للعقل معان متعددة اشهرها:
الف: يطلق العقل ويراد به المجردات التامة.
ب : وتارة يطلق ويراد به المدرك للمفاهيم والماهيات الكلية( ومن الواضح انه لايوجد تفاوت بين هذا المعني والمعني الاول بل هما حقيقة واحدة فسرت اولا بلحاظ الذات وفسرت ثانيا بلحاظ الفعل).
ج: وتارة يطلق العقل ويراد به القوة المحاسبة والمفكرة التي تساعد في انتخاب الطريق ،وهذا العقل ينقسم:
1- تارة يستعمل في تحصيل وتامين الحاجات الحيوانية وتدبير تلك الامور. وهذا العقل المحصور مذموم بشدة من قبل العارفين في مقابل "العشق".
2- وتارة اخري يتحرك في افق اوسع وافضل وهو سوق الانسان وهدايته الي الحق تعالي وحسب ما جاء في الروايات" العقل ماعبد به الرحمن واكتسب به الجنان".
ثم انه من مجموع الروايات الواردة في باب "خلق العقل" يستفاد ان للعقل قوسين قوس الصعود وقوس النزول، وحسب الاصطلاح الروائي "الاقبال " و" الادبار"[1] ومع الالتفات الي مضامين الاحاديث وكلمات العلماء والمفكرين والمفسرين الكبار يفهم ان اقبال العقل الاقبال علي عالم الطبيعة ،الاجسام، والمواد وعالم الكثرة ، وفي هذا العالم يكون العقل في ادني مراتبه ، والناس يستعملونه تارة في امور معاشهم واخري في امور معادهم. وقد يستعمل العقل لحفظ التجارب وتحصيل العلوم المختلفة :"العقل حفظ التجارب"[2] اما ادبار العقل يعني الرجوع الي عالمه الاصلي وهو العقل التوحيدي والالهي[3]. ومن هنا عبر عن العقل في تلك الجهة بالعقل الاكتسابي، العقل الجزئي ، العقل البشري، العقل الدنيوي، وعبر عنه من الجهة الثانية بالعقل الاخروي ، العقل الكلي، والعقل الالهي.
كما ذكرت للعقل مجموعة من التعاريف بلحاظات متعددة ، وقد اورد صاحب كتاب التعريفات مجموعة من تلك التعريفات هي:
1- العقل : ما يعقل به حقائق الاشياء، قيل محله الراس ، وقيل محله القلب.
2- العقل الهيولاني: هو الاستعداد المحض لادراك المعقولات ، وهي قوة محضة خالية عن الفعل كما للاطفال، وانما نسب الي الهيولي لان النفس في هذه المرتبة تشبه الهيولي الاولي الخالية في حد ذاتها عن الصور كلها.
3- العقل : ماخوذ من عقال البعير ،يمنع ذوي العقول من العدول عن سواء السبيل ، والصحيح انه جوهر مجرد يدرك الغائبات بالوسائط والمحسوسات بالمشاهدة.
4- العقل بالملكة: هو علم بالضرويات، واستعداد النفس بذلك لاكتساب النظريات.
5- العقل بالفعل :هو ان تصير النظريات مخزونة عند قوة العاقلة بتكرار الاكتساب، بحيث يحصل لها ملكة الاستحضارمتي شاءت من غير تجشم كسب جديد ، لكنها لايشاهدها بالفعل.
6- العقل المستفاد: هو ان تحضر النظريات التي ادركها بحيث لا تغيب عنه[4].
وللعقل في القرآن معان كثيرة وبحسب نوع المعقول أعني نوع الشيء المراد عقله وفهمه من هذه المعاني :
1 - فهم الكلام : ] أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [ [5]. ] إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ[6] [. فبين أن السبب في جعله عربياً هو أن يفهمه ويعقله أولئك المتحدثون بهذه اللغة .
