منذ سنتين

من أسلم بدعاية أبي بكر ؟!

ويذكرون : أن عدداً من كبار الصحابة قد أسلموا على يد أبي بكر ، واستجابة لدعوته ، منهم : (طلحة ، والزبير ، وسعد بن أبي وقاص ، و عبد الرحمن بن عوف ، وأبو عبيدة لجراح ، وخالد بن سعيد بن العاص ، وأبو ذر ، وعثمان بن عفان ، وأبو سلمة بن عبد الأسد ، والأرقم بن أبي الأرقم) (راجع : البداية والنهاية ج3 ص29 ، والسيرة النبوية لدحلان ج1 ص94 ـ والسيرة الحلبية ج1 ص276 وتهذيب الأسماء واللغات ج2 ص182 ، وتاريخ الإسلام للذهبي ج2 ص78 . ) . قال الجاحظ : (وقالت أسماء بنت أبي بكر : ما عرفت أبي إلا وهو يدين بالدين ، ولقد رجع إلينا يوم أسلم فدعانا إلى الإسلام ، فما دمنا حتى أسلمنا ، وأسلم أكثر جلسائه) (شرح النهج للمعتزلي ج13 ص270 وعثمانية الجاحظ ص31 .) .


ولكن ذلك كله محل شك وريب وذلك للأمور التالية: 1 ـ إنه قد تقدم ما يدل على أن إسلام أبي بكر قد كان بعد الخروج من دار الأرقم ، وبعد اشتداد الأمر بين النبي (صلى الله عليه وآله) وقريش ، وقيام أبي طالب دونه ينافح عنه ويكافح ، وهؤلاء قد أسلم أكثرهم قبل ذلك ، وذلك لأنه (صلى الله عليه وآله) قبل نزول قوله تعالى : ﴿  وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ  ﴾ 1 لم يكن مأموراً بدعوة أحد ، بل كان من يسلم إنما يسلم باختياره. ثم أمر (صلى الله عليه وآله) بدعوة عشيرته ، ثم أمر بإنذار أم القرى ومن حولها ، حتى انتهى الأمر بإنذار الناس كافة . ولكنه (صلى الله عليه وآله) لما أسلم معه من أسلم وخشي حصول بعض الصدامات لهم مع قريش اختار دار الأرقم ليصلي أصحابه فيها ، وبعد شهر أعلن بالأمر ، فلم تكن هناك سرّية في دار الأرقم بالمعنى الدقيق للكلمة . وأما الذين أسلموا قبل المواجهة مع قريش ، فنذكر منهم : زيد بن حارثة الذي أسلم ثانياً ، وفي نفس الوقت أسلم خالد بن سعيد بن العاص ، وسعد بن أبي وقاص ، وعمرو بن عبسة ، وعتبة بن غزوان ، ومصعب بن عمير 2 أما الأرقم بن أبي الأرقم فكان سابعاً 3 ، وقصة إسلام أبي ذر معروفة ، وكان إسلامه على يد النبي (صلى الله عليه وآله) نفسه ، وعلي (عليه السلام) هو الواسطة ، وسيأتي ذلك بعد صفحات يسيرة . ومن الأولين أيضاً : جعفر بن أبي طالب ، وبلال ، وخباب بن الأرت ، والزبير بن العوام ، وكل هؤلاء أسلم قبل أبي بكر ـ على حد تعبير الإسكافي في نقض العثمانية 4 . ويرى المقدسي : أن الزبير أسلم رابعاً ، أو خامساً . 2 ـ وعدا عما تقدم ، فإن أبا اليقظان خالد بن سعيد بن العاص ، كان هو نفسه يزعم : أنه أسلم قبل أبي بكر 5 . وعليه فلا يصغى لما حكاه البيهقي من أنه رأى في منامه النار ، ثم لقي أبا بكر فأخذه إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ، فأسلم 6 فإن أبا اليقظان نفسه يكذب ذلك وينكره ، وهو أعرف بنفسه من كل أحد . وأما عثمان فقد اشترط لإسلامه أن يزوجه الرسول (صلى الله عليه وآله) رقية ، ففعل ، فأسلم 7 فأين هي دعوة أبي بكر له ، والحالة هذه ؟! . ويروي المدائني عن عمر بن عثمان : أن عثمان قال : إنه دخل على خالته أروى بنت عبد المطلب يعودها ، فدخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فجعل ينظر إليه ، وقد ظهر من شأنه يومئذٍ شيء ؛ فجرى له معه (صلى الله عليه وآله) حديث ، وقرأ عليه (صلى الله عليه وآله) بعض الآيات ، ثم قام (صلى الله عليه وآله) فخرج . قال عثمان : فخرجت خلفه فأدركته ، وأسلمت 8 . فإذا أخذنا بهذه الرواية أيضاً لم يكن لأبي بكر في إسلام عثمان يد ولا نصيب . وأما سعد بن أبي وقاص ف‍ (كان سبب إسلامه : أنه رأى في المنام قال : كأني في ظلام ، فأضاء قمر ، فاتبعته ، فإذا أنا بزيد وعلي قد سبقاني إليه ، وروي : فإذا أنا بزيد وأبي بكر ، قال : ثم بلغني : أن رسول الله يدعو إلى الإسلام مستخفياً ، فلقيته بأجياد ، فأسلمت ، ورجعت إلى أمي الخ . .) 9 . وعن إسلام طلحة يقولون : إنه كان في بصرى ، فسمع خبر خروج نبي اسمه أحمد في ذلك الشهر من راهب ، فلما قدم مكة سمع الناس يقولون : تنبّى محمد بن عبد الله ، فأتى إلى أبي بكر ، فسأله فأخبره ، ثم أدخله على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأسلم ، فأخذهما نوفل بن خويلد وقرنهما بحبل ، فسميا القرينين 10 . ولكن هذه الرواية كما ترى ، لا تدل على أنه أسلم بدعوة أبي بكر إياه ، بل هي في خلاف ذلك أظهر كما هو واضح ، كما أنهم يذكرون رواية أخرى مفادها : أن طلحة ذهب بنفسه إلى رسول الله فأسلم 11 ، وأما أن أبا بكر وطلحة قد سميا القرينين فسيأتي أنه لا يصح أيضاً ؛ وذلك ضعف آخر في هذه الرواية . بل لقد كذّب علي (عليه السلام) أن يكون أحد من قريش قد عُذِّب كما سنرى فكيف يكون طلحة وأبو بكر قد عُذِبَّا ، وقُرن أحدهما إلى الآخر ؟! 3 ـ يقول الإسكافي هنا ما ملخصه : إن أبا بكر قد عجز عن إدخال أبيه ، مع أنه معه في بيت واحد ، وابنه الوحيد عبد الرحمن في الإسلام ، وبقيا على شركهما إلى عام الفتح ، وكذا الحال في أخته أم فروة ، وزوجته نملة ـ أو قتيلة ـ بنت عبد العزى ، التي فارقها حين نزل قوله تعالى : ﴿ ... وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ... ﴾ 12 ، بعد الهجرة بعدة سنين . ويمضي الإسكافي هنا فيقول : كيف استطاع أبو بكر أن يهيمن على سعد ، والزبير ، وطلحة ، و عبد الرحمن وغيرهم وهم ليسوا من أترابه ، ولا من جلسائه ، ولا كان له معهم صداقة أو مودة ، ولم يستطع أن يقنع عتبة وشيبة ابني ربيعة ، وهما من جلسائه ، بل وأكبر منه سناً ، ويأنسان إلى حديثه وطرائفه ـ كما يزعم أنصاره ـ ؟! وما له لم يدخل جبير بن مطعم في الإسلام ، وهو الذي أدبه وعلمه ، وعرفه أنساب العرب ، وقريش وطرائفها وأخبارها كما يدَّعون ؟! . وكيف لم يقبل منه عمر بن الخطاب الدخول في الإسلام في تلك الفترة ، وكان صديقه وأقرب الناس شبهاً به ، وبحالاته ، ولئن رجعتم إلى الإنصاف لتعلمن بأن إسلام هؤلاء لم يكن إلا بدعاء النبي (صلى الله عليه وآله) وعلى يديه 13 . 