منذ 3 سنوات

الالتفات و تنوع الكلام

ممّا أُخذ على القرآن: عدم نَسجه على منوالٍ واحد، فهناك ظاهرة الالتفات وتنوّع الخطاب والانتقال والرجوع والقطع والوصل... وإلى أمثال ذلك من التنقّل الكلامي، زَعَموا أنّه قد يُشوّش على القارئ فهم المعاني! (هاشم العربي محلق ترجمة كتاب الإسلام، ص423).


لكنّه جهلٌ بأساليب البديع من كلام العرب، وما ذاك الالتفات وهذا التنقّل في الخطاب إلاّ تطريةً في الكلام، تزيد في نشاط السامعين وتسترعي انتباههم لفهم مناحي الكلام أكثر وأنشط. والشيء الذي أَغَفلوه أنّهم حَسِبوا من صياغة القرآن أنّها صياغة كتاب، في حين أنّها صياغة خطاب. محتويات   ﴿ ... المزید قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ... ﴾ ﴿ ... حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ... ﴾ ﴿ ... أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا ... ﴾ ﴿ ... إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ... ﴾ ﴿ ... وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ﴾ موارد زَعَموا فيها مخالفات في عَودِ الضمير! تغليب جانب ذوي العقول استعارة تخييليّة مُثنّى يُراد به الجماعات جمعٌ يراد به الاثنان فما فوق إنّ لصياغة الكتاب مُمَيزّات تختلف عن مُمَيّزات صياغة الخطاب، فقضيّة الجري على منوالٍ واحد هي خاصّة بصياغة الكتاب، أمّا التنوّع والتنقّل والالتفات فهي من خاصّة صياغة الخطاب، سواء أكان نَظماً أم نَثراً، فلا يتقيّد الناطق بالاطّراد في سياقٍ واحد، بل له الانتقال والتحوّل أثناء الكلام حسبما ساقته دلائل المقام. فهذا عزيز مصر ـ ينقل كلامه القرآن حينما واجه امرأته ويوسف على حالة استنكرها ـ يقول: ﴿  يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَٰذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ  ﴾ 1 ، فيُخاطب يوسف أَوّلاً، ثُمَّ يَلتفت إلى امرأته يُوبّخها. وكِلا الخطابَين مُنساق في نسقٍ واحد ولكن في واجهتَين، وقد نَقله القرآن على شاكلته الأُولى. والقرآن كلّه من هذا القبيل؛ لأنّه كلام اللّه واجه به عباده في صياغة خطاب ولم ينزل في صياغة كتاب؛ ومِن ثَمَّ كانت فيه هذه الكثرة من الالتفات والتنقّل في الكلام، الأمر الذي زادَ في طرواته وزانَ في طُلاوته. يقول تعالى: ﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ 2 . يبتدئ الكلام بالخطاب مع الرسول ويتحوّل مِن فوره إلى مواجهة المؤمنين. ثُمَّ الضماير المتتابعة الثلاثة ﴿ ... وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ ... ﴾ 3 يعود الأَوّلان منها إلى النبيّ والثالث إلى اللّه! وهذا من مداورة الكلام مِن وِجهةٍ إلى وِجهة، ويُعدُّ من أَلطف صُنع البديع. ولا يخفى أنّ مِثل هذا لا يدخل في متشابه الكلام بعد معروفيّة مراجع الضمائر لدى المخاطبينَ النابهينَ، وهو من حُسن الوجازة وظريف البيان (في ظاهر إبهام وواقع إحكام) سهلاً ممتنعاً يكسو الكلام حلاوةً مُمتعة. فبدلاً من أن يكون الكلام مشوَّهاً مضطرب المفاد ـ حسبما رَاقه المُتعرّب المتكلّف ـ أصبح حلواً سائغاً يستلذّه المستمع النبيه. ومِثله في القرآن كثير ويكون من لطيف صُنع البديع. وبديعةُ الالتفات كانت غرّة البدائع التي ازدان بها كلام ربّ العالمينَ، وقد بحثنا عنها وعن أنواع ظرائفها عند البحث عن روائع فنون