كما هو معلوم ان مدرسة أهل البيت عليهم السلام تقسم الانسان الي فئتين مسلم ومؤمن، و المؤمن هو من يؤمن بولاية أهل البيت عليهم السلام، اما من يؤمن بالتوحيد والنبوة والمعاد فهو مسلم وله احكام خاصة، و لكن عندما راجعت الآية 35 والآية 56 من سورة الذاريات اكتشفت امراً عجيباً، وهو انه ليس هناك فرق بين الاسلام والايمان، كما في قوله تعالي: (فاخرجنا من كان فيها من المؤمنين *فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين)، سؤالي : هل هناك فرق بين الاسلام والايمان؟ وماهو تفسيركم لهذه الايات؟
لاشك ان التامل والتفكير في ﺁيات الذكر الحكيم نعمة كبيرة وفضيلة سامية قد حث الله تعالي عليها كما ورد في ﺁيات التدبر وغيرها، الا ان التدبر في الآيات يحتاج الي مقدمات طويلة كفانا المفسرون امرها فلابد من الرجوع اليهم لمعرفة دقائق الامور، ومن هنا انطلقت رسالتكم الموقرة، ونحن ايضا بدورنا نرجع الي علمائنا الكبار لنري ماذا يقولون في هذا المجال، وقبل الاجابة عن السؤال نشير الي بعض النقاط الضرورية، وهي:
ان القرﺁن الكريم يفسر بعضه بعضاً، ولايمكن الاكتفاء بآية ما من دون الرجوع الي الآيات الاخري، و هذا ما يعبر عنه علماؤنا بتفسير القرﺁن بالقرﺁن.
ان المصطلحات قد تشير الي اكثر من معني، وذلك تابع للحيثية التي لوحظ فيها الاستعمال، مثلا: نقول :" زيد اقوي من بكر وبكر اقوي من زيد" هذا الكلام للوهلة الاولي قد يكون متهافتاً و متكاذباً، و لكن اذا عرفنا ان الحيثية التي حكمنا بها بقوة زيد هي العلم- يعني ان زيداً اقوي من بكر بالعلم- و الحيثية التي حكمنا بها بان بكراً اقوي من زيد – هي حيثية القوة البدنية – يعني ان بكراً اقوي من زيد عضليا " حينها يرتفع التنافي.
ان المفاهيم المطروحة مثل الايمان والاسلام والتقوي و ... المزید، لها مراتب ودرجات، وقد يستعمل اللفظ تارة ويراد به مرتبة من المراتب، ويستعمل اخري ويراد به المرتبة الثانية او الثالثة.
ومن هنا نري السيد الطباطبائي قدس سره الشريف يفصَل في تفسيره القيم الميزان بين تلك المراتب، ويبين النسبة بين المصطلحات المذكورة ،حيث يقول:
بيان مراتب الاسلام:
الأولي : من مراتب الإسلام، القبول لظواهر الأوامر و النواهي بتلقي الشهادتين لساناً، سواء وافقه القلب، أو خالفه، قال تعالي : « قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإيمانُ في قُلُوبِكُم »[1] ، و يتعقب الإسلام بهذا المعني أول مراتب الإيمان و هو الإذعان القلبي بمضمون الشهادتين إجمالاً و يلزمه العمل في غالب الفروع.
الثانية : ما يلي الإيمان بالمرتبة الأولي، و هو التسليم و الانقياد القلبي لجل الاعتقادات الحقة التفصيلية و ما يتبعها من الأعمال الصالحة و إن أمكن التخطي في بعض الموارد، قال الله تعالي في وصف المتقين : « الَّذينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَ كانُوا مُسْلِمينَ » [2] و قال أيضا :
« يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّة » [3]، فمن الإسلام ما يتأخر عن الإيمان محققا فهو غير المرتبة الأولي من الإسلام، و يتعقب هذا الإسلام المرتبة الثانية من الإيمان و هو الاعتقاد التفصيلي بالحقائق الدينية، قال تعالي :
« إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ في سَبيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُون » [4] و قال أيضا: « يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلي تِجارَةٍ تُنْجيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَليم* تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجاهِدُونَ في سَبيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُون » :[5]، و فيه إرشاد المؤمنين إلي الإيمان، فالإيمان غير الإيمان.
