اللطف الإلهي: استدلوا على لزوم بعث الرسل بقاعدة اللطف، وبما أن هذه القاعدة تطرح دليلاً في مواضع مختلفة من المسائل الكلامية، فلابد لنا من بسط الكلام فيها بشكل عام، حتى يتبين حالها في كل مقام يستدل بها، سواء فيما له صلة ببعث الرسل أو غيره فنقول:
إن اللطف، في اصطلاح المتكلمين، يوصف بوصفين:
۱ ـ اللطف المحصّل.
٢ ـ اللطف المقرّب.
وهناك مسائل تترتب على اللطف بالمعنى الأوّل، ومسائل اُخرى تترتب على اللطف بالمعنى الثاني، وربما يؤدي عدم التمييز بين المعنيين الى خلط ما يترتب على الأوّل بما يترتب على الثاني. ولأجل الاحتراز عن ذلك نبحث كل منهما بنحو مستقل.
أ ـ اللطف المحصّل:
اللطف المحصّل عبارة عن القيام بالمبادئ والمقدمات التي يتوقف عليها تحقق غرض الخلقة، وصونها عن العبث واللغو، بحيث لولا القيام بهذه المبادئ والمقدمات من جانبه سبحانه، لصار فعله فارغاً عن الغاية، وناقض حكمته التي تستلزم التحرز عن العبث، وذلك كبيان تكاليف الإنسان، واعطائه القدرة على امتثالها.
ومن هذا الباب بعث الرسل لتبيين طريق السعادة، وتيسير سلوكها. وأن الإنسان اقصر من أن ينال المعارف الحقّة، أو يهتدي الى طريق السعادة في الحياة، بالاعتماد على عقله، والاستغناء عن التعليم السماوي، ووجوب اللطف بهذا المعنى، ليس موضع مناقشة لدى القائلين بحكمته سبحانه، وتنزيهه عن الفعل العبثي الذي اتفق عليه العقل والنقل. (لاحظ سورة الذاريات: الآية ۵۶، وسورة المؤمنون: الآية ۱۱۵)
وإنما الكلام في (اللطف المقرّب)، واليك البيان فيه.
ب: اللطف المقرّب:
اللطف المقرّب عبارة عن القيام بما يكون محصلاً لغرض التكليف بحيث لولاه لماحصل الغرض منه وذلك كالوعد، والوعيد، والترغيب والترهيب، التي تستتبع رغبة العبد الى العمل، وبعده عن المعصية.
وهذا النوع من اللطف ليس دخيلاً في تمكين العبد من الطاعة، بل هو قادر على الطاعة وترك المخالفة سواء أكان هناك وعد أم لا، فان القدرة على الإمتثال رهن التعرف على التكليف عن طريق الأنبياء ـ مضافاً الى اعطاء الطاقات المادية، والمفروض حصول هذه المبادئ والمقدمات، غير أن كثيراً من الناس لا يقومون بواجبهم بمجرد الوقوف على التكليف ما لم يكن هناك وعد ووعيد وترغيب وترهيب، فهذا النوع من اللطف قد وقع موقع النقاش بين المتكلمين.
والحق هو القول بوجوب اللطف إذا كان غرض التكليف (لا غرض الخلقة) موقوفاً عليه عند الأكثرية الساحقة من المكلفين.
مثلاً: لو فرضنا ان غالب المكلفين، لا يقومون بتكاليفهم بمجرد سماعها من الرسل ـ وان كانوا قادرين عليها ـ إلاّ إذا كانت مقرونة بالوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، وجب على المكلف القيام بذلك صوناً للتكليف عن اللغوية. ولو أهملها المكلف ترتب عليه بطلان غرضه من التكليف، وبالتالي بطلان غرضه من الخلقة.
وفي الكتاب والسنة اشارات الى هذا النوع من اللطف، يقول سبحانه: ﴿وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾. (الاعراف: ۱۶۸)
والمراد من الحسنات والسيئات، نعماء الدنيا وضراؤها وكان الهدف من إبتلائهم بهما هو رجوعهم الى الحق ويقول سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ﴾. (الأعراف: ۹۴)
وفي الآية اشارة الى كلا القسمين من اللطف، ومفاد الآية ان الله تعالى ارسل رسله لإبلاغ تكاليفه تعالى الى العباد وإرشادهم الى طريق الكمال (اللطف المحصّل)، غير ان الرفاه والرّخاء والتوغل في النعم المادية، ربما يسبب الطغيان وغفلة الإنسان عن هدف الخلقة وإجابة دعوة الأنبياء، فاقتضت حكمته تعالى أخذهم بالبأساء والضراء، لعلهم يضرعون ويبتهلون الى الله تعالى.
