منذ سنتين

هل النبي يحتاج الى رأي احد ؟!

ويقولون : إن النبي «صلى الله عليه وآله» قد شاور أصحابه في أكثر من مرة ومناسبة ، حتى نزل في مناسبة حرب أحد قوله تعالى : ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ * إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ... ﴾ . وعن ابن عباس بسند حسن : لما نزلت : ﴿ ... وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ... ﴾ ، قال رسول الله «صلى الله عليه وآله» : أما إن الله ورسوله لغنيان عنها ، ولكن جعلها الله رحمة لأمتي ؛ فمن استشار منهم لم يعدم رشداً ، ومن تركها لم يعدم غياً (الدر المنثور ج2 ص80 عن ابن عدي ، والبيهقي في شعب الايمان .). والسؤال هنا هو : إنه إذا كان الله ورسوله غنيين عنها ، فلماذا يأمر الله تعالى نبيه بأن يشاور أصحابه في الأمر ؟! . وسؤال آخر ، وهو : هل يمكن بضم الآية التي في سورة الشورى : ﴿ ... وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ ... ﴾ ، وبضم سائر الروايات التي تحث على الاستشارة ـ هل يمكن ـ أن نفهم من ذلك : ضرورة اتخاذ الشورى كمبدأ في الحكم والسياسة ، وفي الإدارة ، وفي سائر الموارد والمواقف ، حسبما تريد بعض الفئات أن تتبناه ، وتوحي به على أنه أصل إسلامي أصيل ومطرد ؟! .


الجواب عن السؤال الأول أما الجواب عن السؤال الأول : فنحسب أن ما تقدم في الجزء السابق من هذا الكتاب في فصل سرايا وغزوات قبل بدر ، وكذا ما تقدم من الكلام حول الشورى في بدر 1 كاف فيه ، ونزيد هنا تأييداً لما ذكرناه هناك ما يلي : 1 ـ قد يقال : إن بعض الروايات تفيد : أن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يكن يستشير أصحابه إلا في أمر الحرب . فقد روي بسند رجاله ثقات ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : كتب أبو بكر إلى عمرو بن العاص : إن رسول الله شاور في الحرب ، فعليك به 2 . وإن كنا نرى : أن هذا لا يفيد نفي استشارته «صلى الله عليه وآله» في غير الحرب . 2 ـ إن قوله تعالى في سورة آل عمران : ﴿ ... وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ... ﴾ 3 خاص بالمشاورة في الحرب ، لأن اللام في الآية ليست للجنس بحيث تشمل كل أمر ، بل هي للعهد ، أي شاورهم في هذا الأمر الذي يجري الحديث عنه ، وهو أمر الحرب ، كما هو واضح من الآيات السابقة واللاحقة ؛ فالتعدي إلى غير الحرب يحتاج إلى دليل . 3 ـ إن الآية تنص على أن استشارة النبي «صلى الله عليه وآله» لأصحابه لا تعني أن يأخذ برأيهم حتى ولو اجتمعوا عليه ؛ لأنها تنص على أن اتخاذ القرار النهائي يرجع إلى النبي «صلى الله عليه وآله» نفسه ، حيث قال تعالى : ﴿ ... وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ... ﴾ 3 . 4 ـ لقد ذكر العلامة السيد عبد المحسن فضل الله «رحمه الله» : أن الأمر في الآية ليس للوجوب ؛ وإلا لكانت بقية الأوامر في الآية كذلك ، ويلزم منه وجوب العفو عن كبائرهم حتى الشرك . وإذا كان الضمير في الآية يرجع إلى الفارين فهو يعني : أن الشورى تكون لأهل الكبائر من أمته ، مع أن الله قد نهى رسوله عن إطاعة الآثم ، والكفور ، ومن أغفل الله قلبه 4 . فالحق : أن الأمر وارد عقيب توهم الحظر عن مشاورة هؤلاء ، ليبيح مشاورتهم ، ومعاملتهم معاملة طبيعية 5 . 