الثالثة : ما يلي الإيمان بالمرتبة الثانية فإن النفس إذا أنست بالإيمان المذكور و تخلقت بأخلاقه تمكنت منها و انقادت لها سائر القوي البهيمية و السبعية، و بالجملة القوي المائلة إلي هوسات الدنيا و زخارفها الفانية الداثرة، و صار الإنسان يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، و لم يجد في باطنه و سره ما لا ينقاد إلي أمره و نهيه أو يسخط من قضائه و قدره ، قال الله سبحانه :
« فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّي يُحَكِّمُوكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْليما » [6]، و يتعقب هذه المرتبة من الإسلام المرتبة الثالثة من الإيمان ، قال الله تعالي « قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون » إلي أن قال : « وَ الَّذينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُون » [7]، و منه قوله تعالي: « إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمين »[8] إلي غير ذلك، و ربما عدت المرتبتان الثانية و الثالثة مرتبة واحدة.
و الأخلاق الفاضلة من الرضاء و التسليم، و الحسبة و الصبر في الله، و تمام الزهد و الورع، و الحب و البغض في الله، من لوازم هذه المرتبة
الرابعة : ما يلي، المرتبة الثالثة من الإيمان فإن حال الإنسان و هو في المرتبة السابقة مع ربه حال العبد المملوك مع مولاه، إذ كان قائما بوظيفة عبوديته حق القيام، و هو التسليم الصرف لما يريده المولي أو يحبه و يرتضيه، و الأمر في ملك رب العالمين لخلقه أعظم من ذلك و أعظم و إنه حقيقة الملك الذي لا استقلال دونه لشيء من الأشياء لا ذاتا و لا صفة، و لا فعلا علي ما يليق بكبريائه جلت كبرياؤه .
فالإنسان - و هو في المرتبة السابقة من التسليم - ربما أخذته العناية الربانية فأشهدت له أن الملك لله وحده لا يملك شيء سواه لنفسه شيئا إلا به لا رب سواه، و هذا معني وهبي، و إفاضة إلهية لا تأثير لإرادة الإنسان فيه، و لعل قوله تعالي: ( رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا )[9] الآية، إشارة إلي هذه المرتبة من الإسلام فإن قوله تعالي : (إ ذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ) الآية ظاهره أنه أمر تشريعي لا تكويني، فإبراهيم كان مسلما باختياره، إجابة لدعوة ربه و امتثالا لأمره، و قد كان هذا من الأوامر المتوجهة إليه (عليهالسلام) في مبادئ حاله، فسؤاله في أواخر عمره مع ابنه إسماعيل الإسلام و إراءة المناسك سؤال لأمر ليس زمامه بيده أو سؤال لثبات علي أمر ليس بيده، فالإسلام المسؤول في الآية هو هذه المرتبة من الإسلام و يتعقب الإسلام بهذا المعني المرتبة الرابعة من الإيمان و هو استيعاب هذا الحال لجميع الأحوال و الأفعال ، قال تعالي : « أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ »[10]، فإن هؤلاء المؤمنين المذكورين في الآية يجب أن يكونوا علي يقين من أن لا استقلال لشيء دون الله، و لا تأثير لسبب إلا بإذن الله حتي لا يحزنوا من مكروه واقع، و لا يخافوا محذورا محتملا، و إلا فلا معني لكونهم بحيث، لا يخوفهم شيء، و لا يحزنهم أمر، فهذا النوع من الإيمان بعد الإسلام المذكور فافهم.[11]
كما عقد السيد الطباطبائي فصلا للبحث الروائي في هذا الموضوع ،وذكر مجموعة من الروايات التي تؤيد ماذهب اليه قدس سره في التصنيف المذكور نوردها لمزيد الفائدة، وهي:
ورد في الكافي، عن سماعة عن الصادق (عليهالسلام) :" الإيمان من الإسلام بمنزلة الكعبة الحرام من الحرم قد يكون في الحرم و لا يكون في الكعبة و لا يكون في الكعبة حتي يكون في الحرم" .