ولأجل ذلك نشهد أن الأنبياء لم يكتفوا باقامة الحجة والبرهان، والإتيان بالمعاجز، بل كانوا ـ مضافاً الى ذك مبشرين ومنذرين. وكان الترغيب والترهيب من شؤون رسالتهم، قال تعالى: ﴿رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾ (النساء: ۱۶۵)
وفي كلام الإمام علي عليه السلام اشارة الى هذا، قال عليه السلام:
(أيها الناس إن الله تبارك وتعالى لما خلق خلقه اراد ان يكونوا على آداب رفيعة واخلاق شريفة، فعلم انهم لم يكونوا كذلك إلا بأن يعرفهم مالهم وما عليهم، والتعريف لا يكون إلا بالأمر والنهي. والأمر والنهي لا يجتمعان إلا بالوعد والوعيد، والوعد لا يكون إلا بالترغيب، والوعيد لا يكون إلا بالترهيب، والترغيب لا يكون إلا بما تشتهيه أنفسهم وتلذه اعينهم، والترهيب لا يكون إلا بضد ذلك ... المزید) الخ (بحار الانوار ج۵، كتاب العدل والمعاد، الباب الخامس عشر، الحديث ۱۳، ص۳۱۶)
وقوله عليه السلام: (والأمر والنهي لا يجتمعان إلا بالوعد والوعيد)، إشارة الى أن إمتثال الأمر والنهي ونفوذهما في نفوس الناس يتوقف على الثواب والعقاب فلولاهما لما كان هناك حركة إيجابية نحو التكاليف إلا من العارفين الذين يعبدون الله تعالى لا رغبة ولا رهبة، بل لكونه مستحقاً للعبادة.
فتحصل من ذلك أن ماهو دخيل في تحقق الرغبة بالطاعة، والابتعاد عن المعصية، في نفوس الأكثرية الساحقة من البشر، يجب على الله سبحانه القيام به صوناً للتكليف عن اللغو، وبالتالي صوناً للخلقة عن العبث.
نعم إذا كانت هذه المبادىء كافية في تحرك الأكثرية، نحو الطاعة، ولكن القليل منهم لا يمتثلون إلا في ظروف خاصة كاليسر في الرزق، أو كثرة الرفاه، فهل هو واجب على الله سبحانه؟
الظاهر، لا، إلا من باب الجود والتفضل.
وبذلك يعلم أن اللطف المقرّب إذا كان مؤثر في رغبة الأكثرية بالطاعة وترك المعصية يجب من باب الحكمة.
وأما إذا كان مؤثراً في أحادهم المعدودين، فالقيام به من باب الفضل والكرم.
وبذلك تقف على مدى صحة ما استدل به بعضهم على اللطف في المقام، أو سقمه.
استدل القاضي عبدالجبار على وجوب اللطف بقوله: (انه تعالى كلّف المكلف، وكان غرضه بذلك تعريضه الى درجة الثواب، وعلم أن في مقدوره ما لو فعل به لاختيار عنده الواجب، واجتنب القبيح، فلا بد من أن يفعل به ذك الفعل وإلا عاد بالنقض على غرضه، وصار الحال فيه كالحال في إحدنا إذا أراد من بعض أصدقائه أن يجيبه الى طعام قد اتخذه، وعلم من حاله أنه لا يجيبه إلا إذا بعث اليه بعض أعزته من ولده او غيره فانه يجب عليه أن يبعث حتى إذا لم يفعل عاد بالنقض على غرضه. وكذلك هاهنا). (شرح الاُصول الخمسة ص۵٢۱).
وقال العلامة الحلي: (إن المكلف (بالكسر) إذا علم أن المكلف لا يطيع إلا باللطف، فلو كلفه من دونه كان ناقضاً لغرضه، كمن دعا غيره الى طعام، وهو يعلم انه لا يجيبه إلا أن يستعمل معه نوعاً من التأدب، فان لم يفعل الداعي ذلك النوع من التأدب كان ناقضاً لغرضه، فوجوب اللطف يستلزم تحصيل الغرض). (كشف المراد، الفصل الثاني، المسألة الثانية عشرة، ص۳٢۵، ط قم ۱۴۰۷)
وقال الفاضل المقداد: (انا بيّنا انه تعالى مريد للطاعة وكاره للمعصية، فاذا علم أن المكلف لا يختار الطاعة، أو لا يترك المعصية، أو لا يكون أقرب الى ذلك إلا عند فعل يفعله به، وذلك الفعل ليس فيه مشقة ولا غضاضة، فانه يجب في حكمته أن يفعله، إذا لو لم يفعله لكشف ذلك: اما عن عدم ارادته لذلك الفعل، وهو باطل لما تقدم، أو عن نقض غرضه، إذا كان مريداً له، لكن ثبت كونه مريداً له فيكون ناقضاً لغرضه.
