logo-img
السیاسات و الشروط
منذ 3 سنوات

متى كان بناء مكة ؟!

متى كان بناء مكة ؟!


لا نستطيع أن نحدد بدقة تاريخ بناء مكة ، واتساعها حتى صارت جديرة باسم : (أم القرى) . وقد يقال : إن بدء بنائها كان قبل بناء إبراهيم (عليه السلام) للبيت ، حسبما تشير إليه بعض الروايات ، بل ويدل عليه قول الله تعالى حكاية عن إبراهيم : ﴿ ... المزید رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا ... ﴾ 1 . وعليه ، فما يحاول البعض إثباته ، من أن قصياً هو أول من بنى مكة ، وكان البيت وحيداً في الصحراء ، وكان الناس يتركونه ليلاً ، ويعودون إليه نهاراً ، بدليل أن قصياً سمي (مجمعاً) ؛ لأنه جمع القبائل حول البيت : لا يصح ، بل هو لا يدل أيضاً ؛ لأن تاريخ مكة قبل قصي خير شاهد على أنها كانت آهلة بالسكان ، معمورة ، ومعروفة ومشهورة ، نعم ربما يكون قصي قد نظم سكن القبائل في مكة بالشكل المناسب . ومهما يكن من أمر ، فإن تحديد ذلك لا يهمنا كثيراً الآن ، وما يهمنا هو التعرف على المكانة الدينية لمكة ، ومدى ارتباط قبائل العرب ، بل وغيرهم بها ، والحديث عن ذلك لا ينفصل عن الحديث عن البيت العتيق ، الذي تحتضنه مكة ، ثم عن قريش التي كان لها شرف خدمة ذلك البيت ، فنقول : ألف : بناء الكعبة : الكعبة هي أول بيت وضع للناس ببكة ، مباركاً ، وهدى للعالمين ، كما هو صريح القرآن 2 ، والمعروف المشهور هو : أن واضعه هو شيخ الأنبياء إبراهيم (عليه السلام) . ولكننا نجد في كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) ما يدل على أن البيت قد كان من لدن آدم أبي البشر (عليه السلام) ، أما إبراهيم فهو رافع قواعده ومشيد بنيانه وأركانه . قال (عليه السلام) : (ألا ترون أن الله سبحانه اختبر الأولين من لدن آدم ، صلوات الله عليه ، وإلى الآخرين من هذا العالم ، بأحجار لا تضر ولا تنفع ، ولا تبصر ولا تسمع ، فجعلها بيته الحرام ، (الذي جعله للناس قياماً) . ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً ، وأقل نتائق الدنيا مدراً ، وأضيق بطون الأودية قطراً ، بين جبال خشنة ، ورمال دمثة ، وعيون وشلة ، وقرى منقطعة ، لا يزكو بها خف ولا حافر ، ولا ظلف . ثم أمر آدم وولده : أن يثنوا أعطافهم نحوه ، فصار مثـابـة لمنتجع أسفارهم ، وغاية لملقى رحالهم ، تهوى إليه الأفئدة من مفاوز سحيقة إلخ . .) 3 . ويدل على ذلك أيضاً : روايات وردت من طرق الخاصة وغيرهم؛ فمن أرادها فليراجعها في مظانها 4 . ولعل ظاهر القرآن لا يأبى عن هذا أيضاً؛ حيث جاء التعبير فيه عن تجديد بناء إبراهيم للبيت بقوله : ﴿ ... يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ ... ﴾ 5 وهذا لا ينافي أن تكون الأسس والقواعد قد وضعت قبل ذلك ، وإبراهيم هو الذي رفع هذه القواعد ، وشيد على تلكم الأسس ، وهذا موضوع يحتاج إلى بحث وتحقيق ، نسأل الله أن يوفقنا لمعالجته في فرصة أخرى إن شاء الله تعالى . ب : دعاء إبراهيم عليه السلام : ومهما يكن من أمر ، فإن إبراهيم (عليه السلام) قد لاحظ : أن البيت الذي اختبر الله الناس به قد وضع في بقعة تكون الحياة فيها صعبة وشاقة ، كما يظهر من كلمات الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) المتقدمة؛ ولذلك فقد دعا ربه فقال : ﴿ رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ 6 . ولقد استجيبت دعوة إبراهيم (عليه السلام) ، وأصبحت مكة قبلة الآملين ، ومهوى أفئدة الصفوة من العالمين . ج : تقديس الكعبة : لقد كانت الكعبة مقدسة ومعظمة عند جميع الأمم ، فيذكر العلامة الطباطبائي قدس سره : أن الهنود يعتقدون : أن روح سيفا ، وهو الأقنوم الثالث عندهم قد حلت في الحجر الأسود ، حينما زار هو وزوجته بلاد الحجاز . والصابئة من الفرس والكلدانيون يعدون الكعبة أحد البيوت السبعة المعظمة 7 ، وربما قيل : إنها بيت زحل لقدم عهدها ، وطول بقائها . . واليهود أيضاً كانوا يعظمونها ، ويدَّعون أنهم يعبدون الله فيها على دين إبراهيم (عليه السلام) . ويقولون : إنه كان فيها تماثيل وصور ، منها تمثال إبراهيم وإسماعيل ، وبأيديهما الأزلام ، وأن فيها صورتا العذراء والمسيح ، ويشهد على ذلك تعظيم النصارى لأمرها كاليهود . وكانت العرب أيضاً تعظمها كل التعظيم ، وتعدها بيتاً لله تعالى ، وكانوا يحجون إليها من كل جهة 8 . . وستأتي كلمات أبي طالب حول هذا الأمر حين الكلام عن زواج النبي (صلى الله عليه وآله) بخديجة أم المؤمنين (عليها السلام) وقد حكى الله سبحانه هذا الأمر حينما قال : ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ... ﴾ 9 . فالكعبة إذن ، كانت مقدسة عند جميع الأمم والطوائف ، وبالأخص عند العرب ، وظلت على ذلك مدداً متطاولة في العصر الجاهلي ، ويزيد ذلك قوة ورسوخاً : أن العربي كان يعتبرها مصدر عزته ، وموضع أمله ، وكيف لا تكون كذلك ، وهو يرى أن الأمم الأخرى تنظر إليه ـ لأجلها ـ بعين الحسد والشنآن ، وتعمل على انتزاع هذا الشرف منه ، أو على التقليل من خطره وأهميته ، حتى لقد : 1 ـ أقام الغساسنة بيتاً في الحيرة في مقابلها 10 . 2 ـ وفي نجران أيضاً : أقيمت كعبة أخرى لتضاهي كعبة مكة ، يقول الأعشى : يخاطب ناقته : وكعبة نجران حتم عليك *** حتى تناخي بأعـتابهـا وكعبة نجران هذه يقال : إنها بيعة بناها بنو عبد المدان بن الديان الحارثي ، على بناء الكعبة ، وعظموها مضاهاة للكعبة ، وسموها : كعبة نجران 11 . 3 ـ وفي الشام كانت الكعبة الشامية 12 . 4 ـ وفي اليمن الكعبة اليمانية 12 . وكان رجل من جهينة قال لقومه : هلم نبني بيتاً نضاهي به الكعبة ، ونعظمه ، حتى نستميل به كثيراً من العرب ، فأعظموا ذلك وأبوا عليه 13 . ويكفي أن نذكر : أن أبرهة بن الأشرم أقام في اليمن بيتاً ، ودعا الناس إلى تعظيمه ، والحج إليه . وكتب إلى ملك الحبشة : (إني قد بنيت لك كنيسة لم يبن مثلها أحد قط ، ولست تاركاً العرب حتى أصرف حجهم عن بيتهم الذي يحجون إليه) 14 . ورغم أنه زخرفه وفرشه بأفخر ما يقدر عليه ، إلا أن ذلك لم ينفع في صرف الناس حتى اليمنيين عن الكعبة إليه ، فضلاً عن أن يصرف غيرهم أو أهل مكة عن كعبتهم ، واستمر الناس ، وأهل اليمن على الحج إلى مكة . وبعد أن تغوط أحد بني كنانة في كنيسة أبرهة ، غضب ، واندفع إلى مكة في عام الفيل وقال لعبد المطلب : إنه لا يقصد إلا هدم البيت . فأجابه : إن للبيت رباً سيمنعه ، وجرى ما جرى لأبرهة وجيشه وأنزل الله في ذلك : ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ ﴾ 15 16 . 5 ـ ويقولون : إن تبع بن حسان كان قبل ذلك قد حاول أن يهدم البيت ويحول حجارته إلى اليمن ، فيبني بها بيتاً هناك تعظمه العرب ، فدفع الله عن البيت شره وكيده 17 18 .

3