بدائع كلامه تعالى (في المجلّد الخامس من التمهيد)، ونبّهنا هناك على أنّه لابدّ في كلّ التفاتة من فائدة رائعة وراء تَطرية الكلام والتفنّن فيه لتزيده رَونقاً فوق روعته، وأَتينا بأَمثلة لذلك. وهنا ـ في الآية الّتي تَمثّل بها المُتكلّف من سورة يونس ـ نقول: إنّه يزيد مبالغةً في الاستنكار: قال تعالى: ﴿ وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا ... ﴾ 4 . يعني: أنّ أُولئك الكَفَرة الجُحُود إذا كشف اللّه عنهم ضرَّهم، فبدلاً من أنْ يشكروا، تَراهم يكفرون نعمةَ اللّه، ويحاولون تغطيتها بأنواع الملتبسات... فيُمثّل لذلك ركوبهم البحر ومواجهة الطوفان: ﴿ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّىٰ إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ ... ﴾ 5 . فبدأ يواجههم في الخطاب، لكنّه في الأثناء يُغيّر وِجهة الكلام إلى التكلّم عن غائبينَ؛ ليُحوّل وِجهة السامعين من كونهم مخاطبينَ إلى كونهم ناظرينَ مستمعين، وذلك للتمكّن في نفوسهم من استقباح ما يشهدونه من فضيع الحال وشنيع المَآل، فيلمسوا قَباحة العمل وهم يرونه مِن كَثَب، فيكونوا هم الحاكمينَ على فعالهم بالتقبيح. قال الزمخشري: ما فائدة صرف الكلام عن الخطاب إلى الغَيبَة؟ قال: المبالغة، كأنّه يذكر لغيرهم حالهم؛ ليُعجبهم منها ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح 6 . وذلك لأنّ القبيح من الغير يبدو أقبح ممّا لو ذُكر عن النفس. وهكذا التنقّل من شأن إلى شأن كان من خاصّيّة الكلام إذا كان خطاباً لا كتاباً، يتنقّل فيه المتكلّم من حالٍ إلى حال، وربّما من موضوعٍ إلى موضوع آخر، ثُمّ يعود إلى موضوعه الأَوّل حَسبَما يقتضيه الحال والمقام، والتنقّل ظاهرة قرآنيّة شاملة ولا سيّما في السور الطوال. مثلاً نراه يتعرّض لمسألة الطلاق والعدد في آيات (البقرة: 228 ـ 237) وينتقل إلى الترغيب في المحافظة على الصلوات والصلاة الوسطى (الآية: 238) وصلاة الخوف (الآية: 239) ويَذكر المُتوفّى عنها زوجها (الآية: 240) ثُمَّ يعود إلى ذكر المطلّقات (الآية: 241) الأمر الذي لم يكن متناسباً لو كان الكلام كتاباً، ويجوز في الخطاب، وهذا أيضاً في القرآن كثير. إذن، فلا موضع لسفاسف الأباعد من عدم الالتئام في نَظم القرآن. قال هاشم العربي ـ بشأن آية الكرسي بعد ما وَصَفها بفخامة اللفظ والمحتوى بحيث لا يوجد لها نظير في جميع القرآن ـ: إنّها بين جارتَيها (الآية السابقة عليها واللاحقة لها) كقطعة ديباج رُقّع بها ثوب كِرباس، قال: وأكثر القرآن على هذه الصفة من عدم القِران بين آياته، والانتقال توّاً من الأَوْج إلى الحضيض ومِن ذِكر الجنّة والمغفرة إلى ذِكر المحيض 7 . ﴿ ... جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ ... ﴾ 8 الرّيح مؤنّثة، وتُوصف بعَاصف وعاصفة على سواء؛ لأنّ العاصف صفة الريح لا غيرها كالحائض للمرأة، فلا تشتبه بغيرها من غير حاجة إلى التاء الفارقة. قال ابن منظور: وهي ريح عاصف وعاصفة. واستعملها القرآن على الوجهَين: ﴿ ... جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ ... ﴾ 8 . ﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً ... ﴾ 9 . ﴿ ... قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ... ﴾ زَعَم المُتعرّب المُتكلّف ـ الأجنبي عن لغة العرب ـ أنّ الحنيفيّة هي