هناك بحث حول العشق في موسوعة ملا صدرا الشيرازي، ومن ضمن هذا البحث عنوان آخروهو" عشق الظرفاء و الفتيان للأوجه الحسان" فما هو مقصوده من ذلك؟ فان عباراته رحمه الله موهمة حو ل هذا الموضوع حتي اتهم بان هذا القصد والعياذ بالله ال....!! فما هو البيان لذلك جزاكم الله خيراً؟
ان هذه المسألة التي بحثها صدر الدين الشيرازي تحت عنوان" في ذكر عشق الظرفاء و الفتيان للأوجه الحسان"[1] من المسائل التي اتخذت ذريعة للتشويه بالرجل والطعن عليه، الا ان المنهج الصحيح ان تدرس القضية بصورة موضوعية بعيداً عن التهويل والتحريف في الكلام، وعلي رأس الموضوعية في البحث ان يدرس الرجل بكله لا ان يدرس بصورة مبتورة، فمن اللازم معرفة الرجل بكل ابعاده الفلسفية والايمانية ومنهج حياته وسلوكياته، وهذا ما تكفلت به الكتب التي ترجمت للرجل والتي اشارت الي مدي عظمة الرجل في هذه المجالات وخاصة العرفان والفلسفة منها[2] ونحن لسنا بصدد دخول هذا البحث من هذا الجانب، بل نكتفي بدراسة كلام الرجل دراسة موضوعية لنري ماذا يريد ان يقول، وفي الواقع اننا حتي لو فرض اننا اختلفنا مع الرجل في تحليله لفلسفة العشق والنظر اليها من زاوية خاصة، الا ان ذلك لايعني الابتعاد بكلامه الي الزاوية التي هي بعيدة كل البعد عن الاخلاق والعفة والمرؤة التي يجل الشيرازي عنها.
بعد هذه المقدمة ندخل في بحث القضية من خلال تحليل كلامه( قدس) ونحاول هنا الا نضيف شيئا الا ما تقتضيه الحاجة لتوضيح الامر، فنقول:
بعد ان اورد الشيرازي الآراء في هذه القضية حيث قال:
اعلم أنه اختلف آراء الحكماء في هذا العشق و ماهيته و أنه حسن أو قبيح، محمود أو مذموم :
فمنهم من ذمه و ذكر أنه رذيلة و ذكر مساويه، و قال: إنه من فعل البطالين و المعطلين.
و منهم من قال: إنه فضيلة نفسانية، و مدحة و ذكر محاسن أهله و شرف غايته.
و منهم من لم يقف علي ماهيته و علله و أسباب معانيه و غايته.
و منهم من زعم أنه مرض نفساني.
و منهم من قال إنه جنون إلهي.
"وبعد ان ذكر الاراء بصورة اجمالية شرع بالبحث مبينا رأيه، حيث قال:
و الذي يدل عليه النظر الدقيق و المنهج الأنيق و ملاحظة الأمور عن أسبابها الكلية و مباديها العالية و غاياتها الحكمية أن هذا العشق ... المزید.الخ".
ونحن اذا حللنا كلامه نراه يشير الي مسالة مهمة وهي:
انه رأي خاصية الميل للجمال موجودة لدي الانسان،وهذا امر ثابت بالوجدان، وهنا تساءل هل هذه القضية عبثية أم لا؟
فقال: "هو لا محالة من جملة الأوضاع الإلهية التي يترتب عليها المصالح و الحكم، فلا بد أن يكون مستحسنا محموداً، سيما و قد وقع من مباد فاضلة لأجل غايات شريفة".
وهنا تساءل مرة اخري : ما هي تلك الغايات المستحسنة والشريفة؟
فاخذ يبحث عن ذلك، فرأي ان هذه الصفة او الخاصية انما وجدت لتحقيق غاية شريفة هي الاهتمام بالبعد التربوي والتعليمي، و رأي ان هذه القضية ضرورية للتربية والتعليم حيث تشجع المعلم علي التعليم والتربية وبذل الجهد من اجل تنمية كمالات تلامذته، فقال:
"و أما الغاية في هذا العشق الموجود في الظرفاء و ذوي لطافة الطبع فلما ترتب عليه من تأديب الغلمان و تربية الصبيان و تهذيبهم و تعليمهم العلوم الجزئية كالنحو و اللغة و البيان و الهندسة و غيرها و الصنائع الدقيقة و الآداب الحميدة و الأشعار اللطيفة الموزونة و النغمات الطيبة و تعليمهم القصص و الأخبار و الحكايات الغريبة و الأحاديث المروية، إلي غير ذلك من الكمالات النفسانية، فإن الأطفال و الصبيان إذا استغنوا عن تربية الآباء و الأمهات فهم بعد محتاجون إلي تعليم الأستادين و المعلمين و حسن توجههم و التفاتهم إليهم بنظر الإشفاق و التعطف، فمن أجل ذلك أوجدت العناية الربانية في نفوس الرجال البالغين رغبة في الصبيان و تعشقا و محبة للغلمان الحسان الوجوه، ليكون ذلك داعيا لهم إلي تأديبهم و تهذيبهم و تكميل نفوسهم الناقصة و تبليغهم إلي الغايات المقصودة في إيجاد نفوسهم".
