منذ سنتين

القصر في حالتي الامن والخوف

ومن الأمور التي تساءل بعض الناس عنها هو: أن آية القصر إنما تتحدث عن إيجاب القصر بشرط خوف الفتنة من قِبَل الذين كفروا، مع أن القصر ثابت مع خوف الفتنة وبدونه. وقد حاول البعض الهروب من هذا الإشكال بدعوى: أن القصر لم يذكر في القرآن أصلاً (سنن النسائي ج3 ص117 وسنن البيهقي ج3 ص136 وسنن ابن ماجة ج1 ص339 ومجمع البيان ج5 ص136 والدر المنثور ج2 ص209 و 210 عنهم وعن عبد بن حميد، وابن حبان، وابن أبي حاتم. والإحسان في تقريب صحيح ابن حبان ج6 ص444 والمستدرك على الصحيحين ج1 ص258 والموطأ (المطبوع مع تنوير الحوالك) ج1 ص162 والمصنف للصنعاني ج2 ص518 ومسند أحمد بن حنبل ج2 ص65 و 66.). وبعض آخر: كعائشة، وسعد بن أبي وقاص، ادعوا: أن الواجب هو القصر في حال الخوف فقط، أما في حال الأمن، فكانا يتمان في السفر (راجع: الدر المنثور ج2 ص110 عن ابن جرير، وابن أبي حاتم، وعبد الرزاق، ونصب الراية ج2 ص118 و 189 ونيل الأوطار ج3 ص249 وراجع: الجامع الصحيح ج2 ص430 وعن عائشة في المصنف للصنعاني ج2 ص515 وراجع أيضا: الأم ج1 ص159.). وروي عن عائشة خلاف ذلك أيضاً (راجع: الأم ج1 ص159 وصحيح مسلم ج2 ص142 و 143 والمصنف للصنعاني ج2 ص515 والإحسان في تقريب صحيح ابن حبان ج6 ص446 و447 والدر المنثور ج2 ص210 عن بعض من تقدم وعن البخاري، ومالك، وعبد بن حميد، وأحمد، البيهقي في سننه.). وقد يحلو للبعض أن يدعي: أن القرآن قد نسخ بالسنة، حيث إن القرآن نص على القصر في حالة الخوف، ثم نسخ ذلك بقول النبي «صلى الله عليه وآله»، حيث جعله «صلى الله عليه وآله» في مطلق السفر (راجع: بهجة المحافل ج1 ص227 و 228.). إلى غير ذلك مما لا مجال لتتبعه.


إن مجرد كون القرآن قد نص على القصر في مورد خوف الفتنة، ثم جاء تعميم ذلك إلى مطلق السفر على لسان النبي «صلى الله عليه وآله»، لا يوجب اعتبار ذلك من قبيل نسخ القرآن بالسنة، إذ قد يكون القرآن قد ذكر لهم ما كان محلاً لابتلائهم، أو أورد ذلك مورد الغالب ؛ فإذا كان القرآن قد بيَّن قسماً مما يجب فيه القصر، ثم بينت السنة باقي الموارد، فليس ذلك من قبيل النسخ، بل هو إما من باب إلقاء الخصوصية، أو من باب التعميم، والتتميم، إذ ليس فيه إلغاء للحكم الثابت بالقرآن. محتويات   إتمام عثمان للصلاة في منى وعرفات الصامدون والمتزلفون معاوية والأمويون، وسنة عثمان أعذار لا تصح التقصير رخصة أم عزيمة وقد أشارت الروايات إلى ذلك أيضاً، فقد روي: أن يعلى بن أمية قال لعمر بن الخطاب: ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا، وقد أمن الناس. فقال له عمر: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله «صلى الله عليه وآله» عن ذلك ؛ فقال: صدقة تصدق الله عليكم، فاقبلوا صدقته 1 . وعن أبي العالية، قال: «سافرت إلى مكة، فكنت أصلي بين مكة والمدينة ركعتين، فلقيني قراء أهل هذه الناحية، فقالوا: كيف تصلي؟! قلت: ركعتين. قالوا: أسنة أو قرآن؟! قلت: كل ذلك سنة وقرآن. صلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» ركعتين. قالوا: إنه كان في حرب. قلت: قال الله: ﴿ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ... ﴾ 2 . وقال: ﴿ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ ... ﴾ 3 فقرأ حتى بلغ: ﴿ ... فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ ... ﴾ 4 5 . إتمام عثمان للصلاة في منى وعرفات ومن الأمور التي طعن بها الصحابة والمسلمون على عثمان بن عفان 6 : أنه أتم الصلاة بمنى وبعرفات، فخالف بذلك رسول الله «صلى الله عليه وآله»، الذي قصر الصلاة فيهما، وكذلك أبو بكر وعمر، وعثمان نفسه عدة سنوات أيام خلافته 7 . الصامدون والمتزلفون وقد كان ابن عمر بعد أن يتم خلف عثمان، يعيد صلاته بعد