2 - عدم التناقض في القول : ] يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإِنجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ[7] [ ، فالذي يقول : إن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً كأنه يقول : إن إبراهيم كان سابقاً في وجوده لليهودية والنصرانية لكنه كان أيضاً لاحقاً لهما . وهذا كقوله - تعالي - :
] وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَي بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَي نُوراً وَهُدًي لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [[8] هذا الكلام موجه لليهود الذين يزعمون أنهم يؤمنون بنبوة موسي ؛ فكأن الآية الكريمة تقول لهم : إن من التناقض أن تقولوا : إن الله أنزل التوراة علي موسي ، ثم تقولوا : ما أنزل الله علي بشر من شيء .
3 - فهم الحجج والبراهين : ] ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ[9] [، ] قُل لَّوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [10][.
4 - موافقة القول للعمل : ] أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ[11] [، ولذلك قال النبي صالح : ] قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَي بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَي مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ[12] [. لكن تصحيح هذا التناقض إنما يكون بجعل العمل موافقاً للقول الصحيح لا العكس ؛ فالذم في هذه الآية منصب علي نسيانهم لأنفسهم لا لأمرهم بالبر ؛ لأن الأمر بالبر شيء حسن ، ولا يغير من حسنه كون الداعي إليه لا يلتزم به . وقد يأمر الإنسان به بإخلاص وإن لم يعمل به . فالذي يأمر أولاده بعدم التدخين أو عدم شرب الخمر مثلاً ، مع فعله لذلك ، خير من الذي يأمرهم بالتأسي به في فعله ، بل خير من الذي لا يأمرهم ولا ينهاهم .
5 - اختيار النافع وترك الضار سواء كان مادياً أو معنوياً : ] وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ[، ] لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ[13] [.
6 - التضحية بالمصلحة القليلة العاجلة من أجل مصلحة كبيرة آجلة : ] وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [14][، ويؤيد هذا آيات أخري لم يرد فيها ذكر العقل ، منها قوله - تعالي - : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَي الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ[15] [.
7 - استخلاص العبر الصحيحة من الحوادث : ] وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ[16] [، يشير سبحانه وتعالي هنا إلي قري قوم لوط التي قال عنها في آية أخري مبيناً عدم إدراك الكفار لمغزاها بسبب إنكارهم للبعث :
] وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَي القَرْيَةِ الَتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً[17] [ .
8 - استخلاص العبر مما جري في التاريخ : ] وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ القُرَي أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلاَ تَعْقِلُونَ[18] [.
9 - فَهْم دلالات الآيات الكونية : ] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ الَليْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَتِي تَجْرِي فِي البَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ[19] [، ] وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ[ [20].
10 - حسن معاملة الناس ولا سيما الأنبياء : ] إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ[21] [.
هذه كلها مقدرات عقلية زود الله - تعالي - بها الناس أجمعين ؛ فهم جميعاً يقرون بها ، ويرون من عدم العقل ترك الالتزام بها ؛ لكن ما كلهم يلتزم في الواقع بها . ولذلك يكفي أن ينبه من خرقها إلي أنه أتي بفعل غير عقلي كما رأينا ذلك في آيات القرآن السابقة .
لكن ينبغي أن ننبه إلي أن بيان القرآن للمسائل العقلية وإقراره لها ليس محصوراً في الآيات التي ذكرت فيها كلمة العقل ، فهنالك آيات تذكر فيها كلمات أخري تشير إلي المقدرات العقلية بذلك المعني العام الذي ذكرناه ، بل إنه يبدو أن كل سؤال استنكاري في القرآن يدل علي أن المسؤول عنه أمر بديهي ما ينبغي لذي عقل أن يماري فيه .
بل إن القرآن الكريم مليء بالآيات التي يمكن أن يتخذها المسلم موازين عقلية .
ولعل هذه هي المرادة بالمعني الثاني لمفهوم العقل ، أعني كونه علوماً يهتدي بها الإنسان .
والجدير بالذكر ان موضوع العقل وقع مدار بحث في الفكر الغربي الحديث حيث قاموا بطرح مواضيع كثيرة تفرعيات متعددة فاذا كنت راغبا بذلك اكتب لنا لنوافيك بالجواب عنها انشاء الله.