الميل عن الصراط السويّ، وقد استعملها القرآن في غير معناها الأصيل. قال: وكثيراً مّا يستعمل القرآن الألفاظ العربيّة في غير ما وُضعت له، من ذلك تعبيره عن دين إبراهيم بالحنيف يعني به القويم، لكن العرب تعني بالحَنَف الاعوجاج؛ ولذلك تُسمّي عابد الوثن حنيفاً لميله عن الدِّين القويم! وزَعَم أنّ ذلك ممّا موّهته اليهود على صاحب القرآن فلقّنته؛ ليدعو دين إبراهيم حنيفاً، تعبيراً عليه ليُفضح أمره عند العرب، فانخدع بذلك من غير دراية بمعناه العربي الأصيل 10 . يا لها مِن جَهالة عارمة تُنبؤك عن غباوةٍ فاضحة!! كيف يَنخدع نبيّ الإسلام بمفاهيم لغةٍ كان فِلْذَتها ولسان أُمّة كان من صميمها، أفهل يُعقل أن يتلاعب أُناس أباعِد ـ هم جالية المنطقة ـ بذهنيّة فحلٍ فخمٍ كان نابتة الرَّبوة العَليّة، أين العجم من أبناء إسرائيل من العرب من أبناء قريش؟! وأين الهجين من العتيق الأصيل؟! ولعلّ المُتعرّب المسكين هو الذي انخدع بتلك التهجينات المفضوحة فحَسِبها لُجّة، وما هي إلاّ سراب فارغ! كان مُنذ الجاهلية أُناس يُدعَونَ بالحُنفاء؛ حيث تنزّهوا الأدناس ورَغِبوا في الحنيفيّة البيضاء، دين إبراهيم الحنيف. اجتمعت قريش يوماً في عيدٍ لهم عند صنم كانوا يُعظّمونه وينحرون له ويعكفون عنده ويَدورون به، وكان ذلك عيداً لهم في كلّ سَنة يوماً، فَخَلُصَ منهم أربعة نفر نجيّاً 11 ، ثُمّ قال بعضهم لبعض: تصادقوا وَلِيَكْتم بعضكم على بعض، قالوا: أجل ـ وهم: ورقة بن نوفل، وعبيد اللّه بن جحش، وعثمان بن حويرث، وزيد بن عمرو، من أفذاذ قريش ـ فقال بعضهم لبعض: تَعلمون واللّه ما قومكم على شيء! لقد أخطأوا دين أبيهم إبراهيم! ما حجرٌ نطيف به، لا يسمع ولا يُبصر ولا يضرّ ولا ينفع! يا قوم، التمسوا لأنفسكم ديناً، فإنّكم واللّه ما أنتم على شيء، فتفرّقوا يَلتمسون الحنيفيّة دين إبراهيم 12 . وهؤلاء ـ وأمثالهم من غيرهم يومذاك ـ فارقوا دين قومهم واعتزلوا الوثنيّة وعبادة الأصنام وأَكل المِيتة والدم والذبائح على النُصُب وتقذّروا الفحشاء والمنكرات ووَأد البنات وما إليها من عادات جاهليّة سيّئة... وسُمّوا بالحنفاء؛ حيث إتّباعهم الحنيفيّة دين إبراهيم (عليه السلام). والحنيفيّة، مِن الحَنف هي النزاهة والقداسة إنْ فكريّاً أو عمليّاً، وِفق الفطرة الأُولى الضاحية. قال تعالى: ﴿  فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ  ﴾ 13 ، وفي الحديث: سُئل عن الحنيفيّة ؟ قال: هي الفطرة 14 . قال الراغب: الحَنف، هو مَيل عن الضلال إلى الاستقامة، والجَنَف، ميل عن الاستقامة إلى الضلال 15 ، أي ميلاً عن الحقّ في الوصاية. والحنيف، المائل إلى الاستقامة، قال تعالى: ﴿ ... قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا ... ﴾ 16 ، وقال: ﴿ ... حَنِيفًا مُسْلِمًا ... ﴾ 17 ، وجَمعه: حنفاء، قال تعالى: ﴿ ... وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ ... ﴾ 18 . قال: وتَحنّف فلانٌ أي تحرَّى طريق الاستقامة، وسمَّت العربُ كُلَّ مَن حجّ أو اختَتَن: حنيفاً؛ تنبيهاً أنّه على دين إبراهيم (عليه السلام). قال أبو زيد: الحنيف، المستقيم، وأنشد: تَـعَلَّم أنْ سَـيهدِيكُم إلينا *** طريقٌ لا يجورُ بكُم حنيفُ قال أبو عبيدة ـ اللغوي العلاّمة ـ في قوله عزّ وجل ـ: مَن كان على دين إبراهيم، فهو حنيف عند العرب. قال الأخفش: كان