ورد في كتاب نهج البلاغة أن علياً « رضي الله عنه » كان يناجي ربه بهذا الدعاء : « اللهم اغفر لي ما أنت أعلم به مني ، فإن عدت فعد عليّ بالمغفرة ، اللهم اغفر لي ما وأيت (وأيت : أي وعدت . والوأي : الوعد .) من نفسي ولم تجد له وفاء عندي ، اللهم اغفر لي ما تقربت به إليك بلساني ثم خالفه قلبي ، اللهم اغفر لي رمزات الألحاظ ، وسقطات الألفاظ ، وسهوات الجنان ، وهفوات اللسان » (نهج البلاغة (شرح ابن أبي الحديد ، 6 / 176) .) . فهو « رضي الله عنه » يدعو الله بأن يغفر له ذنوبه من السهو وغيره ، وهذا ينافي ما تزعمونه له من العصمة !
بسم الله الرحمن الرحيم
وله الحمد ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين . .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . . وبعد . .
فإننا نجيب بما يلي :
أولاً : الإستغفار لا يدل على وقوع الذنب
إن الله تعالى يقول لنبيه « صلى الله عليه وآله » : ﴿ ... المزید إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾ 1 .
وقال سبحانه : ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ... ﴾ 2 .
وقال تعالى : ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ... ﴾ 3 .
ورويتم عنه « صلى الله عليه وآله » أنه قال : « إنه ليغان [ليران خ .ل] على قلبي ، فأستغفر ربي في اليوم والليلة أكثر من سبعين مرة » 4 .
وهذه الرواية مردودة عند الشيعة ، لأنها تنسب إلى النبي « صلى الله عليه وآله » ما ينافي طهارته وعصمته .
ثانياً : دعاء المعصوم واستغفاره
لا بد من الاشارة إلى النقاط التالية :
ألف : إن الله سبحانه حين شرّع أحكامه ، قد شرعها على البشر كلهم ، على النبي والوصي المعصوم ، وعلى الإنسان العادي غير المعصوم ، وعلى العالم والجاهل ، وعلى الكبير الطاعن في السن والشاب في مقتبل العمر ، وعلى المرأة والرجل ، وعلى العربي والأعجمي ، وعلى العادل والفاسق .
فيجب على الجميع الصلاة والزكاة والحج ، والصدق والأمانة ، ويستحب لهم الدعاء في أوقات مخصوصة ، أو مطلقاً . . و . . و . . الخ . . وقد رتبت على كثير من التشريعات مثوبات ، وعلى مخالفتها عقوبات . . ينالها الجميع ، وتنال الجميع بدون استثناء أيضاً . حتى لو لم يفهموا معاني ألفاظها ، ولم يدركوا عمق مراميها ، كما لو كانوا لا يعرفون لغة العرب ، أو كانوا أميين لم يستضيئوا بنور العلم .
فالثواب المرسوم لمن سبّح تسبيحة الزهراء « عليها السلام » هو كذا حسنة . فكل من قام بهذا العمل بشروطه استحق هذه الحسنات .
كما أن لهذه العبادات آثاراً خاصة تترتب على مجرد قراءتها ، حتى لو لم يفهم قارؤوها معاني كلماتها ، فمن قرأ آخر سورة الكهف مثلاً ، وأضمر الإستيقاظ لصلاة الصبح في الساعة الفلانية ، فإن الإستيقاظ سيتحقق ، كما أن من كتب نصاً بعينه ، كالسورة الفلانية ، أو الدعاء الفلاني يشفي من الحالة الكذائية ، فإن الشفاء يتحقق .
كما أن المعراجية للمؤمن المترتبة على الصلاة في قوله « عليه السلام » : الصلاة معراج المؤمن . أو القربانية في قوله « عليه السلام » : الصلاة قربان كل تقي . سوف تتحقق بالصلاة حتى لو لم يفهم المصلي معاني كلماتها ، ومرامي حركاتها ، فإن نفس هذا الاتصال بالله سبحانه بطريقة معينة ومحددة على شكل صلاة أو زيارة ، أو تسبيح وغير ذلك مما شرعه الله سبحانه ، يحقق هذه الآثار ، ويقود إليها ، إذا كان مع نية القربة ، وظهور الانقياد والتعبد لله سبحانه ، وفق تلك الكيفيات المرسومة من قبله تعالى ، وذلك يحقق غرضاً تربوياً ، وإيحائياً تلقينياً يريد الله سبحانه له أن يتحقق .
