ويقول المؤرخون وأهل الحديث من غير مدرسة أهل البيت «عليهم السلام»: إن عبد الله بن سلام اليهودي لما سمع الضجة، حين قدوم رسول الله «صلى الله عليه وآله» المدينة، أسرع إليه، فلما رآه وسمع كلامه، عرف أن وجهه ليس بوجه كذاب (الإصابة ج2 ص320 عن أحمد وأصحاب السنن والإستيعاب بهامشها ج2 ص382 ومستدرك الحاكم ج3 ص13 وتلخيصه للذهبي نفس الصفحة). ويقولون أيضاً: إنه سأله حينئذٍ ثلاث مسائل لا يعلمها إلا نبي، فأجابه «صلى الله عليه وآله» عنها، فأسلم، ثم طلب من النبي «صلى الله عليه وآله» أن يسأل اليهود عنه قبل أن يعلموا بإسلامه، فسألهم عنه، فقالوا: خيرنا وابن خيرنا، وأفضلنا وابن أفضلنا، فلما علموا بإسلامه، قالوا: شرنا وابن شرنا (البخاري هامش الفتح ج7 ص212 و 213 برواية ابن سلام نفسه، والإصابة ج2 ص321، والإستيعاب بهامشها ج2 ص382.). ويقولون أيضاً: إن عبد الله بن سلام هذا هو الذي أنزل الله تعالى فيه: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ ... ﴾ (أسد الغابة في معرفة الصحابة ج3 ص176 صحيح البخاري هامش الفتح ج7 ص97 والإستيعاب هامش الإصابة ج2 ص383، والدر المنثورج4 ص69). ونزل فيه أيضاً: ﴿ ... قُلْ كَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ﴾ (الإصابة ج2 ص321، والإستيعاب بهامشه ج2 ص383، والدر المنثور ج4 ص69). إلى غير ذلك مما يقولونه في هذا الرجل مما لا مجال لذكره هنا.
ونحن نسجل هنا النقاط التالية:
أولاً: إنه عدا عن التناقض الظاهر في الروايات التي تتحدث عن كيفية إسلام ابن سلام، كما لا يخفى على من راجعها، فإننا نجد البعض يقول: إنه قد «تأخر إسلامه إلى سنة ثمان، قال قيس بن الربيع، عن عاصم، عن الشعبي، قال: أسلم عبد الله بن سلام قبل وفاة النبي «صلى الله عليه وآله» بعامين» 1 .
وقد ضعف العسقلاني هذه الرواية سنداً بقيس بن الربيع، وغلطها 2 .
ولكننا نقدر: أن مستنده في ذلك هو الروايات المتقدمة الدالة على أنه أسلم أول الهجرة.
ونحن لا نستطيع قبول ذلك منه، فإن الشعبي أقرب عهداً من العسقلاني، وقد عين لنا سنة إسلامه بشكل يدل على أنه لا يرسل الكلام على عواهنه.
ثم إنه لو كانت لابن سلام كل تلك العظمة التي أشارت إليها روايات إسلامه وغيرها، فلماذا لم نسمع عنه في تلك السنين الطويلة منذ الهجرة، وإلى سنة ثمان أي قول أو رأي، أو موقف!! مع أن التاريخ قد ذكر لنا كثيراً من مواقف صغار الصحابة ممن أسلم عام الفتح، بل وحتى الذين لم يروا النبي «صلى الله عليه وآله» إلا في طفولتهم، فكيف سكت عن هذا الرجل الخطير!! برأيهم ؟!.
أما تضعيف العسقلاني لقيس بن الربيع، فهو في غير محله، فإنه هو نفسه قد نقل توثيقه من قبل: عفان بن قيس، والثوري، وشعبة، وأبي الوليد، وابن عدي، وأثنى عليه يعقوب وعثمان ابنا أبي شيبة، وأبو حاتم، وشريك، وابن حبان، والعجلي، وأبو حصين، ويحيى بن سعيد، ومعاذ بن معاذ، وابن عيينة، وأبو نعيم وغيرهم 3 .
ولكن سر الطعن عليه من العسقلاني، أو من غيره، هو ما أشار إليه أحمد، حيث قال: «كان يتشيع، ويخطئ في الحديث» 4 .