ويجري ذلك في الشاهد مجرى من أراد حضور شخص الى وليمة، وعرف أو غلب على ظنّه أن ذلك الشخص لا يحضر إلا مع فعل يفعله، من إرسال رسول أو نوع أدب أو بشاشة او غير ذلك من الأفعال، ولا غضاضة عليه في فعل ذلك فمتى لم يفعل عدّ ناقضاً لغرضه.
ونقض الغرض باطل، لأنه نقص، والنقص عليه تعالى محال، ولأن العقلاء يعدونه سفهاً وهو ينافي الحكمة). (إرشاد الطالبين: ص٢۷۷ ـ ٢۷۸)
وهذه البيانات تدل على ان اللطف واجب من باب الحكمة.
هذا كلام القائلين بوجوب اللطف، وهو على إطلاقه غير تام، بل الحق هو التفصيل بين ما يكون مؤثراً في تحقق التكليف بشكل عام بين المكلفين، فيجب من باب الحكمة، وإلّا فيرجع الى جوده وتفضله من دون إيجاب عليه.
واستدل القائل بعدم وجوبه بقوله: (لو وجب اللطف على الله تعالى لكان لا يوجد فى العالم عاص، لأنه ما من مكلف إلا وفي مقدور الله تعالى من الالطاف ما لو فعله به لاختيار عنده الواجب واجتنب القبيح، فلما وجدنا في المكلفين من اطاع وفيهم من عصى، تبين أن الألطاف غير واجبة على الله تعالى). (شرح الاُصول الخمسة: ص۵٢۳)
يلاحظ عليه: ان كون العاصي دليلاً على عدم وجوبه، يعرف عن ان المستدل لم يقف على حقيقة اللطف، وذلك استدل بوجود العصاة على عدم وجوبه، فهو تصور أن اللطف عبارة عما لا يتخلف معه المكلف عن الإتيان بالطاعة وترك المعصية، فنتيجته كون وجود العصيان دليلاً على عدم وجوده، وعدم وجوده دليلاً على عدم وجوبه، مع أنك قد عرفت في أدلة القائلين به بأنه ما يكون مقرباً الى الطاعة ومبعداً عن المعصية من دون أن يبلغ حد الإلجاء.
يقول القاضي عبدالجبار بان العباد على قسمين، فان فيهم من يعلم الله تعالى من حاله أنه إن فعل به بعض الأفعال كان عند ذلك يختار الواجب ويتجنب القبيح، أو يكون أقرب الى ذلك. وفيهم من هو خلافه حتى إن فعل به كل ما فعل لم يختر عنده واجباً ولا اجتنب قبيحاً. (شرح الاصول الخمسة: ص۵٢۰)
ويؤيده ما ورد في الذكر الحكيم من أن هناك أناساً لا يؤمنون أبداً ولو جاءهم نبيهم بكل أنواع الآيات والمعاجز.
قال سبحانه: ﴿وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لَّا يُؤْمِنُونَ﴾. (يونس: ۱۰۱)
وقال سبحانه: ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾. (البقرة: ۱۴۵)
وفي الختام، نقول: إنّ اللطف سواء أكان المراد منه اللطف المحصّل أو اللطف المقرّب، من شوؤن الحكمة، فمن وصفه سبحانه بالحكمة والتنزّه عن اللغو والعبث، لا مناص له عن الاعتقاد بهذه القاعدة، غير أن القول بوجوب اللطف في المحصل أوضح من القول به في المقرّب.
ولكن يظهر من الشيخ المفيد أن وجوب اللطف من باب الجود والكرم، قال: (إنّ ما أوجبه أصحاب اللطف من اللطف، انما وجب من جهة الجود والكرم، لا من حيث ظنوا أن العدل أوجبه، وانه لو لم يفعل لكان ظالماً). (اوائل المقالات: ص٢۵ ـ ٢۶)
يلاحظ عليه: أن إيجابه من باب الجود والكرم يختص باللطف الراجع الى آحاد المكلفين، لا ما يرجع الى تجسيد غرض الخلقة أو غرض التكليف عند الأكثرية الساحقة من المكلفين، كما عرفت.
ثم إنّ المراد من وجوب اللطف على الله سبحانه، ليس ما يتبادر الى أذهان السطحيين من الناس، من حاكمية العباد على الله، مع أن له الحكم والفصل، بل المراد استكشاف الوجوب من أوصافه تعالى، فان أفعاله مظاهر لأوصافه تعالى، كما أن أوصافه مظاهر لذاته تبارك وتعالى.
فإذا علمنا ـ بدليل عقلي قاطع ـ انه تعالى حكيم، استتبع ذلك واستلزم العلم بأنه لطيف بعباده، حيثما يبطل غرض الخلقة أو غرض التكليف، لولا اللطف.