ولأجل ذلك نجد : أن النبي « صلى الله عليه وآله » يقول : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته .
ويقول في الأذان والإقامة :
أشهد أن محمداً رسول الله . . ويقول ذلك غيره . . لكي يحصل على ثوابهما ، وثواب الصلاة وآثارها بالإتيان بكل ما هو مرسوم فيها . . ومنه : أشهد أن محمداً رسول الله .
والرجل والمرأة يقرآن في دعاء واحد : ومن الحور العين برحمتك فزوّجنا . . ولا يعني ذلك : أن تقصد المرأة مضمون هذه الفقرة بالذات ، وبصورة تفصيلية ، بل هي تقصد الإتيان بالمرسوم والمقرر .
وإذا سألت : هل يعقل أن تكون صلاة النبي « صلى الله عليه وآله » والولي « عليه السلام » كصلاة أي إنسان عادي آخر من حيث ثوابها ، وتأثيراتها ؟
فإن الجواب هو : أن التفاوت إنما يكون فيما ينضم لذلك المرسوم من حالات الإخلاص ، أو ما يصاحبه من تعب وجهد ونصب ، فالثواب إنما هو بإزاء خصوصية إضافية (كالخشية) التي أنتجتها عوامل أخرى كمعرفة الله سبحانه ، وكمال العقل ، والسيطرة على الشهوات والميول . . أو أي جهد آخر إضافي قد بذله العبد ، ووعد الله عليه بالمثوبة المناسبة له على اعتبار : أن أفضل الأعمال أحمزها . .
فاتضح مما تقدم : أن إتيان المعصوم بالعبادات المرسومة ، ومنها الأدعية لا يستلزم أن يكون قد أصبح موضعاً لكل ما فيها من دلالات ، فلا يكون استغفاره دليلاً على وقوع الذنب منه .
ب : يقول بعض المهتمين بقضايا العلم : إن أجهزة جسم الإنسان تقوم بوظائف لو أردنا نحن أن نوجدها بوسائلنا البشرية لاحتجنا ربما إلى رصف الكرة الأرضية بأسرها بالأجهزة والمصانع . هذا على الرغم من أنه إنما يتحدَّث عن وظائف الجسد وخلاياه التي اكتشفت ، مع أنه لم يتم اكتشاف الكثير الكثير منها حتى الآن فضلاً عن سائر جهات وجود هذا الإنسان .
فالله سبحانه يفيض الوجود والطاقة والحيوية على كل أجهزة هذا الجسد وخلاياه لحظة فلحظة . وهذه الفيوضات وطبيعة المهام التي تنتج عنها ، وكل هذا التنوع وهذه التفاصيل المحيرة تشير إلى عظمة مبدعها في علمه وفي إحاطته ، وفي حكمته ، وفي تدبيره ، وفي غناه ، وفي قدرته ووو . .
فإذا كان النبي والولي المعصومان يدركان هذه النعم التي لولا الله سبحانه لاحتجنا لإنجازها إلى أجهزة تغلف الأرض بكثرتها .
ويعرف أيضاً : بعمق أنه المحل الأعظم لتلك النعم ، ويعرف عظمتها وتنوعها في مختلف جهات وجوده وأهميتها وطاقاتها ، ويستثمرها كلها في طاعة الله ويجد ويحس بآثارها في جسده ، وفي روحه ونفسه ، وكيف أن كل ذرّة في الكون مسخرة لأجله ، ولأجل البشر كلهم حسبما صرّح به القرآن الكريم ، ويعرف الكثير من أسرار ملكوت الله سبحانه . .
إذا كان الأمر كذلك ، فأن النبي والولي يحس أكثر من كل أحد بقيمة وعظمة واتساع النعم التي يفيضها الله عليه .
فلا غرو إذن ، أن يرى نفسه ـ مهما فعل ـ مقصراً لعدم قيامه بواجب الشكر لذلك المنعم العظيم . . بل يرى نفسه مذنباً في ذلك . . ثم هو يبكي ، ويبكي من أجل ذلك ، ولا يكف عن بذل الجهد ، وحين يقال :
يا رسول الله ما يبكيك ، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك ، وما تأخر ؟! نجده يقول : أفلا أكون عبداً شكوراً .