رغم أنهم يذكرون: أن عامة رواياته مستقيمة 5 والذي يذكر هذا الطعن عليه بالتشيع هو أحمد بن حنبل، وليس ذلك غريباً عنه، فإنه عاش في زمن المتوكل الناصبي، الذي فعل بابن السكيت ما فعل، حيث أمر بأن يسل لسانه من قفاه، ففعل به ذلك فمات، لأنه لم يرض بتفضيل ولديه على الحسنين «عليهما السلام» 6 .
كما أنه قد أمر المغنين بأن يغنوا نكاية بولده المنتصر، الذي لم يرض بتنقصه لأمير المؤمنين علي «عليه السلام»:
غار الفتى لابن عمه *** رأس الفتى في حرّ أمه 7
وقد ضرب رجلاً ألف سوط، لأنه روى رواية واحدة في فضل علي «عليه السلام».
وهو الذي حرث قبر الحسين «عليه السلام» ومنع الناس من الوفود إلى زيارته 7 .
نعم، هذه هي بعض أفاعيل المتوكل، وقد كان لأحمد بن حنبل عند المتوكل هذا منزلة عظيمة، حتى إنه يدفع إليه ولده المعتز وسائر أولاده وولاة عهده ليقوم على تعليمهم 8 .
قال ابن كثير: «وكان لا يولي أحداً إلا بعد مشورة الإمام أحمد» 9 .
فبماذا استحق أحمد عند هذا الرجل الطاغية هذه المنزلة العظمى يا ترى ؟ أما نصب الحنابلة فهو موضوع آخر لا مجال للتعرض له هنا 10 .
وثانياً: بالنسبة لآية: ﴿ ... المزید وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ... ﴾ 11 ، نشير إلى ما يلي:
أ ـ لقد روي: أن هذه الآية قد نزلت في ميمون بن بنيامين، في قصة شبيهة بالقصة المنقولة عن ابن سلام تقريباً 12 .
وروي عن الزهري، ومجاهد، وابن عمر، وسعيد بن جبير، وعمر، وقتادة خلاف ذلك أيضاً، فراجع 13 .
ب ـ لقد ورد عن الشعبي، أنه قال: ما نزل في عبد الله أي ابن سلام شيء من القرآن 14 .
ج ـ قال عكرمة: «وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله: ليس بعبد الله بن سلام، هذه الآية مكية.
فيقول: من آمن من بني إسرائيل، فهو كمن آمن بالنبي «صلى الله عليه وآله»، وأقسم مسروق على مثل ما جاء عن عكرمة.
وكذلك قال الشعبي أيضاً.
وأنكر ذلك أيضاً أبو عمر استناداً إلى نفس حجة عكرمة 15 .
وجعل هذه الآية مدنية استناداً إلى رواية ابن سلام ليس له ما يبرره، بعد إنكار هؤلاء الذين هم أقرب إلى زمن النبي «صلى الله عليه وآله» لذلك وبعدما تقدم عن الشعبي وغيره.
د ـ إن ظاهر الآية هو أنها خطاب للمشركين الذين استكبروا، مع كون بعض بني إسرائيل الذين يعتمدون على أقوالهم، قد آمن، ولا يناسب أن تكون خطاباً لليهود، لأنهم هم أيضاً من بني إسرائيل، إذ كان الأنسب أن يقول لهم: «منكم».
وهذا يؤيد ما تقدم عن عكرمة، والشعبي، ومسروق، وغيرهم.
هـ ـ لقد صرح الطحاوي بأن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يصرح بنزولها في ابن سلام، وإنما مالك هو الذي استنبط ذلك 16 .
وثالثاً: بالنسبة إلى قوله تعالى: ﴿ ... وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ﴾ 17 ، نقول:
أ ـ قد تقدم أنه قد روي عن الزهري، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وابن عمر، وقتادة، وعمر ما يخالف هذا القول، الذي لم يرد إلا عن جندب، وكذا عن ابن عباس ومجاهد في إحدى الروايتين عنهما.
ب ـ قد تقدم عن الشعبي: أنه لم ينزل في ابن سلام شيء من القرآن.
ج ـ قد أنكر ذلك أيضاً كل من عكرمة، والحسن، والشعبي، ومحمد بن سيرين، وسعيد بن جبير، استناداً إلى أن السورة مكية، وإسلام ابن سلام كان بعد 18 .
د ـ إنهم يقولون: إن عمر بن الخطاب قد أسلم بعد نزول هذه الآية ؛ لأنه سمع النبي «صلى الله عليه وآله» يقرؤها مع آيات أخر في صلاته، فانتظر عمر حتى سلم، فأسرع في أثره وأسلم 19 . وإنما أسلم عمر في مكة كما هو معلوم.
