منذ سنتين

لا يمكن القول بأن القوانين الحقوقية تستند الى حقائق عينية

كما إن القوانين الحقوقية تتضمن اثبات الحق لمن له الحق، فهي كذلك تثبت، تصريحاً أو تلميحاً، واجباً او تكليفاً على الطرف الاخر، اي الذي عليه الحق. و بناءً على ذلك يمكن اعتبار جميع القوانين الحقوقية متضمنة مفهوم «التكليف» و ما اشبه ذلك. و من وجهة اخرى اننا نعلم ان امثال هذه المفاهيم قيّميّة تتباين مع المفاهيم الواقعية، لان المفاهيم الواقعية تتحدث عن امور خارجية و لها جانبها الوصفي، اما المفاهيم القيميّة فان لها صفة الامر و التكليف. و استناداً الى هاتين المقدمتين يتضح لنا بانه لا يمكن القول بأن القوانين تدل على حقائق، كما لا يمكن اعتبارها من المفاهيم الوصفية. فمثلاً القول بان: «الانسان خلق حرّاً، و له القدرة على الاختيار» لا يؤدي بنا الى استنتاج «أن الانسان يجب ان يعيش حرّاً، و أن حق الحرية ثابت لكل إنسان» و ذلك لان احد شروط صحة البرهان و الاستنتاج هو أن النتيجة لا تتضمن مفهوماً زائداً على المفاهيم التي تتألف منها المقدمات. و في الوقت الذي لا تشتمل فيه العبارات الوصفية على مفهوم «الوجوب» نجد ان التعابير التي تدل على الامر، كالصيغ الحقوقية، تتضمن مثل هذا المفهوم. و الخلاصة ان التعابير الحقوقية لا تدل على حقائق عينية، و لا يمكن استنتاجها من القضايا الوصفية التي تدل على حقائق. و عليه، لا يمكن القول: بأن القوانين الحقوقية تستند الى حقائق عينية.


و لكي يتضح الردُّ على هذه الشبهة لابد من الاشارة الى نقطتين اثنتين: الاولى: هي ان المقصود بالحقائق القائمة بذاتها، و التي هي مرتكز القواعد الحقوقية، ليس أمراً خارجيا، بل المقصود هو الصفات التي ينتزعها العقل من الاشياء و الاشخاص و العلائق بينها، كعلاقة التأثير و التأثر بين أفعال الانسان الاختيارية و النتائج المترتبة عليها ، سواء أكانت نتائج مادية و دنيوية و اجتماعية، ام نتائج نفسية و معنوية و أخروية، فهذه العلائق تعتبر من الحقائق القائمة بذاتها، و ان لم نستطع اعتبارها من «الاشياء الخارجية». فالحقائق الفلسفية و حقائق ماوراء الطبيعة، والتي ترد في مفاهيم فلسفية خاصة، تعتبر من جملة الحقائق القائمة بذاتها. و عليه، فان هناك حقيقة قائمة بذاتها في قولنا: «لابدّ من رعاية الحدود و الضوابط اذا ما اريد للنظام الاجتماعي ان يستتب»، و ذلك لان التمسك بالحدود و التعليمات هو علة استتباب النظام، و لا شك في ان وجود العلة ضروري لتحقق المعلول، تلك الضرورة التي تسمى في المصطلح الفلسفي باسم «الضرورة بالقياس» و تعتبر من الحقائق القائمة بذاتها، و ذلك لان النظام في المجتمع، في العالم العيني الخارجي، لا يتحقق من دون التقيّد بالقوانين المقررة. و أن لهذه القضية حقيقة قائمة بذاتها كالحقائق القائمة بذاتها في القضايا الطبيعية و الرياضية، مثل ضرورة وجود الماء لحياة النباتات، و ضرورة تربيع ضلع المربع للحصول على مساحته. والثانية: هي أن القضايا المنطقية فيها، بالاضافة الى الاجزاء الملفوظة، أجزاء غير ملفوظة تدل على الكيفية النسبية، و تسمى في المصطلح المنطقي «مادة القضية» والتي يمكن تبيانها على انها «جهة القضية»، بل يمكن اعتبارها ركناً من أركان القضية. فمثلاً يمكن أن نقول: «وجود الكائنات الحية على الاجرام السماوية الاخرى ممكن»، حيث دل هذا الـ«ممكن» على الكيفية النسبية بين «الكائن الحي» و «وجوده على الاجرام السماوية» و من ثم ظهر بصورة مفهوم مستقل هو «محمول القضية». يتضح لنا من خلال هاتين النقطتين ان القضايا الحقوقية تبين، في الواقع، علاقة العلية بين انواع افعال الانسان الاختيارية. فتحقق الاهداف الحقوقية و صحتها منوط باكتشاف الصيغة الكاملة لعلّتها والمعرفة الدقيقة للعناصر بالتعرف على الأجزاء و الشروط و الموانع. غير أن اكتشاف الصيغة الكاملة ليس ميسوراً دائما عن طريق المعرفة الدقيقة وذلك لكثرة العوامل و المتغيرات و انواع الصراع الموجود بين المصالح و المفاسد، الامر الذي ينشأ عنه هذا الاختلاف الكثير في وجهات النظر. و اذا ما قلنا بضرورة تضمين النظام الحقوقي في مجمل النظام القيّمي الشامل، و بالتنبّه الى الاهداف الاخلاقية، اتضحت صعوبة ذلك الاكتشاف اكثر، و بذلك يمكننا ان نصل الى النتيجة القائلة بأن عقل البشر الذي يعوزه التكامل و التجربة أضعف من أن يستطيع ان يعرض نظاما حقوقيا متكاملاً قيّمياً يحقق الكمال النهائي و السعادة الابدية. و من هنا تتضح الحاجة الماسّة الى الوحي و الحقوق الالهية. ويمكن من خلال النقطة الثانية حل مسألة «التكليف»، اذ أن القضايا الوصفية، اذا اشتملت على رابطة العلّية، تضمنت «الضرورة بالقياس» التي هي مادة القضية، و ان مفهوم ضرورة هذا التضمين لمقدمات القياس هو الذي يظهر بالنتيجة بصورة مفهوم «التكليف». إن اهمال هذه الدقائق المنطقية ادى الى ان يظن بعضهم بان استنتاج الاحكام القيمية و الحقوقية من القضايا الوصفية المستحيلة. ولابد من الانتباه الى أن استنتاج «ضرورة المعلول» يتوقف على تحقق «جميع أجزاء العلّة التامة»، بخلاف ضرورة وجود كل أجزاء العلة لتحقق المعلول. و اذا جاء في مقدمات القياس بعض العلّة التامة، فلا يمكن أن نستنتج منها ضرورة المعلول. ان المغالطات التي تنشأ من استنتاج القضايا الاخلاقية و الحقوقية من خلال القضايا العلمية، انما تحصل بسبب وضع جزء من العلّة موضع العلّة بالكامل، وهو موضوع لا يمكن بحثه في مقالة موجزة كهذه. 1 .

1