أسس و أصول الفكر و التفكير الاسلامي و لا يخالفه، بعد غربلته و تنقيحه و هضمه و امتصاصه من قبل الفكر الاسلامي للتأكد من إزالة كل غريب عن روح الاسلام و اتجاهه في الحياة. بحيث يفقد عناصر الغربة في شخصيته و يدخل متجانسا مع الفكر الاسلامي و ضمن بنية فكرية واحدة.[2]