وتذكر الروايات : أن الإسلام قد عز بعمر وأنه (صلى الله عليه وآله) قد دعا الله أن يعز الإسلام به ، بل لقد ذهبت بعض الروايات إلى اعتبار عمر من الجبارين في الجاهلية ، حيث إنه حين أشار على أبي بكر أن يتألف الناس ويرفق بهم ، قال له أبو بكر : (رجوت نصرك ، وجئتني بهذا لأنك جبار في الجاهلية ، خوار في الإسلام الخ . .) (كنز العمال ج6 ص295 .) .
ونحن نشك في صحة ذلك بل نجزم بعدم صحته ، وذلك للأمور التالية :
أ ـ إن الإسلام إذا لم يعز بأبي طالب شيخ الأبطح ، وبحمزة أسد الله وأسد رسوله ، الذي فعل برأس الشرك أبي جهل ما فعل ، وإذا لم يعز بسائر بني هاشم أصحاب العز والشرف والنجدة ، فلا يمكن أن يعز بعمر الذي كان عسيفاً (أي مملوكاً مستهاناً به) 1 مع الوليد بن المغيرة إلى الشام 2 .
لا سيما وأنه لم يكن في قبيلته سيد أصلاً 3 ، ولم تؤثر عنه في طول حياته مع النبي (صلى الله عليه وآله) أية مواقف شجاعة ، وحاسمة ، بل لم نجد له أية مبارزة ، أو عمل جريء في أي من غزواته ، رغم كثرتها وتعددها .
بل لقد رأيناه يفر في غير موضع ، كأحد ، وحنين وخيبر حسبما صرح به الجم الغفير من أهل السير ، ورواة الأثر ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
ومن الطريف هنا : ما رواه الزمخشري ، من أن أنس بن مدركة كان قد أغار على سرح قريش في الجاهلية ؛ فذهب به ، فقال له عمر في خلافته : لقد اتبعناك تلك الليلة ؛ فلو أدركناك ؟ .
فقال : لو أدركتني لم تكن للناس خليفة 4 .
والخلاصة : أنه لا يمكن أن يعز الإسلام بعمر ، الذي لم يكن له عز في نفسه ، ولا بعشيرته ، ولا شجاعة يخاف منها .
ب ـ إننا سواء قلنا : إن عمر قد أسلم قبل الحصر في الشعب أو بعده ، فإن الأمر يبقى على حاله ، لأننا لم نجد أي تفاوت في حالة المسلمين قبل وبعد إسلام عمر ، ولا لمسنا أي تحول نحو الأفضل بعد إسلامه ، بل رأينا : عكس ذلك هو الصحيح ، فمن حصر المشركين للنبي (صلى الله عليه وآله) والهاشميين في الشعب ، حتى كادوا يهلكون جوعاً ، وحتى كانوا يأكلون ورق السمر ، وأطفالهم يتضاغون جوعاً ، إلى تآمر على حياة النبي (صلى الله عليه وآله) .
ثم بعد وفاة أبي طالب (رحمه الله) لم يستطع (صلى الله عليه وآله) دخول مكة بعد عودته من الطائف إلا بعد مصاعب جمة ، لم نجد عمر ممن ساعد على حلها .
هذا كله ، عدا عن الأذايا الكثيرة التي كان أبو لهب يوجهها للنبي (صلى الله عليه وآله) باستمرار .
ج ـ وفي صحيح البخاري وغيره حول إسلام عمر : عن عبد الله بن عمر قال : بينما عمر في الدار خائفاً ، إذ جاءه العاص بن وائل السهمي ، إلى أن قال : فقال : ما بالك ؟
قال : زعم قومك أنهم سيقتلونني إن أسلمت .
قال : لا سبيل إليك ، بعد أن قالها أمنت .
ثم ذكر إرجاع العاص الناس عنه .
وأضاف الذهبي قول عمر : فعجبت من عزه 5 .
فمن يتهدده الناس بالقتل ، ويخاف ، ويختبئ في داره ، فإنه لا يكون عزيزاً ولا يعز الإسلام به ، غير أنه هو نفسه قد ارتفع بالإسلام ، وصار له شخصية وشأن ، كما سنرى .
هذا عدا عن الروايات القائلة : إن أبا جهل هو الذي أجار عمر 6 .
وعلى هذا فقد كان الأجدر : أن يدعو النبي (صلى الله عليه وآله) بأن يعز الإسلام بمن يجير عمر ، والذي يعجب الناس من عزته ، لا بعمر الخائف ، والمختبئ في بيته .