ثم من اجل رفع توهم الظنون الباطلة وسوء الظن من قبل البعض شرع بالتركيز علي مطلبين اساسيين هما:
الاول: بيان الفرق بين العشق الحقيقي والمجازي.
الثاني: بيان متي يحق للمعلم ولوج هذا الطريق.
فقال قدس سره مشيرالي الامر الاول:
"و تفصيل المقام أن العشق الإنساني ينقسم إلي حقيقي و مجازي، و العشق الحقيقي هو محبة الله و صفاته و أفعاله من حيث هي أفعاله، و المجازي ينقسم إلي نفساني و إلي حيواني، و النفساني هو الذي يكون مبدؤه مشاكلة نفس العاشق المعشوق في الجوهر، و يكون أكثر إعجابه بشمائل المعشوق، لأنها آثار صادرة عن نفسه، و الحيواني هو الذي يكون مبدؤه شهوة بدنية و طلب لذة بهيمية، و يكون أكثر إعجاب العاشق بظاهر المعشوق و لونه و إشكال أعضائه لأنها أمور بدنية.
و الأول: مما يقتضيه لطافة النفس و صفاتها.
و الثاني: مما يقتضيه النفس الأمارة، و يكون في الأكثر مقارنا للفجور و الحرص عليه، و فيه استخدام القوة الحيوانية للقوة الناطقة، بخلاف الأول فإنه يجعل النفس لينة شيقة ذات وجد و حزن و بكاء و رقة قلب و فكر، كأنها تطلب شيئا باطنيا مختفيا عن الحواس فتنقطع عن الشواغل الدنيوية و تعرض عما سوي معشوقها....."
ثم قال مشير الي الامر الثاني:
"لكن الذي يجب التنبيه عليه في هذا المقام أن هذا العشق و إن كان معدوداً من جملة الفضائل إلا أنه من الفضائل التي يتوسط الموصوف بها بين العقل المفارق المحض و بين النفس الحيوانية، و مثل هذا الفضائل لا تكون محمودة شريفة علي الإطلاق في كل وقت و علي كل حال من الأحوال و من كل أحد من الناس، بل ينبغي استعمال هذه المحبة في أواسط السلوك العرفاني و في حال ترقيق النفس و تنبيهها عن نوم الغفلة و رقدة الطبيعة و إخراجها عن بحر الشهوات الحيوانية، و أما عند استكمال النفس بالعلوم الإلهية و صيرورتها عقلا بالفعل محيطا بالعلوم الكلية ذا ملكة الاتصال بعالم القدس فلا ينبغي لها عند ذلك الاشتغال بعشق هذه الصور المحسنة اللحمية و الشمائل اللطيفة البشرية، لأن مقامها صار أرفع من هذا المقام، و لهذا قيل المجاز قنطرة الحقيقة و إذا وقع العبور من القنطرة إلي عالم الحقيقة فالرجوع إلي ما وقع العبور منه تارة أخري يكون قبيحا معدودا من الرذائل....".
والذي يمعن النظر في هذا المقطع من كلامه (قدس) يري انه يشير الي ثلاث مراحل للمعلم:
الاولي: مرحلة النفس الحيوانية، وفي هذه المرحلة لايحق للمعلم الخوض في هذا الطريق لغلبة الشهوة المادية والغرائز الحيوانية عليه،الامر الذي يؤدي به للوقوع في الرذيلة كما قال سره" و مثل هذا الفضائل لا تكون محمودة شريفة علي الإطلاق في كل وقت و علي كل حال....".
الثانية:وهي مرحلة الخروج من الحالة الحيوانية والتوسط بينها وبين العقل المفارق" يتوسط الموصوف بها بين العقل المفارق المحض و بين النفس الحيوانية" وفي هذه المرحلة يحق للمربي الاستفاد من العشق البرئ "العفيف"[3] الذي ليس للشهوة المادية فيه اثر ابداً.
المرحلة الثالثة: "مرحلة استكمال النفس بالعلوم الإلهية و صيرورتها عقلا بالفعل محيطاً بالعلوم الكلية ذا ملكة الاتصال بعالم القدس، فلا ينبغي لها عند ذلك الاشتغال بعشق هذه الصور المحسنة اللحمية و الشمائل اللطيفة البشرية، لأن مقامها صار أرفع من هذا المقام....".
هذه هي النظرة التحليلية التي يثيرها صدر المتألهين في فلسفة العشق واثرها في التربية والتعليم وكيفية اخراج فعله تعالي من العبثية في خلقها.
وسواء صحت هذه النظرية واصاب الواقع هذا التحليل ام لا، تبقي ساحة صدر المتالهين طاهرة من الشبهة التي يريد البعض اثارتها من اجل المساس بشخصية الرجل لاسباب كثيرة لسنا بصدد الحديث عنها.