ونوضح ذلك بالمثال ، فنقول :
إن من يريد تقديم هدية لسلطان أو ملك ، فإنه قد لا يجد فيما يقدمه ما يناسب جلال السلطان ، وأبهة الملك ، فيرى نفسه مقصراً فيما قدّمه إليه . . بل ومذنباً في حقه حيث قدم له ما لا يليق . . تماماً كما كان لسان حال القبّرة التي أهدت لسليمان جرادة كانت في فيها ، ولأن الهدايا على مقدار مهديها .
وواضح : أن حال المعصوم مع الله تختلف عن حالنا ، فهو يعرف الله حق معرفته ، ولأجل ذلك فإن عبادته له ليست خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته ، بل لأنه يراه أهلاً للعبادة ، فهو يعبده عبادة العارفين ، والعالمين . . كما أنه يعرف أيضاً أن موقعه يجب أن يكون موقع العبودية التامة ، والخالصة ، لأنه واقف على حقيقة ذاته في ضعفه ، وفي واقع قدراته ، وحقيقة حاجته إليه في كل شيء ، وكل آن . . ويرى نفسه مذنباً في هذا التقصير . . ولا بد أن تنتابه الخشية من فقدان لطف الله به ، وهتك العصم التي يكون بها قوته وثباته ، ثم قطع الرجاء ، وحبس الدعاء الخ . . كما ورد في دعاء كميل المروي عن علي « عليه السلام » .
ج : وبتقريب ثالث نقول : إن نسيج الأدعية والأذكار حين يراد له أن يكون دعاءً أو ذكراً مرسوماً للبشر كلهم بجميع فئاتهم ، ومختلف طبقاتهم ، ويلائم جميع حالاتهم ، وتوجهاتهم ، لا بد أن يكون بحيث يتسع لتطبيقات عامة ومتنوعة ، يجمعها نظام المعنى العام .
ويساعد على اتساع نطاق تلك التطبيقات ، ويزيد في تنوعها مدى المعرفة بمقام الألوهية ، ومعرفة أيادي الله تعالى ونعمه ، وأسرار خلقه وخليقته تبارك وتعالى وما إلى ذلك . . من جهة . . ثم معرفة الإنسان بنفسه ، وبموقعه ، وحالاته من جهة أخرى .
فبملاحظة هذا وذاك يجد المعصوم نفسه ـ نبياً كان أو إماماً ـ في موقع التقصير ، ويستشعر من ثم المزيد من الذل والخشية ، والخشوع له تعالى .
فالقاتل والسارق والكذاب حين يستغفر الله ويتوب إليه ، فإنما يستغفر ويتوب من هذه الذنوب التي يشعر بلزوم التخلص من تبعاتها ، ويرى أنها هي التي تحبس الدعاء ، وتنزل عليه البلاء ، وتهتك العصم التي تعصمه ، ويعتصم بها ، وتوجب حلول النقم به .
أما من ارتكب بعض الذنوب الصغائر ، كالنظر إلى الأجنبية ، أو انه سلب نملة جلب شعيرة ، أو لم يهتم بمؤمن بحسب ما يليق بشأنه . . وما إلى ذلك . .
فإنه يستغفر الله ويتوب من مثل هذه الذنوب أيضاً ، ويرى أنها هي التي تحبس دعاءه ، وتهتك العصم التي تعصمه ويعتصم بها ، وتحل النقم به من أجلها .
وهناك نوع آخر من الناس لم يقترف ذنباً صغيراً ولا كبيراً ، ولكنه يتهم نفسه أنه يقصّر في الخشوع والتذلل لله سبحانه ، ولا يجد في نفسه التوجه الكافي إلى الله في دعائه وابتهاله ، فإنه يجد نفسه في موقع المذنب مع ربه ، والعاقّ لسيده ، والمستهتر بمولاه . وهذه ذنوب كبيرة بنظره ، لا بد له من التوبة والاستغفار منها . . وهي قد توجب عنده هتك العصم التي اعتصم بها ، وحلول النقم ، وحبس الدعاء ، وقطع الرجاء ، وما إلى ذلك .
أما حين يبلغ في معرفته بالله سبحانه مقامات سامية ، كما هو الحال بالنسبة لأمير المؤمنين « عليه السلام » ، أو بالنسبة لرسول رب العالمين ، فإنه لا يجد في شيء مما يقوم به من عبادة ودعاء وابتهال : أنه يليق بمقام العزة الإلهية .