في الجاهليّة يقال: مَن اختتن وحجّ البيت، حنيف؛ لأنّ العرب لم تتمسّك في الجاهليّة بشيء من دين إبراهيم غير الخِتان وحجّ البيت. قال ابن عرفة: الحَنف، الاستقامة، وإنّما قيل للمائل الرجل أحنف تفاؤلاً بالاستقامة، كما يُقال للغراب أَعور وللصحراء القاحلة مَفازة. قال الزجاجي: الحنيف في الجاهليّة مَن كان يحجّ البيت ويَغتسل من الجنابة ويَختَتَن 19 . وهكذا ذَكَر الفيروز آبادي في القاموس، قال: الحَنَف ـ محرّكة ـ الاستقامة. وقد عَرفت أنّ إطلاقه على اعوجاج الرجل، كان بالعناية والمجاز تفاؤلاً، لا حقيقة. قال الجارود بن بشر من عبد قيس، وكان نصرانيّاً فأَسَلم طَوعاً: فـأَبلِغ رسولَ اللّه منّي رسالةً *** بأنّي حنيفٌ حيث كنتُ مِن الأرضِ وقال حسّان بن ثابت يُخاطب أبا سفيان: هَـجَوتَ مُحمّداً بَرّاً حـنيفاً *** أَمـينَ اللّه شِيـمَتُـه الـوفـاءُ 20 وممّا يتأيّد التطهّر من الأقذار في مفهوم (الحَنف)، أنّ العرب اليوم يستعملون لفظة (الحنفيّة) يُريدون بها فَتحة أنابيب المياه للغَسل والشُرب؛ حيث كانت وسيلة التطهير من الأوساخ، وهو امتداد القديم المعروف عندهم 21 . فيا تُرى هل كان هؤلاء العرب الأقحاح انخدعوا جميعاً مُنذ أَوّل يومهم حتّى الآن بدسائس يهوديّة هزيلة لا وزنَ لها ولا اعتبار، اللّهمّ إلاّ في ذهنيّة مُتعرّبنا المسكين!! ﴿ ... حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا ... ﴾ زَعَم المُتعرّب أنّ (اعتدى) لا يتعدّى بنفسه، وكان الصحيح أنْ يُبدّل بقوله (فلا تتعدّوها) 22 ويا ليته لم يفضح نفسه بالتدخّل في شؤون لغةٍ هو أجنبيّ عنها، قال صاحب المُنجد ـ وهو مسيحيٌّ مِثله لكنّه عارف باللغة ـ: اعتدى الحقَّ وعن الحقِّ وفوق الحقِّ: جاوزه، وكذا تعدّى الشيءَ: جاوزه، فهما بمعنىً. ﴿ ... أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا ... ﴾ قال تعالى: ﴿  فَانْطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا  ﴾ 23 . قال المُتعرِّب: والوجه استطعَماهم. قال العلاّمة البلاغي: ولعلّه تَوهّم أنّ الجملة (استطعَما أهلها) جواب (إذا)، ولم يدرِ أنّها وصفٌ للقرية (أي القرية التي استطعما أهلها...). وجواب (إذا) إنّما هو قوله تعالى في آخر الآية: ﴿ ... قَالَ لَوْ شِئْتَ ... ﴾ 23 24 . قال الإمام الرازي: التكرير قد يكون للتأكيد وهو معروف واقعٌ في اللغة كقول الشاعر: لـيتَ الغُرابَ غداةَ ينعبُ دائماً *** كان الغرابُ مُقطّعَ الأوداجِ 25 وقال أبو حيّان الغرناطي: وتكرّر لفظ (أهل) على سبيل التوكيد، وقد يظهر له فائدة عن التوكيد، وهو أنّهما حين أَتيا أهلَ القرية لمْ يأتيا جميع أهل القرية، إنّما بعضهم، فلمّا قال (استطعما...) احتُمل أنّهما لم يستَطعِما إلاّ أُولئك البعض الذين أَتياهم، فَجيء بلفظ (أهلها) ليَعمّ جميعهم وأنّهم تَتَبّعوهم واحداً واحداً بالاستطعام منهم فأَبَوا جميعاً أنْ يُضيّفوهما، ولو كان التركيب (استطعماهم) لكان عائداً على أُولئك البعض المأتيّينّ أَوّلاً فحسب، وهو خلاف المقصود 26 . ﴿ ... إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ... ﴾ قالوا: وكان الوجه أن يقول: إنّما الرِّبا مِثل البيع! لكنّهم غَفَلوا وجه هذا التشبيه؛ وذلك أنّ المُرابين زَعموا تَماثل البيع والرِّبا، فكلّ ما في الرِّبا من آثار وتَبِعات فإنّها بعينها موجودة في البيع بِلا