5 ـ إن رواية ابن عباس المتقدمة تفيد : أن استشارته «صلى الله عليه وآله» أصحابه لا قيمة لها على صعيد اتخاذ القرار ؛ لأن الله ورسوله غنيان عنها ، لأنهما يعرفان صواب الآراء من خطئها ، فلا تزيدهما الاستشارة علماً ، ولا ترفع جهلاً ، وإنما هي أمر تعليمي أخلاقي للأمة ؛ بملاحظة فوائد المشورة لهم ؛ لأنها تهدف إلى الإمعان في استخراج صواب الرأي بمراجعة العقول المختلفة . فعن علي أمير المؤمنين «عليه السلام» : من استبد برأيه هلك ، ومن شاور الرجال شاركها في عقولها 6 . وعنه أيضاً : الاستشارة عين الهداية ، وقد خاطر من استغنى برأيه 7 . وعن أنس عن النبي «صلى الله عليه وآله» : ما خاب من استخار ، وما ندم من استشار 8 . إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه . وإذا كانت الاستشارة أمراً تعليمياً أخلاقياً ، فلا محذور على الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» فيها . من أهداف استشارته صلى الله عليه و آله لأصحابه يقول الشهيد السعيد ، الشيخ مرتضى مطهري ، قدس الله نفسه الزكية : إن النبي «صلى الله عليه وآله» وهو في مقام النبوة ، وفي حين كان أصحابه يتفانون في سبيله ، حتى ليقولون له : إنه لو أمرهم بأن يلقوا أنفسهم في البحر لفعلوا ، فإنه لا يريد أن ينفرد في اتخاذ القرار ، لأن أقل مضار ذلك هو أن لا يشعر أتباعه بأن لهم شخصيتهم وفكرهم المتميز ، فهو حين يتجاهلهم كأنه يقول لهم : إنهم لا يملكون الفكر والفهم والشعور الكافي ، وإنما هم مجرد آلة تنفيذ لا أكثر ولا أقل ، وهو فقط يملك حرية إصدار القرار ، والتفكير فيه دونهم . وطبيعي أن ينعكس ذلك على الأجيال بعده «صلى الله عليه وآله» ، فكل حاكم يأتي سوف يستبد بالقرار ، وسيقهر الناس على الانصياع لإرادته ، مهما كانت ، وذلك بحجة أن له في رسول الله «صلى الله عليه وآله» أسوة حسنة . مع أنه ليس من لوازم الحكم ، الاستبداد بالرأي ، فقد استشار النبي «صلى الله عليه وآله» ـ وهو معصوم ـ أصحابه في بدر وأحد 9 انتهى . ونزيد نحن هنا : أن ظروف وأجواء آية : ﴿ ... وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ... ﴾ 3 تشعر بأنه قد كان ثمة حاجة لتأليف الناس حينئذٍ ، وجلب محبتهم وثقتهم ، وإظهار العطف والليونة معهم ، وأن لا يفرض الرأي عليهم فرضاً ، رحمة لهم ، وحفاظاً على وحدتهم واجتماعهم ، ولمّ شعثهم ، وجمع كلمتهم ، وكبح جماحهم ؟! فالآية تقول : ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ... ﴾ 3 . فكأنه كان قد بدر من أصحابه أمر سيء يستدعي العفو عنهم واللين معهم ، وإرجاع الاعتبار إليهم ، ليطمئنوا إلى أن ما بدر منهم لم يؤثر على مكانتهم عنده ، فلا داعي لنفورهم منه . يضاف إلى ذلك : أنه حين يكون الأمر مرتبطاً بالحرب ، فإن الأمر يحتاج إلى قناعة تامة بها ، واستعداد لتحمل نتائجها ، وإقـدام عليها بمحض الإدارة والإختبار من دون ممارسة أي إكراه أو إجبار في ذلك . . هذا كله ، عدا عما قدمناه حين الكلام على بدر ، وعلى السرايا التي سبقتها ، في الجزء السابق من هذا الكتاب ، فليراجع . الجواب عن السؤال الثاني نشير إلى ما يلي : 1 ـ ما قدمناه : من أن قوله تعالى : ﴿ ... وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ ... ﴾ 10 ليس إلا أمراً تعليمياً أخلاقياً ، وليس إلزامياً يوجب التخلف عنه العقاب ، وإنما يمكن أن يوجب وقوع الإنسان في بعض الأخطاء ، فيكون عليه أن يتحمل آثارها ، ويعاني من نتائجها . 