فقد روي : أن أمير المؤمنين « عليه السلام » قال : ألم تعلموا أن لله عباداً قد أسكتتهم خشيته من غير عي ولا بكم ؟! وأنهم هم الفصحاء البلغاء الألباء ، العالمون بالله وأيامه ؟! ولكنهم إذا ذكروا عظمة الله انكسرت ألسنتهم ، وانقطعت أفئدتهم ، وطاشت عقولهم ، وتاهت حلومهم ، إعزازا لله وإعظاماً وإجلالاً ، فإذا أفاقوا من ذلك استبقوا إلى الله بالأعمال الزاكية ، يعدون أنفسهم مع الظالمين والخاطئين ، وأنهم برآء من المقصرين والمفرطين .
ألا إنهم لا يرضون الله بالقليل ، ولا يستكثرون لله الكثير ، ولا يدلون عليه بالأعمال ، فهم إذا رأيتهم مهيمون مروعون ، خائفون ، مشفقون ، وجلون الخ . . 5 .
بل هو يعد الالتفات إلى أصل المأكل والمشرب ، والاقتصار على مثل هذه الطاعات تقصيراً خطيراً يحتاج إلى الخروج عنه إلى ما هو أسمى وأسنى ، وأوفق بجلال وعظمة الله سبحانه ، وبنعمه وبفضله وإحسانه وكرمه . .
وهذا التقصير ـ بنظره ـ ينتهي إلى الحرمان من النعم الجلّى ، التي يترصّدها ، حينما لا يصل في عبادته إلى درجات تؤهله لتقبلها .
أو ينتهي إلى حجب دعائه عن أن يستنزل العطايا الأعظم والأفخم ، أو يرتفع به إلى مقامات أجل وأسمى يطمع بها ، ويطمح إليها . .
وبعبارة أخرى : إنهم يرون : أن عملهم هو من القلّة والقصور بحدٍ قد يوجب حجب الدعاء ، من حيث أنه غير قادر على النهوض بهم بصورة أسرع وأتم ليفتح لهم تلك الآفاق التي يطمحون لارتيادها ، ما دام أن شوقهم إلى لقاء الله يذكي الطموح إلى طي تلك المنازل بأسرع مما يمكن تصوره .
فما يستغفر منه الأنبياء والأوصياء ، وما يعتبرونه ذنباً وجرماً . . إنما هو في دائرة نيل أعلى مراتب القرب والرضا ، وأعظم تجليات الألطاف الإلهية . . لأن كل مرتبة تالية تكون كمالاً بالنسبة لما سبقها ، وفي هذه الدائرة بالذات يكون تغيير النعم ، ونزول النقم ، وهتك العصم الخ . . أي بحسب ما يتناسب مع الغايات التي هي محطّ نظرهم « عليهم السلام » .
والخلاصة : إن كل فئة من هؤلاء إنما تقصد الاستغفار والتوبة تطبيقاً للمعنى الذي يناسب حالها ، وموقعها ، ووعيها ، وطموحاتها ، وخصوصيات شخصيتها ، وحياتها وفكرها ، وواقعها الذي تعيشه ، فهم يقرأون الأدعية ويفهمونها ، ويقصدون من تطبيقات معانيها ما يناسب حال كل منهم ، وينسجم مع معارفهم ، وطموحاتهم . . ولكنها على كل حال أدعية مرسومة على البشر كلهم ، وللبشر كلهم كما قلنا .
د : إن من الواضح : أن الذنوب المشار إليها في الأدعية لم يرتكبها الداعي غير المعصوم جميعاً ، فكيف إذا كان هذا الداعي هو المعصوم ؟!
هـ : يقول بعض العلماء : إن المراد بالمغفرة في بعض نصوص الأدعية ، خصوصاً بالنسبة إلى المعصوم ، هو مرحلة دفع المعصية عنه ، لا رفع آثارها بعد وقوعها . .
كما أن الطلب والدعاء في موارد كثيرة قد يكون وارداً على طريقة الفرض والتقدير ، بمعنى أنه يعلن أن لطف الله سبحانه هو الحافظ ، والعاصم له . . ولكن المعصوم يفرض ذلك واقعاً منه لا محالة إلا أن يكفي الله بلطف منه ، فهو على حد قول أمير المؤمنين « عليه السلام » . .
« لست بفوق أن أخطئ ولا آمن ذلك من فعلي ، إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني » 6 .
والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله . . 7 .