هـ ـ هناك روايات متواترة تنص على أن المقصود ب ﴿ ... وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ﴾ 17 هو أمير المؤمنين علي «عليه السلام»، وأنه هو العالم بالتفسير والتأويل، والناسخ والمنسوخ، والحلال والحرام.
وهذه الروايات مروية عن أبي سعيد الخدري، وابن عباس، ومحمد بن الحنفية، والإمام محمد الباقر «عليه السلام»، والسدي، وزيد بن علي رحمه الله، والإمام موسى بن جعفر «عليه السلام»، وأبي صالح 20 .
ومن الطريف هنا ما جاء عن أبي صالح، في قوله عز وجل: ﴿ ... وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ﴾ 17 ، قال: رجل من قريش، هو علي ولكن لا نسميه 21 .
لماذا لا تسميه أيها الرجل ؟ ولماذا تكتم الحق، وأنت تعلم ؟ أليس ذلك خوفاً من الرمي بالتشيع، المساوي للرمي بالزندقة، ثم البلاء والشقاء من أعداء علي وأهل بيته، الذين كانوا هم أصحاب الملك والسلطان ؟! حتى لقد قال الشاعر:
ومتى تولى آل أحمد مسلم *** قتلوه أو وصموه بالإلحاد 22
ملاحظتان
الأولى: إننا لا نستبعد أن يكون معاوية وحزبه الذين كان ابن سلام يهتم في دعمهم وتأييد سلطانهم، قد كانوا وراء إعطاء هذه الفضيلة لعبد الله بن سلام.
ويدل على ذلك: ما روي عن قيس بن سعد بن عبادة، قال: ﴿ ... وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ﴾ 17 : علي.
قال معاوية بن أبي سفيان: هو عبد الله بن سلام.
قال سعد: أنزل الله: ﴿ ... إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾ 23 وأنزل: ﴿ أَفَمَنْ كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ ... ﴾ 24 . فالهادي من الآية الأولى، والشاهد من الآية الثانية، عليّ، لأنه نصّبه «صلى الله عليه وآله» يوم الغدير، وقال: «من كنت مولاه فعلي مولاه»، وقال: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي». فسكت معاوية، ولم يستطع أن يردها 25 .
الثانية: إن مما يلفت النظر هنا: أن نجد هذا الذي تنسب إليه فضائل أمير المؤمنين «عليه السلام»، ويدعى زوراً: أنه هو المعني بها ـ نجده ـ على الدوام من أعوان خصوم علي «عليه السلام»، ومن الممالئين لأعدائه، ولم يبايع له حينما بويع بالخلافة 26 .
ولعل هذا هو السر في الاهتمام بشأنه، وإظهاره على أنه شخصية لها شأن ومقام، وقدم، بل وفضل، في إثبات صدق النبي «صلى الله عليه وآله»، وصحة ما جاء به.
ويذكر أبو رية: أن ابن سلام هذا كان يدخل من إسرائيلياته في الإسلام 27 .
وقد كان اليهود يبغضون جبرائيل «عليه السلام»، ولعل هذا هو السر في أن عبد الله بن سلام يفسر اللهو في آية ﴿ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا ... ﴾ 28 .
فيقول: كان اللهو نظرهم إلى وجه دحية لجماله، فقد ورد: أن جبرائيل كان يأتي إلى النبي «صلى الله عليه وآله» في صورة دحية هذا 29 .
هذا، ويجب التذكير بأن بعض الخلفاء، ولا سيما عثمان، كانوا يستشيرونه في أمور هامة، فيشير عليهم بما يراه.
وقد دافع عن عثمان وهو محصور بلسانه ولكنه لم ينصره بيده 30 رغم وعده له بذلك.
وقد اعتبره المحاصرون لعثمان أنه لا يزال على يهوديته، فحاول أن ينفي ذلك عن نفسه 31 .
بل كان هو وكعب الأحبار، وغيرهما من زعماء اليهود والنصارى، الذين أظهروا الإسلام، مصدراً للكثير من المواقف الخطيرة في الدولة الإسلامية، وكانا بمثابة مستشارين للهيئة الحاكمة في كثير من الشؤون.
وبعد.. فإننا نسأل الله أن يوفقنا لنشر كتاب يرتبط بأثر أهل الكتاب في السياسة والعقائد، والتفسير، والحديث، والفقه، والتاريخ، وغير ذلك 32 .