وبعد فإنهم يقولون: إن النبي «صلى الله عليه وآله» قد آخى بين سلمان وبين أبي الدرداء (الإصابة ج2 ص62). وفي نص آخر: إنه آخى بينه وبين حذيفة (طبقات ابن سعد ط ليدن ج4 قسم1 ص60.). وفي رواية ثالثه: إنه «صلى الله عليه وآله» آخى بينه وبين المقداد (نفس الرحمن ص85 عن الحسين بن حمدان). إنكار حديث المؤاخاة، والإجابة عن ذلك: أما ابن سعد، فقد قال: «أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبيه قال: أخبرنا محمد بن عمر، قال: أخبرنا محمد بن عبد الله، عن الزهري: أنهما كانا ينكران كل مؤاخاة كانت بعد بدر، ويقولان: قطعت بدر المواريث. وسلمان يومئذ في رق وإنما عتق بعد ذلك، وأول غزوة غزاها: الخندق، سنة خمس من الهجرة» (طبقات ابن سعد ط ليدن ج4 قسم1 ص65.). ولأجل ذلك: فقد عبر البلاذري هنا بقوله: «.. وقوم يقولون: آخى بين أبي الدرداء، وسلمان. وإنما أسلم سلمان فيما بين أحد والخندق. قال الواقدي: والعلماء ينكرون المؤاخاة بعد بدر، ويقولون: قطعت بدر المواريث» (أنساب الأشراف (قسم حياة النبي«صلى الله عليه وآله» ج1 ص271.). وقال ابن أبي الحديد: «قال أبو عمر: آخى رسول الله «صلى الله عليه وآله» بينه وبين أبي الدرداء، لما آخى بين المسلمين، ولا يخفى ضعفه وغرابته» (نفس الرحمن ص85 عنه).
ونقول:
إن لنا على ما تقدم ملاحظات نجملها فيما يلي:
أولاً: قولهم: إن المؤاخاة قد انقطعت بعد بدر، لا يصح، كما تقدم، فلا داعي لاستغراب هؤلاء ولا لإنكار ذلك.
ثانياً: قولهم: إن انقطاع المؤاخاة بعد بدر يلزمه عدم صحة مؤاخاة سلمان مع أحد من الناس، لا يصح كذلك؛ إذ لماذا لا يؤاخي قبل بدر بين سلمان وإن كان عبداً، وبين رجل آخر حر؟!. هذا بالإضافة إلى ما سيأتي من أن سلمان قد أسلم وتحرر في أول سني الهجرة.
ثالثاً: دعوى البلاذري: أن سلمان قد أسلم بين أحد والخندق، لا تصح أيضاً، لأنه إنما أسلم في أول الهجرة كما قلنا.
نعم.. هم يقولون: إن تحرره قد كان قبل الخندق.
فإذا كان مسلماً حين المؤاخاة، فيمكن أن يؤاخي بينه وبين أحد المسلمين، ولو كان الطرف الآخر حراً؛ لعدم الفرق بين الحر والعبد، في الإيمان والإنسانية، وغير ذلك، بنظر الإسلام..
هذا.. لو سلم أنه كان لا يزال عبداً..
رابعاً: إن الذي انقطع بعد بدر إنما هو التوارث بين الإخوة، وليس نفس المؤاخاة..
مع أننا نقول أيضاً: إن التوارث لم يكن موجوداً حتى قبل ذلك، ولعل بعض المسلمين قد توهم التوارث بين المتآخيين، فجاء الردع عنه، وتصحيح اشتباهه في ذلك، فصادف ذلك زمان حرب بدر..
فنشأ عن ذلك توهمان آخران: هما: أن التوارث كان ثابتاً.. وأن المؤاخاة تنقطع بانقطاع التوارث، وكلاهما باطل، ولا يصح..
خامساً: قولهم: إن المؤاخاة قد كانت بين سلمان وبين أبي الدرداء يقابله:
1 ـ ما روي عن إمامنا السجاد «عليه السلام»، أنه قال: «لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله، ولقد آخى رسول الله «صلى الله عليه وآله» بينهما، فما ظنكم بسائر الخلق» 1 .
2 ـ عن أبي عبد الله «عليه السلام»، أنه قال: «آخى رسول الله «صلى الله عليه وآله» بين سلمان وأبي ذر، واشترط على أبي ذر: أن لا يعصي سلمان» 2 .
3 ـ إننا نعتقد: أن مؤاخاة سلمان مع أبي ذر هي الأصح، والأوفق بما يذكرونه من أن النبي «صلى الله عليه وآله» كان يؤاخي بين كل رجل ونظيره كما تقدم.