أن يرجع إلى بيته 8 أما ابن مسعود الذي اعترض على عثمان، لفعله ذاك، فإنه عاد فصار يصلي أربعاً، بحجة أن الخلاف شر 9 وكذلك تماماً كان من عبد الرحمن بن عوف، فإنه ناقش عثمان أولاً، ثم تابعه وعمل بعمله أخيراً 10 . ولكن علياً أمير المؤمنين «عليه السلام» وحده الذي أصر على الرفض، فقد روي عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: اعتل عثمان وهو بمنى، فأتى علي، فقيل له: صل بالناس. فقال: إن شئتم صليت لكم صلاة رسول الله «صلى الله عليه وآله»، يعني ركعتين. قالوا: لا، إلا صلاة أمير المؤمنين ـ يعني عثمان ـ أربعاً. فأبى 11 . معاوية والأمويون، وسنة عثمان ولكن معاوية حين قدم حاجاً صلى الظهر ركعتين، فجاءه مروان بن الحكم، وعمرو بن عثمان فقالا له: «ما عاب أحد ابن عمك بأقبح مما عبته به. فقال لهما: وما ذاك؟! قالا: له: ألم تعلم أنه أتم الصلاة بمكة؟ قال: فقال لهما: ويحكما، وهل كان غير ما صنعت؟ قد صليتهما مع رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ومع أبي بكر، وعمر. قالا: فإن ابن عمك قد أتمها، وإن خلافك إياه له عيب. قال: فخرج معاوية إلى العصر، فصلاها بنا أربعاً» 12 . وقال ابن عباس، بعد أن ذكر صلاة عثمان شطراً من خلافته قصراً: «ثم صلاها أربعاً، ثم أخذ بها بنو أمية» 13 . أعذار لا تصح قد ذكروا أعذاراً كثيرة للخليفة، ونحن نختار منها نموذجاً، ونحيل القارئ في الباقي إلى المصادر فنقول: 1 ـ لقد اعتذر الخليفة نفسه بأنه إنما فعل ذلك لأنه تأهل بمكة لما قدمها 14 . وقال العسقلاني: «هذا الحديث لا يصح لأنه منقطع، وفي رواته من لا يحتج به، ويرده الخ..» 15 . ويرده أيضاً: أن النبي «صلى الله عليه وآله» كان يسافر بزوجاته، ويقصر 16 . وقال العلامة الأميني: «ما المسوغ له ذلك، وقد دخل مكة محرماً؟ وكيف يشيع المنكر، ويقول: تأهلت بمكة مذ قدمت؟ ولم يكن متمتعاً بالعمرة ـ لأنه لم يكن يبيح ذلك أخذاً برأي من حرمها كما يأتي تفصيله ـ حتى يقال: إنه تأهل بين الإحرامين، بعد قضاء نسك العمرة، فهو لم يزل كان محرماً من مسجد الشجرة، حتى أحل بعد تمام النسك بمنى».. إلى أن قال: «وقد صح من طريق عثمان نفسه عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» من قوله: «لا يَنْكِحُ المحرم، ولا يُنْكِحُ، ولا يخطب» 17 . ثم ذكر «رحمه الله» نصوصاً أخرى: حول عدم جواز التزوج حال الإحرام فلتراجع 18 . هذا بالإضافة: إلى أنه لا معنى للحكم بالإتمام للمسافر إذا تزوج امرأة في بلد ما لأن المرأة هي التابعة للرجل وليس العكس. ولو كان حكم عثمان الإتمام لأنه تزوج امرأة هناك، فلماذا يتم سائر الناس الذين يأتمون به؟! ولماذا يصر على علي «عليه السلام» بالإتمام حينما أراده على الصلاة مكانه؟! ولماذا يصرون على معاوية بالعمل بسنة عثمان، ثم يستمر بنو أمية على ذلك؟! ولماذا يصلي ابن مسعود وعبد الرحمن بن عوف بأصحابه تماماً، لأن الخلاف شر؟! ولماذا؟. ولماذا؟!.. 2 ـ وثمة عذر آخر، وهو أنه إنما أتم في منى وعرفة، لأنه كان له مال بالطائف 19 . وهو اعتذار لا يصح أيضاً، لأن وجود ملك أو دار في مكة فضلاً عن الطائف لا يوجب الإتمام. وقد قصر الصحابة الذين حجوا مع رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ولم يأمرهم النبي «صلى الله عليه وآله» بالإتمام، ولا أتموا بعد رسول الله «صلى الله عليه وآله» 20 . هذا بالإضافة إلى أن الذين ائتموا به لم يكن كلهم لهم أملاك هناك. ولماذا يصر هو على علي «عليه السلام»، ويصر بنو أمية على الإتمام بعد ذلك؟! ولماذا؟! ولماذا؟! 