فَرق؛ ومِن ثَمّ استغربوا أن يُحلَّل البيع ويُحرَّم الرِّبا، وقالوا: إنّما البيع مثل الرِّبا في الترابح وجَلب المنافع، فما شأن البيع يُحلَّل والرِّبا يُحرَّم؟! وقد حكى اللّه تعالى عنهم ذلك تفضيعاً لشانئتهم: ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ... ﴾ 27 . فشَنَّع عليهم قولتهم هذه؛ حيث المفاسد والآثار السيّئة التي يُعقّبها الرِّبا لا يوجد شيء منها في البيع، ومِن ثَمّ فإنّ هذا التشبيه إنّما هو من مُضاعفات تسويل الشيطان على عقولهم الغائرة 28 . ﴿ وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ ... ﴾ قالوا: وكان الجدير أنْ يقول: ومَثل الذي يَعِظ الكُفّار الذي يَنعق بما لا يَسمع إلاّ دُعاءً ونِداءً صمٌّ بكم عميٌ فهم لا يعقلون... قال المفسّرون: في الكلام تقدير، والمعنى: ومَثل الذين كفروا في دعائِك إيّاهم كمَثل الذي يَنعق البهائم... كما في قوله: ﴿ ... أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ 29 . ﴿ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ * وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ 30 . ﴿  أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ  ﴾ 31 . ﴿ ... إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ﴾ 32 . إلى غيرهُنّ من آيات تُعرِب عن فشل محاولة إرشاد مَن لا قلبَ له ولا وعيَ ولا حضورَ، وهو تائِه في غياهب الضلال، ﴿  إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ  ﴾ 33 . وإنّما لم يُصرَّح بهذا التقدير؛ تحاشياً من تشبيه الواعظ الناصح والمُرشد الكامل في وَعظِه الشافي وإرشاده الحكيم بمَن ينطق بمهملات لا معنى لها سوى التصويت والنعيق كصياح الغُراب 34 . ﴿ ... وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ﴾ قد تكرّر في القرآن أنّه نَزَل بلسانٍ عربيّ مُبين 35 وهو الظاهر البيان ميسَّر لا تعقيد فيه ولا إبهام ﴿  فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ  ﴾ 36 . هذا مع العِلم بأنّ في القرآن آيات متشابهة (مُغلقة الفهم مُبهَمة المعنى) بشهادة القرآن ذاته، حيث قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ... ﴾ 37 ، وأخيراً ﴿ ... وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ... ﴾ 37 ، أمّا عامّة الناس فإنّهم مَحرومون عن فَهم هذا اللفيف من الآيات، وأصبحت لا فائدة فيها عندهم سِوى تلاوتها جرياً على الأَلسن لا وعياً في القلوب!! 38 . لكن تعرّضنا ـ عند الكلام عن متشابهات القرآن ـ 39 للإجابة على هذا السؤال وقُلنا: مُتشابه القرآن على نوعَين: أصلي وطارئ، والطارئ ـ وهو الأكثريّة الساحقة من متشابهات القرآن ـ ما عَرَض له التشابه فيما بعد ولم يكن مُتشابهاً في أصله وعند نزوله؛ وذلك من جرّاء تضارب الآراء وتخاصم أرباب الجَدل، والذي ثار أُواره في مؤخّرة القرن الأَوّل ودام حتّى القرنَينِ الثاني والثالث، وظهرت مَذاهب ومَشارب مُتنوّعة ومُتزاحمة بعضها مع بعض في تلك الفترة غير القصيرة، كان صاحب كلّ مَذهب فكري يَعمَد إلى لفيفٍ من آيات وروايات ليؤِّولها إلى حيث مُرتآه الخاصّ ويُفسِّرها حسب رأيه؛ دَعماً لعقيدةٍ ارتآها أو دفعاً لما سلكه خصماؤه، وفي غُضون هذا التَدافع والتَخاصم كانت معالم الشريعة هي التي وقعت عُرضة الأهواء ومُتضارب الآراء، وأصبح قسمٌ كبيرٌ من بيّنات الآيات والسُنَن مُتشابهاتٍ، وقد أحاطت بها هالات من الإبهام والإجمال، فصار ما كان مُحكماً بالأمس متشابهاً، وما كان بيّناً مُستطرقاً طُرُق الظَلام، هذا هو الحَدث الجليل الذي عاد بسيّئاته إلى حوزة الشريعة الغرّاء. وهذا في أكثريّة النصوص التي تعرّضت لصفاته تعالى الجلال والجمال وشؤون الخَليقة والتدبير وما شابه. أمّا المُتشابه الأصل فهو أقلّ القليل من آياتٍ تعرّضت لمعانٍ مُستجدّة على العرب، هي ذوات مفاهيم رفيعة ومتوسّعة سِعة الآفاق، كانت القوالب اللفظيّة ـ المُوضوعة عند العرب ـ تضيق عن حَملها والإيفاد بها؛ ومِن ثَمّ جاءت في قوالب الاستعارة والتشبيه القاصرة ـ بطبيعة الحال ـ عن إفادة كمال المُراد، وهذا من قصورٍ يعود إلى القابل ولا يَمسّ شأن الفاعل، كما لا يخفى، وقد قدّمنا الكلام عن تفاصيله. أمّا ولِمَ أُودعت هذه اللُّمة من عديد آيات رفيعة المنال ضِمن نصوص القرآن الكريم وهي معروضة على العامّة لتكون بياناً للناس كافّة ؟ ﴿  هَٰذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ  ﴾ 40 . فيعود السبب إلى كونها ودائع أُودعت لدى هذه الأُمّة؛ لتكون رصيداً لها وذُخراً وفيراً في مسيرة الشريعة الأبديّة، كلّما تقدّم الزمان ظهرت منه آياتٌ بيّناتٌ لتُنير الدرب على مدى الأيّام. إنّ لهذه الآيات إشعاعات تُشعّ بأطيافها متناسبةً مع الظروف والشرائط المؤاتية في كلّ زمان، فيوماً حسب ظاهرها البدائي على حدّ تَرجمة الألفاظ، ويوماً معاني أعمق فأعمق حسبما تتعمّق العقول وتنضج الأفكار، وهذا من حِكمته تعالى حيث جَعَل من هذه الشريعة الخلود، الأمر الذي لم يَجعل القرآن ـ حتّى في مِثل هذا المُتشابه من الآيات ـ يوماً مّا في موضع حَيرة للأُمّة لا يعقلون منه شيئاً، نعم، سِوى ما كان منه يحتاج إلى تدبُّر وتعمُّق نظر ومراجعة الآيات المُحكمات وهُنّ أُمّ الكتاب (أي المرجع النهائي لحلّ المعضلات). موارد زَعَموا فيها مخالفات في عَودِ الضمير! قال تعالى: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ ... ﴾ 41 . أَتى أَوّلاً بضمير التثنية (ائتيا)، (قالتا) بصورة التأنيث، ثُمّ بضمير الجمع المُذكر السالم (طائعينَ)، وأخيراً بضمير الجمع المؤنّث السالم (فقضاهُنّ...) ؟! وهكذا قوله تعالى: ﴿  وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ  ﴾ 42 ... ﴿  ذَوَاتَا أَفْنَانٍ  ﴾ 43 ... ﴿  فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ  ﴾ 44 ... ﴿  فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ  ﴾ 45 ... ﴿  مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ  ﴾ 46 ... ﴿ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ... ﴾ 47 . ثُمّ قال: ﴿  وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ  ﴾ 48 ... ﴿  مُدْهَامَّتَانِ  ﴾ 49 ... ﴿  فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ  ﴾ 50 ... ﴿  فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ  ﴾ 51 ... ﴿  فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ  ﴾ 52 .... في كِلا الموضعَين جاء بضمير الجمع المؤنّث السالم بعد تثنية الضمير مُكرّراً! وقوله تعالى: ﴿ هَٰذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ ... ﴾ 53 . وقال ـ خطاباً لآدم وحوّاء ـ: ﴿  قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ  ﴾ 54 . وقال في موضع آخر: ﴿  فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ  ﴾ 55 . وتعقّبها بقوله: ﴿  قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ  ﴾ 56 . وقال: ﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ * قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ﴾ 57 . في كلّ هذه المواضع جاء الخطاب فيها أَوّلاً بصورة مُثنّى، ثُمّ بصورة الجمع! وهكذا في قوله تعالى: ﴿  وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ  ﴾ 58 . وقوله تعالى: ﴿  قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ  ﴾ 59 . وقوله: ﴿ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ ... ﴾ 60 . وجاء في وصف الجمع المُكسّر بجمع المؤنّث السالم: ﴿ ... فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ ... ﴾ 61 مع العِلم بأنّ مفرده (يوم) وهو مُذكّر! وقال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ ... ﴾ 62 . وقال: ﴿  وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ  ﴾ 63 . عاد ضمير التأنيث على الأسماء باعتباره جمع مُكسّر، ثُمّ عاد عليها ضمير الجمع المُذكّر، ثُمّ اسم الإشارة أيضاً بصورة الجمع المُذكّر! يُعبِّر تعالى عن الملائكة بجماعة الذُكور في غالبية تعابيره، ﴿ ... لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ 64 . ﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ... ﴾ 65 . . ﴿ وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا ... ﴾ 66 ﴿ ... وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ ... ﴾ 67 . لكن نرى أنّه تعالى قد عَبَّر عنهم بالجمع المؤنّث السالم في مواضع: جاء في سورة المرسلات: ﴿ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا * عُذْرًا أَوْ نُذْرًا ﴾ 68 . وفي سورة النازعات: ﴿  فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا  ﴾ 69 . وفي سورة الصافّات: ﴿ ... وَالصَّافَّاتِ صَفًّا * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا ﴾ 70 . * قال تعالى: ﴿  وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ  ﴾ 71 . وقال: ﴿ ... وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ... ﴾ 72 . فقد جاء بجمع التذكير، لكنّه تعالى في موضعٍ آخر قال: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ... ﴾ 73 . ﴿ ... وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ ... ﴾ 74 . وإليك بعض الكلام في ذلك: تغليب جانب ذوي العقول جرت العادة عند العرب وجرى عليها القرآن على تغليب جانب الذُكور وكذا جانب ذوي العقول إذا كانوا في الجمع. وعليه، فعَود الضمير إلى الأسماء في الآية (31 ـ 33 ـ البقرة) إنّما هو باعتبار المُسمّيات دون نفس الأسماء، وبما فيها من ذَوي العقول، غُلِّب جانبهم، فقال: ﴿ ... فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ ... ﴾ 63    75 . * * * وهكذا في قوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ ... ﴾ 62 ؛ لأنّ (كلّ دابّة) يشمل الآدميّين فغُلِّب جانبهم 76 . كما تقول: القوم مع دوابّهم مُقبلون، فمنهم مَن يُسرع ومنهم مَن يُبطئ 77 . قال الزمخشري: ولمّا كان اسم الدابّة مُوقعاً على ا