2 ـ إن الضمير في ﴿ ... وَأَمْرُهُمْ ... ﴾ 10 يرجع إلى المؤمنين ، والمراد به الأمر الذي يرتبط بهم ؛ فالشورى إنما هي في الأمور التي ترجع إلى المؤمنين وشؤونهم الخاصة بهم ، وليس للشرع فيها إلزام أو مدخلية ، كما في أمور معاشهم ونحوها ، مما يفترض في الإنسان أن يقوم به . أما إذا كان ثمة الزام شرعي ف‍ـ ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ... ﴾ 11 ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ... ﴾ 12 . فمورد الحكم ، والسياسة ، والإدارة ، وغير ذلك ، لا يمكن أن يكون شورائياً إلا إذا ثبت أن الشارع ليس له فيه حكم ، ونظر خاص . وقد قال العلامة الطباطبائي «رحمه الله» : «والروايات في المشاورة كثيرة جداً ، وموردها ما يجوز للمستشير فعله وتركه بحسب المرجحات . وأما الأحكام الإلهية الثابتة ، فلا مورد للاستشارة فيها ، كما لا رخصة فيها لأحد ، وإلا كان اختلاف الحوادث الجارية ناسخاً لكلام الله تعالى» 13 . 3 ـ قوله تعالى : ﴿ ... وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ... ﴾ 3 ظاهر في كون ذلك في ظرف كونه حاكماً ووالياً عليهم ؛ فإن عليه أن يستشيرهم في هذا الظرف . وهذا لا يعني أبداً أن يكون نفس الحكم شورائياً وانتخابياً ، بأي وجه . هذا كله ، عدا عن احتمال أن يكون هذا الأمر وارداً في مقام توهم الحظر ، فلا يدل على أكثر من إباحة المشاورة ، ولا يدل على الإلزام بها . وهو احتمال قوي كما أوضحناه في ما سبق . 4 ـ إن القرار النهائي يتخذه المستشير نفسه ، ولربما وافق رأي الأكثر ، ولربما خالفهم . ويدل على ذلك قوله تعالى : ﴿ ... فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ... ﴾ 3 . وليس في الآية إلزام برأي الأكثرية ، بل ولا برأي الكل لو حصل إجماعهم على رأي واحد . 5 ـ إن هذه الشورى التي دل عليها قوله تعالى : ﴿ ... وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ ... ﴾ 10 ليست لكل أحد ، وإنما هي خاصة بأولئك المؤمنين الذين لهم تلك الصفات المذكورة في الآيات قبل وبعد هذه العبارة ، وليس ثمة ما يدل على تعميمها لغيرهم ، بل ربما يقال بعدم التعميم قطعاً ، فقد قال تعالى : ﴿ فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ * وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ﴾ 14 . فهؤلاء الذين صرحت الآيات بإيمانهم وبحيازتهم لهذه الصفات ، هم أهل الشورى دون أحد سواهم 15 ، وليس لغيرهم الحق في أن يشاركهم فيها ، لأن ذلك الغير ، لا يؤمن على نفسه ، فكيف يؤمن على مصالح العباد ، ودمائهم ، وأموالهم ، وأعراضهم ؟! . واللافت : أننا لا نجد لعلي «عليه السلام» أي حضور في مواقع الاعتراض أو الاقتراح على رسول الله «صلى الله عليه وآله» ، لأنه كان دائماً في موقع التسليم لرسول الله ، والرضا بما يرضاه صلوات الله وسلامه عليهما 16 .