3 ـ واعتذر أيضاً بأنه خاف أن يظن أهل اليمن والأعراب المقيمون: أن الصلاة للمقيم ركعتان 21 . ولكن هذا العذر غير مقبول أيضاً، إذ قد كان يمكن تعليم الناس على الحكم الشرعي بأسلوب آخر. كما أن هذا الفعل قد يوجب أن يظن أهل اليمن، والأعراب: أن الصلاة في السفر أربع ركعات. أضف إلى ذلك: أن رسول الله لم يفكر في تعليم الناس بهذه الطريقة، مع أنه كان يوجد في زمنه أعراب، وكان أهل اليمن يحجون في عهد أسلاف عثمان أيضاً. وقد قال رسول الله «صلى الله عليه وآله» لأهل مكة، بعد أن صلى ركعتين: «أتموا الصلاة يا أهل مكة فإنا سفر أو قال: يا أهل البلد صلوا أربعاً فإنا سفر» 22 . وروي أن عمر أيضاً كان يفعل ويقول ذلك فراجع 23 . 4 ـ إن منى أصبحت قرية وصار فيها منازل، فتأول عثمان أن القصر إنما هو في حال السفر 24 . ونقول: معنى هذا: أن عثمان كان لا يعرف حكم القصر، وأنه كان يظن أن القصر إنما يجب في حال المشي في الصحراء فقط، فإذا بلغ المسافر قرية ونزل فيها، فإنه يتم حينئذٍ، مع أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد قصر في مكة نفسها، وقد كانت مكة بلداً كبيراً ومعموراً أكثر من منى وعرفات بمراتب. 5 ـ إنه أقام بها ثلاثاً والمقيم يتم 24 . وهو عذر واه إذ إن النبي «صلى الله عليه وآله» قد أقام في مكة ما يقرب من عشرة أيام، ولم يزل يصلي فيها قصراً 25 . 6 ـ إنه كان قد نوى الإقامة بعد الحج، والاستيطان بمنى واتخاذها دار الخلافة ثم بدا له بعد ذلك 26 . وعلى حسب نص آخر: أنه قد نوى الإقامة بعد الحج 27 . والجواب عن ذلك: أولاً: ما قاله العسقلاني من أن سنده مرسل. ثانياً: إن الإقامة في مكة على المهاجرين حرام 28 . ثالثاً: ولو صح ذلك أيضاً، فلماذا يتم سائر الناس؟. ولماذا يقتدي به الأمويون؟ ولماذا يصر هو على علي «عليه السلام» بالإتمام؟! ولماذا كان قصر معاوية عيباً له، ولماذا؟ ولماذا؟! 7 ـ إن الإمام حيث نزل فهو عمله ومحل ولايته، فكأنه وطنه 29 . والأسئلة الآنفة الذكر آتية هنا. هذا بالإضافة إلى أن النبي «صلى الله عليه وآله» كان إمام الخلائق، فلماذا لم يتم؟! 30 . وقد قصر أبو بكر وعمر، وعثمان نفسه شطراً من ولايته. 8 ـ إن التقصير في السفر رخصة لا عزيمة 31 كما اعتذر به المحب الطبري. ونقول: أولاً: إن ذلك لا يصح، بسبب ورود أحاديث كثيرة دالة على أن التقصير في السفر حكم إلزامي، ولا يجزي الإتمام عنه، بل لا بد من إعادة الصلاة لو صلى تماماً في موضع القصر عمداً 32 . ثانياً: لو كان ذلك رخصة فلماذا يصر عثمان على الإتمام، حينما طلب من علي أمير المؤمنين أن يصلي بالناس؟! ولماذا يصر الأمويون بعد ذلك على العمل بسنة عثمان، وترك سنة رسول الله «صلى الله عليه وآله»؟!. ثالثاً: لماذا يصر عثمان على الإتمام في هذا المورد بالذات، دون سائر الأسفار؟. ولماذا ينكر عليه الصحابة ذلك، ويعترضون عليه فيه؟! ولماذا لم يعتذر هو بهذا العذر لهم بالذات ليسكتهم عنه؟! بل اعتذر عن ذلك بأنه رأي رآه 33 . التقصير رخصة أم عزيمة قد تخيل البعض أن القصر في السفر رخصة، ولعل منشأ فهمهم هذا هو أن الآية قد قررت ذلك بعبارة: ﴿ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا ... ﴾ 3 . قال العامري: «ظاهرها يدل على أن رخصته مشروطة بالخوف، ودلت السنة على الترخيص مطلقاً.. إلى أن قال: ثم لا يبعد أن يبيح الله الشيء في كتابه بشرط، ثم يبيحه على لسان نبيه بانحلال ذلك الشرط، الخ..» 34 . وقد قال بعض الفقهاء: بأن التقصير رخصة، فراجع 35 . ولكن هذا التخيل مردود. أولاً: للأخبار الكثيرة الدالة على أن التقصير في السفر عزيمة وليس رخصة، وكلام الرسول مفسر للقرآن، ومبين لمعناه، وقد ذكر العلامة الأميني «رحمه الله» طائفة منها 36 . ثانياً: لقد كان من الواضح: أن الكثيرين سوف لن تطيب نفوسهم بترك ركعتين من الصلاة، ويرون في هذا الأمر تضييعاً للأهداف الإلهية وتساهلاً في امتثال أوامره تعالى، فجاء التعبير بلا جناح ليدفع هذا الوهم، وليطمئنهم إلى أنه لا غضاضة عليهم، لو فعلوا ذلك، ولا نقص ولا حرج فيه 37 .