و فيه ، عن سماعة أيضا عن الصادق (عليهالسلام) قال : " الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله و التصديق برسول الله، به حقنت الدماء و عليه جرت المناكح و المواريث و علي ظاهره جماعة الناس، و الإيمان الهدي و ما يثبت في القلوب من صفة الإسلام ."
أقول: و في هذا المضمون روايات أخر و هي تدل علي ما مر بيانه من المرتبة الأولي من الإسلام و الإيمان .
و فيه ، عن البرقي عن علي (عليهالسلام) : قال:" الإسلام هو التسليم و التسليم هو اليقين" .
و فيه ، عن كاهل عن الصادق : " لو أن قوما عبدوا الله وحده لا شريك له و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة، و حجوا البيت، و صاموا شهر رمضان ثم قالوا لشيء صنعه الله أو صنعه رسول الله :إلا صنع بخلاف الذي صنع، أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين" الحديث.
أقول : و الحديثان يشيران إلي المرتبة الثالثة من الإسلام و الإيمان .
و في البحار ، عن إرشاد الديلمي - و ذكر سندين لهذا الحديث - و هو من أحاديث المعراج و فيه : قال الله سبحانه : " يا أحمد هل تدري أي عيش أهني و أي حياة أبقي؟ قال: اللهم لا، قال: أما العيش الهنيء فهو الذي لا يفتر صاحبه عن ذكري و لا ينسي نعمتي، و لا يجهل حقي، يطلب رضائي في ليله و نهاره، و أما الحياة الباقية، فهي التي يعمل لنفسه حتي تهون عليه الدنيا، و تصغر في عينه، و تعظم الآخرة عنده، و يؤثر هواي علي هواه و يبتغي مرضاتي، و يعظم حق نعمتي، و يذكر عملي به، و يراقبني بالليل و النهار عند كل سيئة أو معصية، و ينقي قلبه عن كل ما أكره، و يبغض الشيطان و وساوسه، و لا يجعل لإبليس علي قلبه سلطانا و سبيلا، فإذا فعل ذلك أسكنت قلبه حبا حتي أجعل قلبه و فراغه و اشتغاله و همه و حديثه من النعمة التي أنعمت بها علي أهل محبتي من خلقي و أفتح عين قلبه و سمعه، حتي يسمع بقلبه و ينظر بقلبه إلي جلالي و عظمتي، و أضيق عليه الدنيا، و أبغض إليه ما فيها من اللذات، و أحذره من الدنيا و ما فيها كما يحذر الراعي علي غنمه مراتع الهلكة، فإذا كان هكذا يفر من الناس فرارا، و ينقل من دار الفناء إلي دار البقاء، و من دار الشيطان إلي دار الرحمن، يا أحمد و لأزيننه بالهيبة و العظمة فهذا هو العيش الهنيء و الحياة الباقية، و هذا مقام الراضين فمن عمل برضاي ألزمه ثلاث خصال أعرفه شكرا لا يخالطه الجهل، و ذكرا لا يخالطه النسيان، و محبة لا يؤثر علي محبتي محبة المخلوقين، فإذا أحبني أحببته و أفتح عين قلبه إلي جلالي، و لا أخفي عليه خاصة خلقي و أناجيه في ظلم الليل و نور النهار، حتي ينقطع حديثه مع المخلوقين، و مجالسته معهم، و أسمعه كلامي و كلام ملائكتي و أعرفه السر الذي سترته عن خلقي، و ألبسه الحياء، حتي يستحيي منه الخلق كلهم، و يمشي علي الأرض مغفورا له، و أجعل قلبه واعيا و بصيرا و لا أخفي عليه شيئا من جنة و لا نار، و أعرفه ما يمر علي الناس في القيامة من الهول و الشدة و ما أحاسب به الأغنياء و الفقراء و الجهال و العلماء، و أنومه في قبره، و أنزل عليه منكرا و نكيرا حتي يسألاه، و لا يري غم الموت، و ظلمة القبر و اللحد، و هول المطلع، ثم أنصب له ميزانه، و أنشر ديوانه، ثم أضع كتابه في يمينه فيقرؤه منشورا، ثم لا أجعل بيني و بينه و ترجمانا فهذه صفات المحبين، يا أحمد اجعل همك هما واحدا و اجعل لسانك لسانا واحدا و اجعل بدنك حيا لا يغفل أبدا من يغفل عني لم أبال في أي واد هلك" .