4 ـ وأما ما تقدم نقله عن أسماء ، فهو يقتضي أن تكون أسماء وأهل بيت أبي بكر أسبق الناس إلى الإسلام ، وقد عد ابن هشام ممن أسلم في الفترة الأولى من الدعوة بحيث يُعدّ من السابقين الأول أسماء وعائشة ابنتا أبي بكر 14 ، وعند النووي وغيره : أن عائشة قد أسلمت بعد ثمانية عشر إنساناً وأختها أسماء أسلمت بعد سبعة عشر 15 . ولكن قد فات هؤلاء : أن كل ما تقدم يكذب هذا الذي ذكروه هنا . أضف إلى ذلك : أن عمر أسماء كان حين البعثة أربع سنين على أبعد التقادير ، أما عمر عائشة فنحن نقول : إنها أيضاً كان عمرها قريباً من هذا 16 . ولكن نفس أولئك يقولون : إنها قد ولدت بعد البعثة بخمس سنين 17 ، فكيف تكونان قد أسلمتا بعد ثمانية عشر إنساناً ؟ مع أن الفترة السرية أو فقل الدعوة الإختيارية ، وعدم الإعلان ، قد انتهت بإسلام أربعين ؟! وأما جلساؤه وأهل بيته فقد تكلمنا عنهم ، ولم يبق إلا ولده محمد ، وهو إنما ولد بعد مبعث النبي (صلى الله عليه وآله) بثلاث وعشرين سنة ، أي قبل وفاته (صلى الله عليه وآله) بقليل . سر التأكيد على دور أبي بكر وأما سر التأكيد على دور أبي بكر فقد أوضحه لنا الجاحظ ، حين قال : (ولذلك قالوا : إن من أسلم بدعاء أبي بكر أكثر ممن أسلموا بالسيف ، ولم يذهبوا في ذلك إلى العدد ، بل عنوا الكثرة في القدر ، لأنه أسلم على يديه خمسة من أهل الشورى ، كلهم يصلح للخلافة ، وهم أكفاء علي (عليه السلام) ومنازعوه في الرياسة والإمامة ، فهؤلاء أكثر من جميع الناس) 18 . نعم يا جاحظ : لقد تجاوز أبو بكر كل التوقعات ، حتى لقد بزَّ النبي نفسه ، ولم يستطع وهو الرسول الأعظم أن يجاريـه في تلك الفضائل المجعولة ـ كما قدمنا ـ ولا ندري لماذا غلط جبرئيل ونزل عليه دونه! . وحسبنا هنا ما ذكرناه حول هذا الموضوع ؛ فإن استقصاء الكلام فيه يحتاج إلى جهد مضن ووقت طويل . هل عمير بن أبي وقاص من السابقين ؟! ويذكر ابن هشام هنا : أن عمير بن أبي وقاص كان من جملة السابقين إلى الإسلام 19 . ولكن ذلك لا يصح ؛ لأنهم يقولون : إن عميراً قد قتل في بدر، وله ستة عشر عاماً، فيكون عمره حين البعثة سنة واحدة 20 ؛ فكيف يكون من السابقين إذن ؟! . اسلام ابي قحافة وفي رواية : أنه لما نُبئ رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وهو ابن أربعين سنة ، صدقه أبو بكر وهو ابن ثمان وثلاثين سنة ، فلما بلغ أبو بكر أربعين سنة ، قال : ﴿ ... رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ ... ﴾ 21 22 . واستجاب الله له فأسلم والداه وأولاده كلهم . ولكن هذه الرواية لا تصح ، وذلك : أولاً : لما تقدم من أن أبا بكر إنما أسلم بعد عدة سنوات من البعثة ، وكان عمره حينئذٍ حوالي خمس وأربعين سنة . ثانياً : إن أبا قحافة إنما أسلم سنة ثمان عام الفتح 23 وأم أبي بكر أسلمت ـ كما قالوا ـ سنة ست من البعثة 24 ، وأولاد أبي بكر حالهم معلوم ، حتى إن أحدهم قد طلب مبارزة أبيه ـ أبي بكر ـ يوم أحد أو بدر ، كما سيأتي ، فكيف يقول : إنه قد أنعم الله عليه وعلى والديه بعد النبوة بسنتين ، ويطلب من الله أن يوفقه لشكر هذه النعمة ؟! . ثالثاً : إن الآية المذكورة هي التي في سورة الأحقاف رقم 15 ، لأنها هي التي ذكرت الأربعين سنة ، دون الآية التي في سورة النمل رقم 19 . وعلى هذا نقول : الأحقاف قد نزلت في المدينة ، لا في مكة ، وإسلام أبي بكر كان في مكة قبل عدة سنوات 25 .