د ـ والغريب هنا : أن أحد الرجلين اللذين دعا لهما النبي (صلى الله عليه وآله) وهو أبو جهل يضربه حمزة رضوان الله عليه بقوسه أمام الملأ من قومه ، فيشجه شجة منكرة ، ولا يجرؤ على الكلام ، ثم يقتل في بدر في أول وقعة بين المسلمين والمشركين .
والرجل الآخر وهو عمر بن الخطاب يكون على خلاف توقعات النبي (صلى الله عليه وآله) ولا يستجيب الله دعاءه فيه ، حيث لم يعز الإسلام به ، كما رأينا .
مع أن النبي (صلى الله عليه وآله) يقول : (ما سألت ـ ربي ـ الله ـ شيئاً إلا أعطانيه) 7 بل لقد كانت النتيجة عكسية ، حيث يذكر عبد الرزاق :
(أنه لما جهر عمر بإسلامه اشتد ذلك على المشركين فعذبوا من المسلمين نفراً) 8 .
ه ـ لا بأس بالمقارنة بين نعيم بن عبد الله النحام العدوي ، وبين عمر بن الخطاب العدوي ؛ فقد أسلم نعيم قبل عمر ، وكان يكتم إسلامه ، ومنعه قومه لشرفه فيهم من الهجرة ، لأنه كان ينفق على أرامل بني عدي وأيتامهم .
فقالوا : (أقم عندنا على أي دين شئت ، فوالله لا يتعرض إليك أحد إلا ذهبت أنفسنا جميعاً دونك) 9 .
ويقول عروة عن بيت نعيم هذا : (ما أقدم على هذا البيت أحد من بني عدي) 10 أي لشرفه .
أما عمر ، فإن رسول الله أراد في الحديبية أن يرسله إلى مكة ؛ ليبلغ عنه رسالة إلى أشراف قريش ، تتعلق بالأمر الذي جاء له ؛ فرفض ذلك وقال :
(إني أخاف قريشاً على نفسي ، وليس بمكة من بني عدي أحد يمنعني) ثم أشار على النبي (صلى الله عليه وآله) بأن يرسل عثمان بن عفان 11 .
و ـ لقد خطب ابن عمر بنت نعيم النحام ، فرده نعيم ، وقال : (لا أدع لحمي ترباً) وزوجها من النعمان بن عدي بن نضلة 12 فنعيم يربأ بابنته عن أن تتزوج بابن عمر ، ويرى ذلك تضييعاً لها!! .
ز ـ وفي زيارة عمر للشام أيام خلافته خلع عمر خفيه ، ووضعهما على عاتقه ، وأخذ بزمام ناقته ، وخاض المخاضة فاعترض عليه أبو عبيدة ، فأجابه عمر بقوله : (إنا كنا أذل قوم ؛ فأعزنا الله بالإسلام ، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله) 13 .
وفي نص آخر عنه : (إنا قوم أعزنا الله بالإسلام ، فلن نبتغي العز بغيره) 14 .
واحتمال أن يكون مقصوده هو ذل العرب وعزهم لا خصوص بني عدي بعيد ؛ لأنه قد عنف أبا عبيدة على مقولته تلك بأن غير أبي عبيدة لو كان قال ذلك لكان له وجه ، أما أن يقوله أبو عبيدة العارف بالحال والسوابق فإنه غير مقبول منه .
هذا بالإضافة إلى ما سيأتي مما يدل على ذل بني عدي ، فانتظر .
ح ـ وقال أبو سفيان للعباس في فتح مكة ، حينما كان يستعرض الألوية ؛ فرأى عمر ، وله زجل : (يا أبا الفضل ، من هذا المتكلم ؟
قال : عمر بن الخطاب .
قال : لقد ـ أمر ـ أَمْر بني عدي بعد ـ والله ـ قلة وذلة .
فقال العباس : يا أبا سفيان ، إن الله يرفع من يشاء بما يشاء ، وإن عمر ممن رفعه الإسلام) 15 .
ط ـ تقدم قول عوف بن عطية :
وأما الأمـان بنـو عـدي *** وتيـم حيـن تزدحم الأمور
فلا تشـهد لهم فتيان حرب *** و لكن أدن من حلب وعيـر
وفي رسالة من معاوية لزياد بن أبيه يذكر فيها أمر الخلافة يقول : (ولكن الله عز وجل أخرجها من بني هاشم وصيرها إلى بني تيم بن مرة ، ثم خرجت إلى بني عدي بن كعب وليس في قريش حيان أذل منهما ولا أنذل إلخ . .) 16 .
ي ـ وقال خالد بن الوليد لعمر : (إنك ألأمها حسباً ، وأقلها عدداً ، وأخملها ذكراً . . إلى أن قال له : لئيم العنصر ما لك في قريش فخر ، قال : فأسكته خالد) 17 18 .