و في البحار ، عن الكافي ، و المعاني ، و نوادر الراوندي ، بأسانيد مختلفة عن الصادق و الكاظم (عليهماالسلام) و اللفظ المنقول هاهنا للكافي قال : استقبل رسول الله : حارثة بن مالك بن النعمان الأنصاري فقال له : " كيف أنت يا حارثة بن مالك النعماني؟" فقال: يا رسول الله مؤمن حقا ، فقال له رسول الله: " لكل شيء حقيقة فما حقيقة قولك؟" فقال يا رسول الله: عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي، و أظمأت هواجري، و كأني أنظر إلي عرش ربي و قد وضع للحساب ، و كأني أنظر إلي أهل الجنة يتزاورون في الجنة و كأني أسمع عواء أهل النار في النار، فقال رسول الله (صلياللهعليهوآلهوسلّم):" عبد نور الله قلبه أبصرت فأثبت ."
أقول : و الروايتان تحومان حول المرتبة الرابعة من الإسلام و الإيمان المذكورتين و في خصوصيات معناهما روايات كثيرة متفرقة و الآيات تؤيدها.
و اعلم أن لكل مرتبة من مراتب الإسلام و الإيمان معني من الكفر و الشرك يقابله، و من المعلوم أيضا أن الإسلام و الإيمان كلما دق معناهما و لطف مسلكهما، صعب التخلص مما يقابلهما من معني الكفر أو الشرك، و من المعلوم أيضا أن كل مرتبة من مراتب الإسلام و الإيمان الدانية، لا ينافي الكفر أو الشرك من المرتبة العالية، و ظهور آثارهما فيها، و هذان أصلان .
و يتفرع عليهما : أن للآيات القرآنية بواطن تنطبق علي موارد لا تنطبق عليها ظواهرها.[12]
اذا عرفت ذلك نقول: ان الايات المباركات ليستا بصدد التفريق بين المراتب، بل هما بصدد بيان المصداق- وهم لوط عليه السلام واسرته- ولامانع ان يجتمع في المصداق المرتبة العالية التي يتحد فيها الاسلام المطلق-اي الدرجة القصوي منه - والايمان المطلق- اي الدرجة القصوي منه-.
اما بالنسبة الي موقف الشيعة في التقسيم المذكور ففي الواقع ينبع من هذه المراتب، فلاشك ان الذي يؤمن بالتوحيد والنبوة والمعاد ويؤمن بالامامة هو في مرتبة اعلي ممن ينكر او يجهل امر الامامة قطعا، وهذا يصدق علي الشيعة انفسهم، فهناك من يعرف الامامة واهل البيت حق المعرفة وهناك من لايعرف عنها الا الشئ اليسير الذي اخذه عن تقليد.
ثم ان هذا التقسيم الذي ذكره الشيعة يعتبر – بالاضافة الي قوة مستنده العقلي والنقلي- من افضل التعابير الاخلاقية،علي خلاف غيرنا حيث ان الكثير منهم عندما يتعرضون لتقسيم الفرق ما يرون الشيعة الا روافض خارجة عن الدين وانهم من اتباع ابن سبأ وما شابه ذلك.