وكان أبو ذر أكثر مشاكلة لسلمان من أبي الدرداء له؛ فإن سلمان يؤكد على أنه لا بد من الوقوف إلى جانب القرآن، إذا اقتتل القرآن والسلطان، كما أن أبا ذر قد كان له موقف عنيف من السلطة، حينما وجد أنها تسير في خط انحرافي خطير، فكان أن اتخذ جانب الحق، وأعلن إدانته للانحراف بصورة قاطعة، كما أنه هو وسلمان قد كان لهما موقف منسجم من أحداث السقيفة ونتائجها.. 3 .
أما أبو الدرداء. فقد أصبح من وعاظ السلاطين، وأعوان الحكام المتسلطين، حتى لنجد معاوية ـ كرد للجميل ـ يهتم بمدحه وتقريظه والثناء عليه 4 .
كما أن أبا الدرداء ـ حسبما تقدم ـ يكتب لسلمان يدعوه إلى الأرض المقدسة، وهي الشام بزعمه، وليس مكة، والمدينة! فاقرأ واعجب؛ فإنك ما عشت أراك الدهر عجباً.
ويكفي أن نذكر: أن يزيد بن معاوية قد مدح أبا الدرداء، وأثنى عليه 5 ، كما أن معاوية قد ولاه دمشق 6 .
بالإضافة إلى أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» ـ حسبما يروى ـ قد ذم أبا الدرداء، وقال له: إن فيك جاهلية.
قال: جاهلية كفر، أم جاهلية إسلام؟
قال: جاهلية كفر 7 .
4 ـ وإذا كان سلمان قد أسلم في أول سني الهجرة، كما سيأتي الحديث عنه في فصل مستقل، وإذا كان أبو الدرداء قد تأخر إسلامه إلى ما بعد أحد 8 .. فلماذا ترك النبي «صلى الله عليه وآله» سلمان من دون أن يؤاخي بينه وبين أحد من الناس، في هذه المدة الطويلة كلها؟!.
5 ـ وإذا أخذنا بقول الواقدي: «إن العلماء ينكرون المؤاخاة بعد بدر، ويقولون: قطعت بدر المواريث» 9 .
فإن النتيجة تكون: أن العلماء ينكرون المؤاخاة بين سلمان وأبي الدرداء، لأن أبا الدرداء قد تأخر إسلامه عن بدر كثيراً..
6 ـ وأخيراً.. فقد جاء في بعض النصوص: أنه «صلى الله عليه وآله» قد آخى بين أبي الدرداء وعوف بن مالك الأشجعي 10 ، ولعل هذا هو الأصح والأولى بالقبول..
وقد روى الكليني عن أبي عبد الله «عليه السلام» قال: آخى رسول الله «صلى الله عليه وآله» بين سلمان وأبي ذر، واشترط على أبي ذر: أن لا يعصي سلمان 11 .
وواضح أن ذلك يعني: أن طاعة أبي ذر لسلمان لم تكن: إلا لأنها توصل إلى الحق، وتؤدي إلى الاحتفاظ به، والحفاظ عليه، ولأنه يمثل الوعي الرسالي الرائد في أعلى مستوياته، ويدعم هذا الوعي ويحميه، ويرفده إيمان ثرٍ، وعقيدة راسخة، توجه الفكر والرأي والوعي، وكل الحركات نحو الهدف الأسمى، والمبدأ الأعلى، لتعيش في ظلاله، وتفنى كلها فيه بكل ما لهذه الكلمة من معنى.
فإن الإيمان عشر درجات، وسلمان كان في العاشرة، وأبو ذر في التاسعة، والمقداد في الثامنة 12 .
وإن إطاعة أبي ذر لسلمان لتعطينا: أن الميزان والمقياس في الطاعة ليس إلا ذلك الذي أشرنا إليه، واعتبره القرآن وسيلة لنيل التقوى واليقين: حين قال تعالى:
﴿ ... المزید هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ... ﴾ 13 .
و ﴿ ... إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ... ﴾ 14 .
و ﴿ ... إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ... ﴾ 15 .
إذن، فليس للعرق، ولا للون، ولا للجاه، ولا للمال، ولا غير ذلك ـ أي دور في التفاضل وإعطاء الامتيازات ـ من أي نوع كانت ولأي كان، وإنما الميزان والمقياس في كل ذلك هو التقوى والتقوى فقط، التي يدعمها الإيمان الراسخ، والفكر النير، والوعي الرسالي الرائد، ولأجل ذلك كان على أبي ذر: أن لا يعصي سلمان، الذي بلغ من العلم والمعرفة بحيث لو اطلع أبو ذر على ما في قلب سلمان لقتله 16 .
وعن الفضل: ما نشأ في الإسلام رجل من الناس كافة كان أفقه من سلمان الفارسي 17 .
ولأجل ذلك بالذات: كان لا بد من إطاعة أئمة الهدى، الذين هم القمة في العلم والمعرفة، ومن ثم في التقوى، دون غيرهم من المتغلبين الجهلة والطواغيت والجبارين 18 .